(…..)

أخي الأكبرُ ماتَ بعدَ تسعةِ أيامٍ مِنْ ولادَتِهِ، حيثُ لم يجفْ جيدًا دمُ العقيقةِ المُهْرَقُ تحتَ شجرةِ الحرازِ ولا مشيمتُهُ التي كانتْ تُؤويِهِ، تركوا كلَّ الملابسِ المُجَهَّزَةِ له والمناشفَ والكشاكيشَ، لفوهُ بكفنٍ صغيرٍ، وبعدَ دفنِهِ دعوا اللهَ أن يكونَ سلفًا لوالديه، عندما عادوا إلى البيتِ كانَ دمُ العقيقةِ قد جفَّ تمامًا على هيئةِ خارطةٍ قانيةٍ لبلدٍ مجهولٍ، بلدٍ بلا اسم يحويهِ، مثلي تمامًا.
أختي التي تلتْ أخي ماتتْ بعدَ ثمانيةِ أيامٍ، وكأنَّها انتظرتْ أنْ تأخذَ اسمَها لتذهبَ بِهِ. كانتْ تمتصُّ الحَلَمَةَ باعتياديةٍ، ثم توقَّفتْ دونَ سببٍ واضحٍ، يبدو أن الموت أتاها دونَ علاماتٍ ولا تفاسير. تحتَ شجرةِ الحرازِ كانَ إمامُ المسجدِ يسردُ لأبي أوصافَ الجنةِ مواسيًا بأنَّهَا لبنةٌ من ذهبٍ ولبنةٌ من فضّةٍ، وملاطُها المسكُ الأذفرُ، وترابُها الزعفرانُ، وحصباؤها اللؤلؤُ والياقوتُ، بينما اكتفى البقيةُ بمصافحَتِهِ وترديدِ دعاءِ “اللهم اجعلْهَا سلفًا وعِوَضًا”.
انفضَّ العزاءُ الصغيرُ سريعاً بلا دموعٍ، الحزنُ يُرَابِضُ في الذاكرةِ المشتركةِ، لا في الفقدِ المحضِ، تفرَّقَ الرجالُ لشؤونهم بينما النسوةُ ظللنَ مع أمي لأسبوع، يردِّدْنَ “إنه القضاءُ والقدرُ” لكنّه مع فعلِ ساحرٍ وتحريضِ حاسدٍ، وكيدِ كائد. تعوَّذْنَ مِنْ شرِّ النفَّاثاتِ في العُقَد، وطفقنَ يبحثنَ عن التمائم المدسوسةِ بشقوقِ البيتِ والكُوَى والثقوبِ الصغيرةِ، ولأنَّها تمائمٌ خارقةٌ سُدَّتْ عن أعينِ المُنَقِّبِينَ، وتوارتْ داخلَ رأسِ أمِّي.
لأنَّ الحياةَ لا تكترثُ بمنْ هبطَ، صعدتِ الشموسُ تلوَ الشموسِ، وتصاعدتْ الضحكاتُ، وتضوَّعَتْ المباخرُ في البيتِ، وتصاعدَ حطبُ الطَّلْحِ مِنْ حفرةِ الدخانِ، ونَمَتْ أفرعُ شجرةِ الحرازِ قليلًا بطلْعِ النوَّارِ، وتصاعدَ صوتُ الكابلي على راديو “هنا أم درمان” يغنّي {دوارةٌ شمسُ الضحى على مَهَلْ/ في خطوِها المرصودِ يندسُّ الأَجَلْ/ لولاكَ يا محبوبُ ما كانَ الأملْ/ حسنٌ وحزنٌ واشتهاءٌ لا يُمَلْ} وفورَ نهايةِ الأغنيةِ شعرتْ أمي بأنّي أتخلَّقُ برَحِمِهَا، أَنْزَلَتِ الطعامَ من النارِ وحَلَّ قلقُها محلَّه.
أكبرُ كلَّ يومٍ وأجتازُ الأطوارَ: نطفةً فعلقةً فمضغةً وأتمدَّدُ، بينما تهرعُ أمّي للقبابِ المُزَيَّنَةِ بالأخضرِ، أسمعُ هزيمَ الطارِ والنوباتِ وأصواتَ الدراويشِ المجذوبين المُعَذَّبِينَ بالوَجْدِ، بالتوقِ العظيمِ، وبالحب الإلهيِّ المُنِيرِ. أسمعُ همهماتِ الأسحارِ النورانيّةِ ورفَّ الأعلامِ، ثم تمدُّ يدَها عالياً تنادي الصالحينَ والأقطابَ وتمسحُ بها على تكويني/على تكويرِهَا، تارةً أسمعُ صوتًا غليظًا وجافًّا يتلو علينا الرقيةَ الشرعيةَ، ويقول لها إنَّ العينَ اللامّةَ صنوُ بُعْدِ النساءِ عن العقيدةِ الحقّةِ، ثم يتعوَّذُ باللهِ من النساءِ والشياطينِ والدركِ الأسفلِ من النارِ، وتارةً أسمعُ الطلاسمَ الغامضةَ وأحسُّ بدمِ الديكِ الأسود السخينِ المذبوحِ على بطنِهَا، وتارةً تجتمعُ النسوةُ حولَ الإيقاعِ الصاخبِ والرقصِ المجنونِ يستدعينَ بشيرَ، واللوليةَ، وعيدروسَ الساكنَ عدنَ، وبلالَ الساكنَ الجبالَ، ويطرقنَ بالدفوفِ علي أبوابِ الشرقِ والغربِ وأبوابِ الريحِ، ويطلبنَ منها النزولَ، ومن ضيوفِهِنَّ العفوَ والرضاءَ والشفاءَ، على اللهِ وعليكم.
عندما اقتربَ طَلْقُها أحضرَ أبي نعجةً بدلاً من الكبش، وحضّرت أمي مخاوفَها المتناميةَ كلَّهَا لولا أن وقفَ رجلٌ مُسِنٌّ خلفَ نافذةِ المطبخِ، كأنَّهُ قادمٌ من سفرٍ بعيدٍ، لكنْ لم تزلْ عيناه بَرَّاقَةً كعيني طفلٍ، وقال لها بصوتٍ مُهَدَّجٍ: “لا تُسميهِ بأيِّ اسمٍ ولا كنيةٍ حتى يبلغَ الحُلُمَ” ثم ابتسمَ ابتسامةَ الذي سيختفي بغتةً، بعد أنْ مَدَّ لها ثلاثَ بلحاتٍ لَيِّنَاتٍ لولاهنَّ لظنَّتْ أنه حلمُ المُتَمَنِّي المُرْتَابِ. انْفَسَحَ الخبرُ حتى الربوعِ البعيدةِ كأنه ريحٌ مريحةٌ، وحتى بعدَ ولادَتِي بعشرةِ أعوامٍ كنتُ أسمعُ قصَّتِي وكأنَّها حَدَثَتْ قبلَ قليلٍ، ونموتُ وسطَ حذرِ الجميعِ من مُناداتي بأي اسمٍ ولا صفةٍ عدا بعض المتفلِّتينَ الذين يقولون لي أسماءً تعني فيما تعنيهِ أنَّنِي بلا اسمٍ، مثل (سليقة/بدون/ساده/ساي/أمفكو) لكنها تختفي سريعًا.
ياءُ النداءِ وحدَها كافيةٌ لأنتبِهَ، ياءُ النداءِ المبتورةُ، غيرُ المتبوعةِ بشيءٍ، صرتُ المُنَادَى المُعَرَّفَ بالإطلاقِ، المُضمرَ بالرغمِ مِنْ حُضوري، المُسْتَتِرَ بالرغمِ مِنْ وُجودِي. أتركُ مِن اليمينِ مسافةً خاليةً لاسمي الذي سيكون، مُتبعَهَا باسمِ أبي الذي تُوفِّيَ وخَلُد معي اسمُه، ثم أتركُ المسافةَ منَ الشِّمَالِ في دفترِ اللغةِ الإنجليزيةِ، أنا الغائبُ في كلِّ اللغاتِ والصفاتِ الكونيّة، عندما تنادي الأستاذةُ اسمي مُمازِحَةً Hey Mr Absent أنتبهُ إليها، إلى شفتيها، إلى تضاريسِ صدرِهَا، ثم في مرةٍ انحسرَ الثوبُ عنها فَفِضْتُ بِهَا، وفي أحلامي كانَ ينحسرُ أكثرَ فأفيضُ حتى اللحظةِ الراعشةِ اللذيذةِ التي ما إنْ بَلَّلَتْ سروالي عَرفتُ أنني استحققتُ اسمًا بعد كلِّ تلكَ السنواتِ التي فُتِنْتُ فيها بأسماءٍ كثيرةٍ لأنبياءَ وفضلاءَ وثوارٍ ومُغَنِّيينَ وشعراءَ وممثلين، أخيرًا سَأُسَمَّى، وكنتُ أتمنَّي أن تسميني أمي، لولا أنْ تخطَّفَتْهَا حُمَّى السحائي قبلَ أشهر.
كتمتُ سِرَّ بلوغي لأشهر؛ لأختارَ من الدفاترِ الكثيرةِ التي دونت فيها الأسماء جميعها، لكن صوتي بدأ يفضحُني، ثم بدأَ حماسُ أهلِ الحيِّ في التصاعدِ لإكمالِ قصَّتِهم/قصَّتِي المعلقةِ، الناسُ تحرِّقُهم القصصُ الناقصةُ، اسمي ختامٌ وموتي ختامٌ، والحصادُ ختامٌ، ولكلِّ مبتدأ مُنْتَهَى، لكلِّ شيءٍ دورةٌ، ولكلِّ خريفٍ سِماك، ولكلِّ صيفٍ ذِراع، ولكلٍّ شتاءٍ نعائم. آثرتُ عدمَ الخروجِ؛ لكثرةِ السؤالِ والإلحاحِ، فأصبحتُ لا أجيبُ على منادٍ، ولا أشرعُ بابي لطارقٍ، أريدُ اسمًا بشدَّةٍ؛ حتى أتعبَ من التحديقِ في الدفاترِ، ثم لا أريد.
أنتخبُ أسماءً بسرعةٍ، ثم أسقطُها، حتى جُهِدَ عقلي، رفعتُ بصري للسماءِ، وعندما أنزلتُه تعثَّرَ برجلٍ متبسمٍ يجلسُ تحت شجرةِ الحرازة، قال: ما يضيرُكَ لو أنَّ اسمَكَ اسمُك أو اسمَك ضدُّه، التعريفُ قيدٌ وتكليفٌ يا (يا)، كُن النداءَ لا المُنَادَى تكُن الأسماءَ كلَّها، كُن البلدَ القاني المجهولَ تكن الجهاتِ كلَّهَا، الأبوابُ كلُّها الشرقُ والغربُ والريحُ والمواسمُ هل تريدُ؟ أومأتُ برأسي كثيرًا، ثم بسطَ كفَّهُ بثلاثِ تمراتٍ، أخذتُها وبدأنَا نتسامَى فوقَ شجرةِ الحراز، فوقَ التمائمِ والطلاسمِ، فوقَ القِبَابِ والراياتِ جميعِهَا، فوقَ حَذَرِ المُرْتَابِين من الذنوبِ، فوقَ بلال الساكنِ الجبالَ، حتى أصبحت المعالمُ بلا أسماء، بلا حدودٍ فاصلةٍ، بلا فوارقَ واضحةٍ، ثمَّ أشارَ بالوصولِ.