غوايات

رأيتُ أسلافي الفلكيين . . رأيتُ خلاصي

(1)

تفتحُ يدها، فتسيلُ عصاراتُ أزمنةٍ سحيقة، قابعةٌ في كهفِ النسيان. تنزلقُ، إذ تفتحُ يدها، مدنٌ واطئة وضئيلة هجرها ساكنوها الزرق منذ ألفِ عام ويزيد. تسيلُ وجوهٌ ساهمةٌ بلا ملامح، مجوّفةَ الأعين كمغاراتٍ خرّبتها أمطارٌ مالحة. تسيلُ مَركباتٌ مُثقلةٌ بالفراغِ تحاولُ أن ترسو على ضفةٍ مؤقتة قبل أن تجدد إبحارها العنيد مرةً أخرى إلى لا وجهة. تنزلقُ أيضا أصابعُ عروسٍ بلا حناء، ماتَ عريسها ليلة أمس.

 

(2)

كنت أنظرُ من إسطرلابٍ فانٍ وعتيقٍ لا يعمل. أرصُدُ مجرّاتٍ لم يكتشفها أحدٌ قبلي، أقمارًا تتهاوى، كواكبًا تحتضر وزخّاتِ شُهبٍ تتلاشى في أوديةِ العتمة. إسطرلابي المشوَّش ورثتهُ عن أسلافي الملاحين الفلكيين ذوي النظرات المحدقة الحمراء التي لا تخيب أبدًا لطول ما شربوا من نبيذ “استير” المعتق، والذي لم يفنى طوال قرون عديدة. رأيتُ، من خلال الزجاجِ المحطم لآلتي المعطوبة مجرّةً جديدةً تلتمع في فناء حانة أستير على بعد ألفِ سنةٍ ضوئية، ولا يجاورها سوى نيزكٍ صغيرٍ ملتهب، يشتعلُ، كعودِ كبريتٍ، وينطفئُ مرة واحدةً وإلى الأبد.

ببطءٍ وعزمٍ نقرتُ على الطاولة التي تمتدُ من كوكب بلوتو إلى بحر  إيجه، تتراصُ عليها، كلاعباتِ الباليه الماهرات، زجاجاتٌ زرقاء وحمراء وغير ملونة، مدنٌ مهجورة، واطئةٌ وضئيلة، أسواقٌ كاسدةٌ وأخرى ضاجةٌ بالباعة الجائلين، وجوهٌ منسيةٌ، غائرةٌ وبلا ملامح كجوف مغاراتٍ متهدمة، مغامرونَ أوباش، بحارةٌ ثملون وعاهرات من كل العصور. وفي منتصفِ الطاولة ترقصُ العروسُ مبتورةُ الأصابع تحاولُ أن تسترد أصابعها لتخيط كفن/كف حبيبها، همست لها عرافة مرة: “أصابعنا هشة لكنها تصنع الحياةَ والموتَ معًا”. تسيلُ عصاراتُ الأزمنة السحيقة، تقرقرُ النارجيلات كحُنجرات تَطرَبُ بحمحمةِ جرّاري الرِجال الكُردفانيين “هبطوا من مجرّة الحرب إلى الغناء، ثُم إلى مجرّة الحرب مرةً أُخرى ونسيتهم، للأبد، نساؤهم حباتُ الرّمل قبل أن يتحولن لبنات نعش” قالت العرافة.

على أطراف الطاولة/ على حوافها المشرشرة، سالت، أيضًا، مَركباتٍ  عبر الأرخبيل الطحلبي فاهتزت جنباتُ المياه وكوّرَتْ موجاتٍ ماتتْ على صدري. حين نقرتُ على الطاولةِ جاءت إستيرُ تمشي عاريةَ الصدر، تَرْبطُ في وسطها، دون إحكامٍ، منديلًا كِتانيًا بالغَ الرهافة. تحملُ بيدٍ مُتغنّجةٍ طَبلًا صغيرًا (رقصت العروس على إيقاعه المتغنج) وباليدِ الأُخرى تُمسكُ بزجاجة الإسطرلاب المعطوب.

وضعتْ كلَّ شيء في حدقة عيني اليسرى فرأيتُ أسلافي الفلكيين حتى خِلتُ أنني رأيتُ خلاصي.

 

(3)

“ها أنتَ ترى كل شيءٍ بوضوح، لا من خلال النافذة الخشبية المشققة في غرفتك الضيقة والمعزولة، لا من إسطرلابك الموروث. لكن، ها أنت ترى كل شيء وبوضوح من فرجات البصيرة حادة الزوايا، وأنت تموتُ وحيدًا في غرفتك البئيسة. رأيتَهُم يُعدِّون الطبولَ في فناءِ الساحة ذات ظهيرةٍ شتائية ملبدة بغيوم “طوبة” النادرة، رأيتَ  كواكبًا غير مكتشفة تشتهي أن تُضيء، رأيتَ كواعبَ من فردوسِ الله المُحرّم على أسلافك الزنادقة، وهنَّ بكامل زينتِهِنَ، يضعنَ حنَّاءً على أصابعهن المقطوعة، رأيتَ الرجالَ الكُردفانيين ذوي الحُنجرات الغليظة يُعدَّون للعب/ الحفل،  في ساحةٍ دائرية هائلةٍ، طبولاً هائلةً صُنِعْت من جلدِ عشرة ثيرانٍ كاملة. نَقرَ الرِجالُ بالعِصي المُدببة على الطبول/ النُقّارات، ثلاثًا ثلاثًا،  فاهتزت جَنَباتُ الحياة، وردّدَ قلبُكَ صدى النقراتِ سبعًا سبعًا. كنتَ تريدُ الحياةَ والطربَ النادر والمجون، وحين كشفتْ النساءُ عن صدورهنِّ، ورمين شعرهن الشهي في الرمل، كتمتَ صرختَك. الدائرة هائلة ولن يستطيع إسطرلابٌ، مهما يَكُن حاذقًا، أن يضبط مجالها الفوضوي المفتوح في السديم. هاهو الأفق شاهقٌ كضفةٍ لا ترسو عليها مَركبةٌ أبدًا.

– زوووم إن

-زوووم آوت.

“-هل ستفتح النافذة الخشبية ليدخل الضوء؟”. تساءلت العرّافة بمكر وعيناها تلتمعان أمام نارٍ جهنميةٍ فائقةٍ أشعلها مَردْةٌ غاضبون.

” – لو أنّ كل واحدٍ بقي في غرفته لما اشتعلت الحربُ في الشوارع”. أردُ ببطءٍ وعزم.

 

(4)

تتنهد “أستير” على حافة الكنبة الفضية المُحلاّة بقطع الزبرجد وأصدافِ البحر الملونة، والتي كنتُ جلبتها من بحر إيجه أثناء تطوافي على العالم من ثقب منظاري العتيق. جبتُ الكونَ من أقصاه إلى أقصاه دون فائدة.

إليكم القصة:

كنتُ أحملُ الإسطرلاب الملعون فوق كتفي، أتجولُ، وقد لعبت الخمرُ بأم رأسي، مثلما يقال، في أزقة الدردنيل الساحرة، حين رسوتُ على هدفي والشمسُ تؤول للغروب الأبدي. رسَتْ مَركبي ذات الأشرعة الكتانية الشفيفة الزرقاء، مُحمَّلة باللاشيء، سوى من زجاجات عتّقتها جدّاتي من نبيذٍ حبشي قديم. فتحت “أستير” باب غرفتها ونادتْ علي. كنتُ أرتدي جِبّة كُردفانية طَرّزتُها من سيور التبلدي المخضرة طوال العام والموشاة بقطن محالج الدلنج المطري طويل التيلة،  وارتديتُ قبعةً من حنقوقِ الدوم الذي لا ييبس/ لا يتمزق، عَنيتُ.

أولًا، كشفتْ عن عينٍ سحريةٍ/ رأيتُ المنظارَ يتجلى فوقَ كواكبَ بعيدةٍ ونادرة لم يرها أحدٌ قبلي.

ثانيًا، كشفتْ عن ساقٍ/ رأيتُني أطأُ أرضًا هشة، فاترة، كريحٍٍ جَمُدت لا تغوصُ فيها قدمايَ ولا تطأُ شيئا.

ثالثًا، صَمتُّ.

حين صمتُّ أرضعتني “أستير” فنارًا كاملًا من حليبِ الضوءِ الباهرِ فِكدتُ أَعمى من شدّة بصري.

 

(5)

افتحْ يدَكَ، قالت.

حين فتحتُ يدي، رأيتُ أسلافي يجرّونَ كوكبًا ميتًا، حاولوا أن يُهيلوا عليهِ تُراب السديم (نوعٌ من ضوء بحر الزبرجد المنطفئ). وكانوا يَضرِبونَ على طبولٍ كُردفانية طَمرَها التاريخُ ولم يسجّلها “بوركهارت” في دفاتره اليومية. “فقط يسجّلُ المناحاتِ والموتَ وحجارةَ الصحراء والآبارَ المالحة وطُرق القوافل غير المُعبّدة، يُسجّل النسيان”.

 

(6)

فتحتُ نافذتي.

إليكم ما رأيت:

جَبّانات قديمة تستيقظُ من موتها، بحارةٌ يجوبون الضفافَ الشاهقة وهُم يرددون أُغنيات البنات المرفَّهة وهم أشدُ ثمالة، يترنحون على أسطح المَراكب: “بستناك في البحر، محل الطير هاجر رحل. بستناك في الكبري”.” رأيتُ المراحيل يشيّدون مُدناً غابرةٍ، بلا طرقات، أو ناس حتى”، قالت العرافة من جديد.

ورأيتُ أسلافي ينتزعون قماط وجوههم ويصلّون للشمس في عيد الفطر/ لا الفصح، تحولوا كُليةً من عِبادة الأرض إلى عبادة السماء.

(7)

ناولتني “أستير” حِصّتي وقالت: “إيَّاك أن تدخل”، كنا تدافعنا، هي وأنا، على الباب. قالت: “لو علم زوجي بالأمر؛ قتلك!”. تقول لي، ونحنُ نفترش ساعدَينا على رمل البحر: “لم أكن أظنك بهذا السوء، وغدٌ، شرير”. كانت على حق. خذلتُ نساءً عديدات. قبطيات وآسيويات وفتيات زنجيات بنهودٍ مُترعة وشِفاهٍ شِبقة مُدببة. قلت لـ”مُناي” الليبية، التي خذلتُها أن أجلب لها حِناء سودانية وحذاءً من جلد الغزلان: “متى تنجبين طفلتنا الأولى”. “بعد 5 أشهر، من قال إنها بنت؟”. “قلبي يقول ذلك، وسنسميها أوركيد”. “لا، سارة”.

“قديمٌ وغير موحٍ، سمها لحبيبها بعد عشرين عام، مُناي”. “من هو؟”. “سيكون عمره 4 أو 5 اعوام. لا أحد يدري ماهي جنسيته حتى. المهم سيكون لها حبيب يحب أن يناديها أوركيد”. “سنرى”. “حتى لو لم نرى، سيكون اسمها أوركيد”. “وانت مالك؟ سمي ابنتك أوركيد”. (كان زوجها يطارد، في الأوان، بنات آوى على تخوم بحيرة تشاد، مصوبًا سَهمَهُ بلا كَللٍ نحو شواطئ المياه  القليلة الراكضة من تل قوس قزح المشدود).  “مُناي تعقلي قليلا، لا ألد البنات”. “تلد اللعنات؟”. “ذلك من حظي”. رمتْنِي بحمو النظراتِ الليبية الُمتقدة، أشعلها مَردْةٌ غاضبون، والتي شوت جسدي وقلبي وانفلتت بعيدًا.

(8)

حينَ سللتُ نَصلي والتمعَ في فضاءِ غُرفتي البئيسة والمعزولة لم يكن أحدٌ سواي هُنا،  ببطءٍ وعزم نقرتُ على طاولة مُضمَّخة بأريجِ الموت، نقرتُ على أضلاعي الهشة المتراصة من بلوتو إلى بحر إيجه إلى جبال الدلنج، قلبي الذي بدأ يضخُّ دمًا مُضمَّخًا بسيلان الرمل الكردفاني الفاتر ويكتنزُ بالطبولِ المدفونة منذ أكثر من قرنين ونصف، تلتمعُ على طاولتهِ الممتدة زجاجاتٍ فارغة مثلَ كواكب مطفأة، لاحمراء ولا زرقاء ولا غير ملونة.

كل شيء كان يصمت، للأبد، سوى أرواح أسلافي التي استمرت تَطِنّ.

المغيرة حسين

كاتب وشاعر وصحفي من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى