ميناء كوستي النهري … تلك حياة مفعمة بالحياة
![عدسة : عثمان الجمري](/wp-content/uploads/2020/09/kosti.png)
سينتهي بك المآل دائما إلى هذه المدينة
لا تتأمل أشياءً في مكان آخر
ليس ثمة سفينة لأجلك، ليس ثمة طريق .
قسطنطين كفافي ـ المدينة
كيف ننجو من لواعج ذكرياتنا نحن أبناء المدن المستحيلة إلى رماد؟
المدن التي شهدنا وميض الحياة يخبو فيها يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام في الثلاثين العجاف التي نُهِبت من حياتها وحياتنا، يبدو أن كفافي مُحِق، لا نجاة لنا من هذه المدن التي سكنتنا شوارعها وأشجارها وأصواتها وعطورها وصرنا ممسوسين بها وعشنا معها موتها الممنهج في ظل الُشمُولية الإنقاذية الخانقة للحياة، المدن كائنات حية بطريقة ما، لم يتهيأ لي يوما إلا رؤيتها كجسد محتشد بأجساد وحيوات لانهائية، مدينة كوستي مثلها مثل أغلب مدن الوسط النيلي نمت بفضل حركة التجارة والنقل جنوباً بمينائها_ قلبها النابض بالحياة، وغرباً بوتينها الحيوي خط سكة الحديد ، صارت المدينة سرة السودان . كان مرتع طفولتي مدرسة إدريس جماع الإبتدائية بحي المرابيع المتاخم لحي السكة حديد جنوبا والميناء شرقا، والتي كان أغلب تلاميذها من أبناء عمال السكة حديد والنقل النهري، صادقت فيها (مصعب ود الصول) رفيق طفولتي الشقية، والد مصعب كان حضرة صول في شرطة الميناء وهذا ما يسر لنا كل يوم التسلل بعد نهاية اليوم الدراسي للميناء، لازلت أذكر دهشتي الأولى عندما رأيت البواخر النيلية الضخمة المكونة من عدة طوابق وصنادل الشحن وأقفاص النمور الحية المرقطة المجلوبة من أقاصي الإستوائية وكتل أشجار المهوقني والتك وجلود النمور والفحم والأفاعي الضخمة والتماسيح، وقنان عسل النحل وكراتين المانجو الإستوائية . كنا من فرط هوسنا بالميناء نعرف أسماء جميع البواخر وأسماء جميع رياسة البواخر(مفردها ريس بتشديد الياء) ونميزها بصوت صافراتها المدوي وهي تعبر كبري كوستي القديم الذي صممه الإنجليز بهندسة عبقرية تسمح له بأن ينطبق على نفسه حتى تمر البواخر الهائلة من خلاله، بواخر كنا نراها كالرواسي العائمة، كان الضجيج يعم فصلنا الدراسي عندما نسمع بوري باخرة المحلية أو ملكال أو المبروكة، كان ذلك إيذانا بفرحة ومرح لا متناهيين، وخير يغمر كل المدينة ويضخ الحياة في شرايينها التجارية، نفس هذه البهجة والحبور كانت تحدثها صافرات وابورات الكوساكي اليابانية العنيدة التي تقطرعربات قطار المشترك وقطار نيالا القادم من الغرب . كان الميناء عالمنا الموازي الذي نهرب إليه من رتابة حياة التسعينات الإنقاذية وفقر خيالها، عالم ضاج بالحيوات والقصص الأسطورية عن رحلة الباخرة الممتدة لشهر ذهابا وآخر إيابا في عرض النيل الأبيض الكبير، ضاج بقصص الحرب وأهوالها وبسالات الجنود في الجنوب المجهول ، بشر من شتى بقاع السودان ومن شتى المهن (عمال تشغيل، عتالة، ستات شاي، ميكانيكيون، جنود، نازحين من جحيم الحرب، موظفي إغاثة متأنقين … )
كل هذه الحياة الممتلئة بالحياة خَبت تدريجياً مع التجفيف المُمُنهج الذي أعَمَلته طغمة الإنقاذ على مؤسستي النقل النهري والسكة حديد، تشريدا للعمال مرات وخصخصة وبيعا وإهمالا للأصول إلى أن جاء انفصال الجنوب وكان طلقة غير رحيمة بهما .
مع بشائر عودة الحكم المدني بعد ثورتنا المظفرة، غمرت قلبي سعادة طفولية عندما سمعت بأن الحياة عادت تدب شيئا فشيئا في ميناء كوستي بعد أن استعادت لجنة التفكيك أسهم شركة النقل النهري من بطن تماسيح الكيزان، واستقرت الأوضاع السياسية في جنوب السودان نوعاً ما وبدأت مواد الإغاثة تتدفق إليه .
حكي صديقي جدو بنياب أن والده الذي كان (ريس) في النقل النهري دمعت عيناه عندما رأى استئناف العمل في الميناء من جديد، تلك دقائق لم ولن يفهمها جلاوزة الإسلام السياسي الجشعون ، فالذي يحمل الفأس لا يرى في الشجرة غير الحطب، نتمناه عهدا لا تنفطر فيه قلوب العمال ولا تدمع فيه عيون الآباء من جديد .