ثمار

شعريَّة الفيضان: مقابلة خاصَّة مع أبناء نوح

(1)

إن أحلام الفيضانات لم تتوقّف عن الحدوث في نومي منذ الصغر، اتخذت أشكال الحبّ تارةً، والحياة لأجل الأمل دائمًا، وكراهية الشكوى والتذمّر. أيُّ تذمّرٍ عندما نجدُ أرواحنا تُجاهد وسط المياه، بيوتنا بذكرياتها تزدادُ جَرحًا في القلب وهي تختفي، أو ونحنُ نشاهد من يودّع نخلته ويصرخ في إثرها وهي تنهار من الجرف: (وداعًا يا نَفُّوس، لا حول ولا قوّة إلا بالله)، ويكمل كلامه بكلماتٍ نوبيّةٍ تقطر حزنًا؛ ونحن نرى ابتسامات السودانيين وهم يُنقذون الناجين، يضعون صغار الكلاب في طوفٍ، يسيرون وسط متاعهم ليجلسوا على كراسٍ طافيةٍ على المياه، أو عندما تهيج قطعان الأبقار والثيران داخل دوّامات المياه فيحاصرونها بخبرة آلاف السنين بجانب الحيوان والنبات والنهر.

(2)

صحيح أننا واجهنا ما لا يمكن أن يكون سوى الجحيم شخصيًَّا، لكننا حطّمنا أصنامه الماضية والتي لا تزال تنمو، وصحيحٌ أن نور العالم أُطفئ أثناء ذلك، فجأةً، مُعلنًا إغلاقًا هدَّامًا للنجاة من وباء شامل، وفي تلك الظلمات الحالكة تخرج العقارب من جحورها وتكتب لسعاتها المهاوي لهذه البلاد ونَاسِهَا.

في خضمّ كل ذلك، ينهمرُ الفيضان.

(3)

وبينما يغرق العالم كلّه بفضلاتِ المصانع التي ثَقَّبت طبقات السماء جميعها، يتنافسون في الشماتة على كلّ مصيرٍ يصيبُ عدوًَّا، أو كما قال معلوف: [إن جميع شعوب الأرض في مهب العاصفة بشكلٍ أو بآخر. سواء كنا أغنياء أو فقراء، مستكبرين أو خاضعين،محتلين أو تحت الاحتلال، فنحن جميعًا على متن زورقٍ متصدّع،سائرين إلى الغرق معًا.

لكننا مع ذلك لا نكفّ عن تبادل الشتائم والمشاحنة غير آبهين بتعاظم أمواج البحر.ولعلنا قادرون حتى على الترحيب بالموجة القاتلة إذا ما ابتلعت أعداءنا أولًا إبان صعودها نحونا].

(4)

رغم ذلك “يغرق” بعضنا في الشكوى والأنين من لمراهقة السياسيين، بينما شباب المدينة يلجمون تراجع ثورتهم – ثورتنا؟- في وسط كلّ هذه الكوارث المتتالية، يُقيمون الاعتصامات، يفترشون الأرض وينتظرون كذلك السماء بفيضاناتها، فيهبّون إلى البيوت، تجري في عروقهم دماء الشهداء وحبّهم الأخلاقي لبلادهم. يتفصّدون حزنًا من الداخل، ترى ذلك في عيونهم آخر الليل إن التقيتهم.إنّها عمايل من يعيشون بجانب الأنهار المقدّسة،يعرفونها وتعرفهم،صامدون مثلها، بتفرّعاتها الموسميّة والدائمة،ومثلها جوهرهم يشقُّ العالم.

(5)

قد ربّاني الشعر فأحسن تربيتي، منذ بوب مارلي وإلى أمل دنقل مرورًا بريلكه وليس انتهاءً بويتمان. الشعر الذي يُعلّمك الأرض ومعنى الحياة القصيرة بسهولةٍ ويُسر، ولا يترك لك مجالًا لاتّباع عضوٍ سوى قلبك، وفي هذا المقام نلفتُ نظرة دنقل المستقبليَّة لأبناء نوحٍ حقيقيين يعيشون بيننا اليوم،إذ قال في مقابلته الخاصّة معهم:

[جاءَ طوفان نوحْ.

ها همُ الجُبناءُ يفرّون نحو السَّفينة.

بينما كُنتُ..

كانَ شبابُ المدينةْ

يلجمونَ جوادَ المياه الجَمُوحْ

ينقلونَ المِياهَ على الكَتفين.

ويستبقونَ الزمنْ

يبتنونَ سُدود الحجارةِ

عَلَّهم يُنقذونَ مِهادَ الصِّبا والحضارة

علَّهم يُنقذونَ.. الوطنْ!

.. صاحَ بي سيدُ الفُلكِ – قبل حُلولِ

السَّكينة:

“انجِ من بلدٍ.. لمْ تعدْ فيهِ روحْ!”

قلتُ:

طوبى لمن طعِموا خُبزه..

في الزمانِ الحسنْ

وأداروا له الظَّهرَ

يوم المِحَن!

……

ولنا المجدُ – نحنُ الذينَ وقَفْنا

(وقد طَمسَ اللهُ أسماءنا!)

نتحدى الدَّمارَ..

ونأوي إلى جبلٍ لا يموت

(يسمونَه الشَّعب!)

نأبى الفرارَ..

ونأبى النُزوحْ!

(6)

ليس الفيضان سوى إشارةٍ شعريَّة قاسية، وتهويلٍ في التحدّي لشعبٍ أتى بمعجزةٍ في أزمنةٍ خَلَت من الأحلام والسحرة والأنبياء. لا أستطيع أن أُغفل كلّ الحب الرابض في قلب الكارثة وهي تَعمَلُ بكلِّ ما كوَّنها من الحب، لا أرى سوى التعاليم تُلقى على الإنسان لينجو نجاةً حقيقيّة من الأكاذيب العالميّة والتلفيق القسري لمعاني الإنسانيّة والمحبّة والحضارة والجسارة. ألخّصها بتحويرٍ لتعبير الفنان التشكيلي عبد الله محمد الطيب:

(يقولون إن الله إذا أحبَّ شعبًا ابتلاه، وقد أحبّ الله شعبنا هذا كما لم يحب شعباً على الإطلاق).

مأمون التلب

كاتب وشاعر وصحفي من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى