يحبوننا ميتين..يحبون أوجاعنا
الفيضان مثل الحرب، كارثة مكررة، فرصة لوضعنا – نحن السودانيين – في مكاننا الذي يفهمونه كلما تمردنا عليه، مكاننا الذي يريدونه، صورتنا التي يحافظون عليها: صورة الضعيف الذي هو دائماً في حاجة للمساعدة، وبجانبها صور أخرى قديمة: الكسول، الساذج الذي تغشه بكسرة خبز وتشغله بالمِنَّة كي لا يرى أنك تطعمه خبزه المسروق نفسه.
هي فرصة، فتح سوق للمزايدة علينا بجلب مساعدات من دول تأكل – حرفياً – من خيرنا المهرَّب، دول تتحكم في مياهنا، وأرضنا، وحربنا وسلمنا، ونحن مثل النعاج نساق فرحين إلى الذبح عند حوض العلف. الكوارث سوق وأنتم تجاره، تعرضون بضاعة هي أقل مما تروجون له في الصور والفيديوهات والأخبار.
لماذا تساعدوننا بالطعام والخيام؟ لماذا لا تساعدوننا لإنهاء قصة الكارثة هذه إلى الأبد؟ لماذا لا تساعدوننا في بناء سدود واقية، أو قنوات تصريف، أو غيرها من الحلول النهائية؟ ألأننا لم نطلب؟ ليس هذا السبب – أجزم – وإن طلبنا فلن يستجاب لنا، فكيف تنهون حاجتنا إليكم مرة وإلى الأبد؟
إننا بلد تحت الاحتلال، قرارنا ليس بيدنا ويجب أن نظل كذلك، وهذه الدمى المحلية التي تحركها الخيوط ليست نحن، نحن لسنا من وثبوا إلى الدفة انتهازاً، أو جيء بهم إليها. نحن لسنا هم: وكلاء كل مكانٍ سوى السودان، رعاة كل شعب سوانا.. إنهم رزيئتنا التي لا تخبو.
الفيضان مثل الحرب، كارثة يمكن حلها لولا الأصدقاء والإخوة والشياطين خلف قناع الإنسانية. السودان لا يحتاج إلى أحد، إن توقفتم عن نهشه، إن لجمتم عنه ضباعكم الأليفة، ولن تفعلوا.
نحن لسنا الضحية الشاكية المولولة ولم نكن، أنتم جعلتمونا كذلك. لا نأنف من طلب العون لكن ليس كما تشتهون، ليس بذل يرفع أسهم التاجر في مزادات الذمم.
من يصنع صورة السودان اليوم لتوافق الصورة التي حطمناها في ديسمبر: صورة المجاعة و”نداء السودان” والحرب الأهلية؟ من يريد لنا أن نعود في خياله كما يحب، فيمحو تعقيدات حدثت تنذر بافتكاكنا من قبضته اللينة؟
واجهنا الفيضانات منذ فجر تاريخها، بالجلد والصبر والتعاون ولم ننتظر دولة ليست سوى جهاز يحمل السلاح ضدنا، يتاجر بنا في دكاكين العالم، انقضت الكوارث وما زلنا هنا، فما الجديد اليوم وإن كانت الكارثة مضاعفة هذه المرة؟ من يريد إدخال ثقافة التسول والمسكنة وطلب الشفقة من الآخرين بعد أن فارقناها بعد 1988، وقاومنا فضائحها في 2013؟ مَن سماسرة البكاء منا وفينا الذين يريدون إرجاعنا إلى ما قبل ديسمبر، يريدون محو ما استعدناه من كرامة واعتداد بأنفسنا وبقدرتنا وبمكاننا في العالم؟
هناك قلوب صادقة في نيتها يهمها حالنا، فالشعوب لبعضها، والحكومات إلى الجحيم، إلا أن خطاب الضحية، وصورة المسكين هذه تغلغلت حتى وسط الدعوات النقية من الغرض، فهو خطاب مسنود بآلة إعلام لا تمتلك فيها الشعوب دوراً سوى التأثر.. لهؤلاء أقول: شكراً لكم، لم تقتلنا كوارثنا من قبل، ولن، فنحن شعوب انبعثت من تحت الرماد مرّات لا تحصى، وهذه المرة ليست استثناء.