غوايات

تسع وتسعون جثة

أحد عشر لاعباً كانوا يرتدون قمصان فريق أكوبام، في طريقهم للميدان برابطة الديوم الجنوبية، لم يعودوا لمنازلهم. وُجدوا هنالك في مدينة عصب، حيث لم تكن معركة بادمي الدامية سوى تمرين خفيف، ليُكرروا ميتاتهم غير  المنتهية.

**

عند أسفل الوادي على حواف المدينة الشبحية، تلفظُ الأرضْ أنفاسًا حارة و تتحرك الحِمم تحت أقدام لاعبي الحياة و الموت. اللاعب رقم واحد، كان حارس مرمى و اسمه مجهول، ألقى قُفّازه و هو يُحيي العميد صالح عثمان قائد الكتيبة المنتحرة التي رفضت الانسحاب، ظهر من التل كشبح و في يده قنبلة قرانيت و عندما اعتلى المجنزرة التي أمامه، لم يكن الدوي أقل عنفًا من براكين عفار لذلك لم تكن هناك قدرة على وقف تلك الحمم التي ذوبت الدبابة.

**

ثمة أغنية تتردد، و لم يكن صوت إذاعة مونتي كارلو يصل الساحل الآخر حيث جبهة القتال، و تبدأ أغنيات – يا منارة الجنوب، لأجل عينيك الحزينتين-  و فجأة ينساب الصوت كنهر القاش شاقًا سرية الطور سراويت ببندقيته التي تتحرك كعصاة مايسترو بخفة، عندما توقف تنفسه كان صدره يضج مثل نقارة قديمة مدفونة في نقفة، هذا الصوت الذي ابتلعته وديان عفر ما زالت فتيات جبهة التحرير يسمعنه، كان رقيقًا كطلب زواج من ريتا.

**

كانت الرُصاصات تمرر ككرة قدم بسرعة و بخفة فصارت الأرض ثقيلة على أقدام الجنود، لأن طين عصب الحار قبضها، لذلك خلع الهاربون من المعركة أحذيتهم، ودوا لو خلعوا حتى أقدامهم المتصلبة من الخوف فقد صاروا هدفًا للقناصة الذين وجهوا رصاصتهم بين الأعين.

**

من الأفق الرمادي للتلال تدلت فروع تخص جدتيه في السودان و إريتريا، وقف عليها طائر الجنة الصغير، ثم طار . لم تكن المرة الأولى التي يظهر فيها، فالسجناء في ” بلاسينا – سجن الإمبراطور، كانوا يستيقظون على ضجيجه، و ها هو هامد الآن صامتٌ تمامًا، كما لو لم يكن يحتفل بهدف، في الماضي على نادي النيل.

**

قام أحد عشر شخصًا برفض أوامر الانسحاب، واجهوا مصيرًا محتومًا، و لم تكن هذه المرة الأولى التي يموتون فيها، على قوارب متهالكة بالقرب من جزيرة لامبيدوزا الإيطالية ماتوا أيضا، في سجن نائي ماتوا وقوفًا يلعنون الديكتاتور، في قارورة وجدت شظاياهم، لمحوهم مع الكتيبة التي تمردت بحامية كسلا، خرجوا من حقول القطن في طوكر مرهقين بالبياض الدامس للوردة، و في مصر بشقق الفيصلية كانوا راقدين في نومة أخرى و أعضاؤهم بالخارج. حكوا أيضًا عن أحد عشر شخصًا خرجوا من الديوم الجنوبية من بورتسودان و لم يعودوا. ما يميزهم هو تلك الأغنية التي ترددت بلهجة التقراي، و لم يكن ثمة ترجمة باللغة العربية، كانت تحكي عن أنه إذا ظهر أحد عشر شخصًا دفعة واحدة، يُكتب النصر .

***

تسعٌ و تسعون جُثة خرجت من بئر النطرون، كل واحدة تجرُّ الثانية بيد، خرج مقاتلوا الكبابيش القتلى كالسبحة، كل خرزة تمرّ بيد الشيخ الأعظم، و يخرجُ منها مُقاتل، يدوس بقدمٍ جافة أرض بيكربونات الصوديوم اللامعة مُصدرًا صوت التّكسُر المُخيف.

كان ذلك بعد سنين طويلة، من عبور سفنهم لدنقلا، السنين التي أحضروا فيها مخلاياتهم نبتة الصحراء، حيث تقهقروا بسفنهم جنوبًا بسبب الحروب التي خاضوها، ثم أطلقوا هيفاتهم في الرمال، هكذا يأتي العرب كالرياح.

عندما وصلت السفن الشراعية العظيمة، أحرقوها و خاضوا في كنجرت إحدى أعظم المعارك، قاتلت معهم الجموعية، حيث سيطروا بعدها على الصحراء العظمى و آبار النطرون.

حملوا ذلك الوسم المرعب، تميمةً حملوها من جُزر السحرة في دنقلا العجوز، تميمةُ أبدية مخيفة، مقابل أن تؤخذ قلوبهم؛ عندما أُخذت جثة قائدهم و مُثل بها، فزِعّ الأعداء من ذلك الجوف الفارغ، لم يكن ثمة شيء في قفصه الصدري، و لا حتى قصعة لحم.

كان جنود الأتراك غاضبين من المحرقة و يضرمون النار في الجميع، لكن المقاتلين المخلوقين من الرمل لم يعيروا رصاصات الدفتردار اهتماما، و ظنتهم الكتل اللحمية الحمراء العابرة أشجارًا.

واجهوا شياطين التعايشي التي تركب أحصنة سوداء، و اشتبكوا معهم، رأى الجهادية بأم أعينهم الرصاص يغوص في أجساد أعدائهم و لا يخرج، جربوا البول على البنادق لكي يبطلوا ذلك السحر، و سرعان ما اختفى الملثمين.

أطلقوا عليهم اسم تيراب البنية، على اسم الفتاة التي قذفوها في مسنن البندقية و اخترقها، خرجت من ظهرها عبر بطنها، بينما ظلت تضحك، و ركضت بالسونكي، حيث أصيبوا بالشلل التام.

في أمدرمان، جاء الجنود بقصصهم المهزومة أخبرهم العجوز الذي يستخدم الكجور، بأن ينسوا البُذور المُلقاة في الصحاري فتلك السُلالة ملعونة، تحمي الجبة الزرقاء لشيخ الصحراء، و لا مناص إلا بإلقائهم في الآبار، لكن الخليفة أصرّ على جمع التيراب و أن يصلّه في صُرّة قماش.

خاضت الجهادية الرمال ليصلوا للكتيبة الأولى لشيخ النوراب، عددهم ثلاثة و ثلاثون و اسمهم كتيبة سبحان الله، يحملون سياطًا نارية و ملثمين، مهمتهم حراسة الصحراء الجنوبية، يعرفهم الحجاج المارون بآبار المياه بإسمهم الوارد، و يرفعون عقيرتهم بالتسبيح ليمروا.

تتوقف الرياح الشمالية الشرقية عن الحركة، و تصير الأشجار ثابتة، كلحظة قبل حريق، تملأ الرطوبة الجو، و تعطن الأجساد الرابضة في وديان قرى حمرة الشيخ، يصبح إستنشاق الهواء مهمة صعبة، يضع أمير الحجاج أوانيه التي تحمل ماء زمزم كهدية أمام بئر الدخول، و عندما يصل الصحراء الشرقية، يغيرون تسبيحهم للحمدلله، حتى وصولهم لدرب الأربعين تتغير النغمة، و بذلك يأمنون شر الأفاعي المُضللة، و الرياح، و تيراب البنية.

 جاءت الجهادية كمياه النيل الداكنة، يقودهم القائد السابق في جيوش الزبير باشا رحمة، و في المقدمة شيخ الكجور، في أعلى التلال الرملية ظهر مقاتلو ترّب البنية، يابسين كأشجار الهشاب، يحملون سياطًا نارية، ملثمين تتناثر من وجوههم الرمال، و يتخلل الهواء المارّ أقدامهم مصدرًا صريرًا مرعبًا.

أعمّل الكجوري يديه في السماء، فتقاطرت سحب جنوبية، سحب كان يحملها من أمدرمان في جرة، و نفثها في الهواء، تعطن الجو و ثبتت الأرض تحت أقدام أحصنة الخليفة السوداء، من التلال الرملية بدأت تتعالى أصوات السياط و هي تضرب الهواء، تخلخل السُحب لكي لا تتبلل الصحراء، و لكن الطرفة البكاية بدأت بالهطول من السماء، و أظلمت الأرض.

في الصباح بدأ جنود الخليفة بالتمثيل بجثث المقاتليين، صنع أحد الجهادية شقًا في صدر عدوه، و من بين ذلك الشق أبصر ذلك الخواء، لم يكن ثمة هناك قلب، أمرهم الكجوري بربط الصحراويين بالصخور و رميهم في الآبار.

بعد أيام استيقظت لعنة الصحراء، فالبئر التي باتو بداخلها، هي وتد تمسك الصحراء، و يلهج بإسمها الجميع.

تسع و تسعون جثة، خرجت من بئر النطرون، كل واحدة تجر الثانية، البذور الصحراوية يكررون بإنتظام بلهجتهم العربية الخاصة كلمتي إنتقام و ما يمكن وصفه بنهاية فصل في مسرح الصحراء، و بداية موت الضأن في أمدبيكرات، من تحت سجادة الخليفة عبدالله التعايشي و من مخلايته التي يحملها، كانت البذور الصحراوية تغرس جذورها بين أقدام الرجل المستسلم. الكتيبة الأمامية لكتشنر، كانت من الرجال الجُوّف، كتائب الله أكبر.

أيمن هاشم

كاتب من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى