من دولة مسلمي السودان.. إلى دولة السودانيين
كما كان متوقعاً، فإن إعلان المبادئ بين الحكومة السودانية ممثلة في رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، وبين الحركة الشعبية لتحرير السودان ممثلة في رئيسها عبد العزيز الحلو، أثار الهراش في منصة الرأي السودانية الرئيسية “فيسبوك”، بين مؤيد ومعارض، ومن اتخذ المنزلة بين المنزلتين.
وتلزم الإشارة إلى أن إعلان المبادئ، كما وضح الحلو في حواره مع حسين سعد، هو إطار لمناقشة القضايا السياسية، بحسب اتفاقه مع الحكومة بتاريخ 18 أكتوبر العام الماضي، كما أن إعلان المبادئ نفسه بانتظار اعتماده من مؤسسات الطرفين.
وفيما يخص الإعلان نفسه، أود في البدء التأكيد على أن النص صراحة فيه على عدم جواز إقامة وتحديد دين رسمي للدولة، هو بالنسبة لي مربط الفرس في مسألة العلمانية والدينية، هذا بافتراض أن التفاوض لاحقاً سيجعل التشريعات غير مستمدة من دين محدد، ومن ثم تصبح هذه التشريعات حقاً مبنية على المساواة بين المواطنين.
وبعيداً عن الغرق في التعريفات لماهية العلمانية ووضعها مقابل الدين أو بمحاذاته، وغيرها من النقاشات التي تبتعد في رأيي عن جوهر المسألة، فإن النص على عدم وجود دين رسمي هو الضامن الحقيقي للمساواة كما أشرت. فإن كان البعض يرى أن هذا ليس العلمانية فليقبله إذن، ومن يراه العلمانية فليوضح مدى الضرر الذي سيحيق به وبدينه من هذا النص.
من ثم، أود طرح السؤال التالي على الرافضين لخطوة وضع العلمانية – بأي صيغة من الصيغ – ضمن إعلان مبادئ التفاوض بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان، سواء أكانوا الرافضين الصريحين، أم الرافضين المتسترين بحجج مختلفة مثل عدم تفويض حمدوك أو ضرورة استفتاء “جميع” السودانيين، إلى آخره من التبريرات التي أراها محاولة للإيهام بموقف متقدم يحرص على التوافق العام، لكن في حقيقتها هي تمترس خلف وعي ديني كامن.. السؤال هو: ما الذي تتمتع به كمواطن الآن وستحرمك منه علمانية الدولة؟
وبالمنطق نفسه أود طرح سؤال على نفسي كمؤيد لإبعاد الدين تماماً عن الممارسة السياسية أولاً، وإبعادة أيضاً عن مؤسسات الدولة (مثل التعليم) بأي شكل من الأشكال: ما الذي لا أتمتع به كمواطن الآن وسأحصل عليه في دولة علمانية؟
سأجيب أولاً على هذا السؤال الأخير، بأنني أرغب حقاً بالعيش في دولة يقطنها مواطنو السودان، وصممت كل مفاصلها لهذا الغرض، وليس في دولة صُممت فقط لمسلمي السودان بالأساس، وعلى غيرهم التوافق مع هذا التصميم سواء أكان مرضياً لهم أم لا.
إن ما أفتقده اليوم هو الحرية، في دولة تعرف نفسها أو ترغب في تعريف نفسها بأن دينها الرسمي – لأنه دين الغالبية – هو الإسلام، وأن لغتها الرسمية هي العربية. إن التشريعات المستقاة من الدين تضيق حريتي وتجعلني أتحرك تحت محاذير دينية محددة تمت تسميتها بالمحاذير القانونية! هي دولة لا تحمي المواطن وحقه في اجتراح أسلوب حياة مختلف تحت حماية القانون، بل تحمي القواعد الاجتماعية المبنية على الدين لفئة ما، سواء أكانت أغلبية أم لم تكن، وتلزم الآخرين بها.
أما السؤال الأول عن ما الذي تتمتع به كمواطن الآن وستحرمك منه علمانية الدولة؟ فأرجح بكثير ثقة أن الأمر لا يتعلق بحرمان الرافضين للعلمانية من شيء، بقدر ما هي الرغبة في الحجر على حرية آخرين يشاركونك الجغرافيا ذاتها، إذ يعز عليك النظر إلى من يؤمن أو من يكفر أو من يختلف دون أن تسقط عنه حقوق المواطنة، ويبطش به قانون يمثل معتقدك الديني.
في ظل تنصُّل ومراوغة الحاكمين من استحقاق الفيدرالية الكاملة، فإن النقاش حول مسألة العلمانية والدولة الدينية المخفية تحت نصوص لا تقول شيئاً محدداً، وكأنما كتبها الترابي في قبره (انظر اتفاق جوبا)؛ هو نقاش حيوي ومهم رغم إنكار البعض.
إن الفيدرالية التي تتيح لكل إقليم وضع قوانينه وتشريعاته الخاصة سواء أكانت علمانية أم دينية، هو الحل الذي ينفر منه مصاص الدماء المركزي، إذ يتبعها استقلال في القرار وحقوق في الثروات لا يحتمله مركز الدولة السودانية الذي ظل وسيظل يجيرها لمصالحه الخاصة. وإلى حين وصولنا إلى جدوى هذه الصيغة من الحكم، أو تجاهلها ليتفتت السودان دويلات؛ فإن هذا الجدال لن ينتهي.
مسألة أخرى تخص تداخل الدين والدولة، أراها مهمة ولم يتم التطرق إليه بالتفصيل رغم ورودها ضمن نقاط إعلان المبادئ المذكور، وهي مسألة إدارة التنوع، وضرورة تنقية التعليم من الكوابح التي تحول دون النجاح فيها.
إن الحق في التعليم بلغتك المحلية يمثل في رأيي واحداً من أهم المرتكزات التي تتيح لهذا التنوع الذي يحظى به السودان أن يزدهر ويصبح مصدر قوة وعاملاً للاستقرار الاجتماعي، يجب أن تصبح اللغة العربية مادة دراسية ضمن مواد المقرر المدرسي مثلها مثل الإنجليزية وليست لغةً للتعليم في المناطق التي لا تتحدثها كلغة أم، بهذا تُحفظ الخصوصيات الثقافية بالتوازي مع الحماية الدستورية للحرية، ومن ثم نتخلص من المنظور المركزي الخانق للآخرين، وهي نهاية للتعالي الثقافي المبني على اللغة والدين في مستواه القاعدي الذي لم تمسه نصوص التشريعات النظرية المتحدثة دوماً عن “احترام” الثقافات والمعتقدات… الخ.
الأمر الآخر المتعلق بمسألة التعليم هو تدريس الدين في المدارس الحكومية. إن دولة ينص دستورها أنها ليس لها دين رسمي هو مصدر التشريع مع أديان أخرى ومعتقدات؛ سيكون مفارقاً لروحها أن يتم تدريس الدين في مدارسها. الدين أمر شخصي، لا يجوز في رأيي في ظل دولة مدنية/علمانية (اختر ما شئت) فرضه على التلاميذ. لماذا تفترض الدولة مثلاً أنه لكوني من أسرة مسلمة فأنا مسلم بالضرورة ومن واجبها ترسيخ هذا الإسلام فيَّ وقتل حقي في الاختيار؟ فلتكن هناك مدارس دينية أهلية مراقبة من الدولة يذهب إليها الأهل الراغبون فيها بأبنائهم، لكن يجب أن تخلو المدارس الحكومية من هذه المادة.
أمر آخر فضحه اتفاق المبادئ، هو ما يعتري الكثيرين من نفاق وفهلوة في مسألة الدولة الدينية، فمن قبل فُرضت إسلامية الدولة ولم نسمع اعتراضاً يعلو بحجة استفتاء الشعب على مثل هذا الأمر الجلل، لكن في مسألة العلمانية لابد من استفتاء! إن من يقولون بضرورة تفويض الشعب أولاً لاتخاذ مثل هذه الخطوة، هم إسلاميون متنكرون، يخامرهم يقين ما بأن الثلاثين عاماً الماضية، أحدثت ما يكفي من تخريب للوعي الجمعي بحيث يرفض دون نقاش مجرد كلمة “علمانية”، لكن لو كان لديهم شك بأن هذا الشعب سيقبل بها، أو ربما لن يهتم بعلمانية أو غيرها، لخرجوا علينا بحجج أخرى لإبقاء مخلب الدين الخفي على عنق البلاد.
أخيراً، لا أنتظر الكثير في ما يتعلق بسلام حقيقي وليس تسكين بعض لوردات الحرب في مناصب حكومية مقابل وضع البندقية إلى حين، من السياسيين الذين تعاملوا مع الحكومة الانتقالية كغنيمة وتعويض مستحق عن “نضالات” متوهمة ضد النظام السابق، فكان أول ما فعلوه هو محاولة اختزال “النظام” في شخص البشير ورموز بارزة محدودة العدد تم وضعها خلف القضبان، للتعمية على إبقاء النظام كما هو، ووراثة هيكله بإحلال أنفسهم مكان “بعض” ربائب البشير، في انتظار إدارة الماكينة الشائخة المسماة الدولة بالوقود القديم نفسه، من أجل المكاسب نفسها إن وجدت.. لكن هذا مقال آخر.