كمالا إسحق.. وجه الإنسان في حياة النبات
“إن الإنسان نفسه مشروع وموضوع كريستالة تمتد في داخله إلى ما لا نهاية، ويتم هذا بمعزل وبغير معزل عن الأشياء الأخرى في آن واحد وإننا لمعتقدون أن (التناقضات اللصيقة بمقولة أن الكون متناهٍ ليست بأقل من التناقضات اللصيقة بمقولة أن الكون غير متناهٍ).
وأمام هذه الأزمة تبرز الفكرة الكريستالية إذ أن الكون في حقيقته متناهٍ وغير متناهٍ في آن واحد، وأن الأشياء ذات طبيعة مزدوجة وحينما نقول مزدوجة، فإننا لا نعني أنها متناقضة، بل إننا نذهب أبعد من ذلك، ونقول إن الحقيقة نفسها ذات طبيعة مزدوجة. وحينما نقول إن الحقيقة مزدوجة فأننا لا نعني أنها متعددة، والكم البسيط لا يسع هذه المسألة، ولكن قد يسعها الكم الغائي وهو اللذة”.
في العام 1976م بجريدة الأيام، تصدَّر المقطع السابق بياناً لمجموعة من الفنانين التشكيليين، المتأثرين بشعرية وليم بليك ونظرته إلى العالم والفن. يستغرق البيان الذي اشتهر بـ”البيان الكريستالي”، أو “البللوري”، في النظر إلى قضايا تشكيلية مثل الشكل واللون والخط والجوهر والمظهر، كما شملت رؤيته الدراما واللغة والشعر.
يذكر البيان “أن الشفافية تيار أصيل لدى الشعراء وإن ما قاله الفنان والشاعر (وليم بليك) عن إنسان الرؤية الرباعية الإنسان القادر على مشاهدة عالم بأكمله في (حبة رمل) يمثل حجر زاوية في الفكر الكريستالي، كما أن الشعر الصوفي أيضاً يموج بالإشارات بواقع الكريستالة، بل إنه يذهب بالكرستالة إلى أعمق أوضاعها، والتي قد يصعب فهمها”.
ارتبطت بالبيان الكريستالي أسماء لفنانين تشكيليين (حينها كانوا طلاباً بكلية الفنون الجميلة والتطبيقية)، ويُذكَرون كلما ذُكر، وهم الموقعون في خاتمة البيان: محمد حامد شداد، نايلة الطيب طه، إضافة إلى مُحاضِرَتِهم بكلية الفنون الجميلة والتطبيقية حينئذٍ، كمالا إبراهيم إسحق.
يصف النور حمد الجوَّ الذي تشكلت فيه الكريستالية بقوله: “كلية الفنون مثلت بالنسبة للمفكرين وللمبدعين ضَوْعَةً من طيب نسائم العالم الذي كانوا يحلمون به. كانوا يرون فيها تخلقاً لكيان دالٍ على سودان مستقبلي، أكثر حرية، وأكثر إنسانية”.
كمالا إسحق المولودة بأم درمان 1939م من أوائل خريجي كلية الفنون الجميلة والتطبيقية في العام 1963 (كانت تُعرف حينها باسم القسم العالي للفنون في معهد الخرطوم الفني)؛ وتلقت دراساتها العليا بالكلية الملكية – لندن 1974 – 1966م، وانتُدبت للعمل بمتحف السودان القومي، حيث أنجزت جدارية المدخل (الاستقبال) بالاشتراك مع الدكتور موسى الخليفة، كما أسست الحركة الكريستالية مع طلابها محمد شداد ونايلة الطيب.
تهتم أعمال كمالا بالنبات في الحياة اليومية، دون التقيُّد بالنسب ولا الأشكال المعروفة، وتميل إلى حرية العمل مع التركيز على موضوع رئيس: المرأة.
وأدى اهتمامها بحياة المرأة إلى إجراء بحوث ميدانية ولوحات واسعة النطاق عن “الزار”.
وفي لندن تعرفت على الوجودية والنظريات النووية والفكر النسوي؛ كما تأثرت بأفكار الشاعر والرسام وليم بليك، وأيضا الرسام البريطاني فرانسيس بيكون.
نالت كمالا زمالة الكلية تخصص جداريات ودرست فيها لمدة عام الرسومات التوضيحية والطباعة والليثوغرافيا، وحازت على الجائزة الأولى لجناح السودان بينالي الإسكندرية.
كما رفضت قبول نموذج التراث السائد في مدرسة الخرطوم والنظرة للعالم القائمة على هوية سودانية متخيلة، منادية بفرص متكافئة للنساء للحصول على أوضاع في عالم الفن وفقا لمؤهلاتهن ومنجزاتهن.
ويقول الفنان التشكيلي الأمين محمد عثمان واصفاً الجو الذي بدأت فيه كمالا إسحق تجربتها وعلاقتها بمدرسة الخرطوم: “في معظم البلدان الإفريقية، تم إنتاج فن ما بعد الاستعمار استجابةً لما بعد الحكم الاستعماري، وكثيراً ما كان يعالج قضايا الهوية الوطنية والثقافية والعرق والإثنية. فن ما بعد الاستعمار في السودان، كانت مدرسة الخرطوم حركة فنية حداثية تشكلت في السودان عام 1960 لتطوير مفردات بصرية جديدة لتعكس الهوية المميزة للأمة المستقلة حديثا باستخدام الصور البدائية والإسلامية والكتابة الخطية”.
ويضيف: “بدأت كمالا أعمالها في أوائل الستينيات، وكانت طالبة لدى دينيس وليام الشخص الذي صاغ مصطلح (مدرسة الخرطوم)؛ لكن عملها لا يتطابق مع الشعارات ومفهوم الفنانين بعد الاستعمار؛ ومهدت طريقها الخاص بحثا عن هويتها كفنانة مؤثرة رائدة ورسامة حداثية رائدة في السودان”.
جاء في سيرة كمالا بموقع مؤسسة الشارقة للفنون، أن أعمالها تتصدَّى للمنظور الذكوري للفن في السودان، وذلك بتصويرها مشاهد من حياة المرأة بألوان مستقاة من الشمس والرمل والسماء.
تولت كمالا عام 1978م رئاسة قسم التلوين في بكلية الفنون الجميلة، وشاركت بأعمالها كجزء من معرض متجّول حمل عنوان: “كسر الحُجب: فنانات من العالم الإسلامي”، جاء برعاية الجمعية الملكية للفنون الجميلة، الأردن (2002)؛ كما عُرضت أعمالها في غاليري المعهد الفرنسي، الخرطوم (2015)؛ مركز شبرين للفنون، الخرطوم (2014)؛ متحف الشارقة للفنون، الإمارات العربية المتحدة (1995)؛ غاليري وايت تشابل، لندن (1995)؛ المتحف الوطني لفنون المرأة، واشنطن (1994)؛ مركز كامدن للفنون، لندن (1970)، وغيرها من المعارض
ويرى الفنان التشكيلي السوداني محمد حسين الفكي أن “تجربة كمالا تأثرت بأسلوب المدرسة التعبيرية مثل جوجان وفان جوخ وسيزان والفنان النرويجي إدفارد مونخ… فاتجهت للتعبير عن ما وراء تغير تعابير الوجوه والأجساد في السودان حيث سطوع الشمس وحرارتها كل يوم”؛ ويعد الفكي هذا الأسلوب من أصعب أساليب الرسم.
ويضيف الفكي أن “الأمر عند كمالا لا يقتصر على تعابير الوجه الإنساني ولكن يشمل تعابير الاخضرار والذبول عند النباتات لعلاقة أكيدة تراها بين الإنسان والنبات”.
وأعلنت مؤسسة الأمير كلاوس بهولندا في الخامس من سبتمبر الماضي ،فوز كمالا إبراهيم إسحق بجائزتها الكبرى للعام 2019؛ إضافة إلى جوائز أخرى حازت عليها نساء أو منظمات يدرنها نساء.
وتكرم جوائز الأمير كلاوس الأفراد والمنظمات ذوى الرؤى المبدعة تقديرا للعمل الممتاز والرائد في مجالات الثقافة والتنمية.
تقيم كمالا وتعمل حالياً بحي بري في الخرطوم.