ثمار

الأنثروبولوجيا البريطانية وتأثيرها على النظام السياسي للمستعمرات

تمهيد :

مما لا شك فيه أن واقع العلوم الاجتماعية و معارف الأنثروبولوجيا قد تأثرت بتاريخ تبلورها ونشأتها بالواقع الاجتماعي و البنى الاجتماعية في السياق الذي نشأت فيه ، وأعني به أوروبا ، وليست أوروبا المكان بل أوروبا التوسعية التي شكلت مخيلتنا الاستعمارية وجعلت من وضعية هذه المجتمعات مشوهة إلى حد كبير .

إن هذا التشوه الذي عاشته المستعمرات خارج أوروبا ما هو إلا انعكاس للحالة الأوروبية (وأعني بها الذات الأوروبية ) التي صوبت جماح عنفها الكامن في مجتمعاتها نحو مجتمعاتنا ، وهو ما أشار إليه ميشيل فوكو في كتابه “يجب الدفاع عن المجتمع” حين تحدث عن مسألة ارتباط الحرب بفكرة الدولة نفسها وظهورها في السياق الأوروبي، وخصوصا ظهورها في إنجلترا وهو ما عرفه بحرب العرقين المتصارعين [1]، إن هذا النموذج من شكل تكوين الدولة نجده إلى حد بعيد ينطبق على الدول التي احتلتها إنجلترا وإن نظرنا إلى أكبر المستعمرات التي كانت تتبع إلى إنجلترا نجد هذا التأثير موجودًا، لذلك تدرس هذه المداخلة انعكاس هذه المدرسة على الدول التي استعمرتها بريطانيا .

إرث كولونيالي :

إن هذا الإرث الكولونيالي البريطاني يرتبط بصورة واضحة بطبيعة المعرفة التي على أساسها صيغت هذه المشاريع الكولونيالية التي خلقت مخيلة لهذه الشعوب في الوعي الاستعماري ومنطقه الذي يلعب عليه .

من الملاحظ أن الاستعمار البريطاني الذي صعد مع حقبة الفكتوريين قد بدأ بفكرة التنوير و إخراج العالم من ظلامته التي يعيش فيها وخصوصا مسألة تجارة الرقيق التي تحت لواءها اجتاحت القارة الأفريقية ومن الملاحظ ما حدث في نيجيريا كمثال حيث شكلت الدفاعات التبشيرية ملمحا مهما في الدخول إلى نيجيريا ،ولكن هذه الحملات قد استقرت في المناطق الغنية تاركة بقية مناطق نيجيريا في حالة الفقر و التهميش التنموي، وهو التناقض الذي تعيشه نيجيريا حتى يومنا هذا كما هو الحال في السودان وفي الهند أيضا .

 لاشك أن التأثيرات التي طرأت على الأنثروبولوجيا على يد مالينوفسكي قد أسهمت في انتقال الأنثروبولوجيا إلى مرحلة متقدمة كعلم دراسة الإنسان، وخصوصا في جانب النظرية الوظيفية التي على أساسها وضع تعريف الثقافة و الذي إلى حد كبير يشابه تعريف تايلور الذي سبقه بعدة عقود، لاشك أن انعكاس الواقع الذي قام بدراسته قد انعكس بحد كبير في كتاباته المنهجية حول جزيرة تروبرياند، وجاءت سلسلة من البحوث بعدها التي تبنتها مجموعة من الطلاب أصحاب العقول المنظمة .

نلاحظ أن تايلور و مالينوفسكي قد وضعا أساس انتقال للأنثروبولوجيا، و قد أحدثا تحولا مهما في مسيرة الأنثروبولوجيا البريطانية من خلال اتصالهم بالمجتمعات المحلية المستعمرة ،التي تمت دراستها وفق أساس (ثقافي ) وهذا التأثير تجاوز حدود المدرسة البريطانية ، وهذا التأثير ظهر في العصر الذهبي مع التحولات التي طرأت على المؤسسات الأكاديمية مما أرسى نوعا من التقاليد التي ترتبط بدراسة بنى القبيلة .

تطور النظرية :

إن هذه المسألة أثرت على دراسة أنماط القبائل في المستعمرات البريطانية مما خلق نوعا من التصور المعين للقبيلة في دراسات الأنثروبولوجيا البريطانية وهذا التعقيد انعكس على طبيعة النظم السياسية التي من خلالها تعاملت مع القبائل في المستعمرات البريطانية، فدراسة بريتشارد للنوير أسست لوضعية جديدة حول مفهوم القبيلة في الدراسات الأنثروبولوجية و تقاليدها في المؤسسات الأكاديمية في المستعمرات البريطانية .

 إن دراسة القبيلة ما هو إلا انعكاس لطبيعة المجتمع البريطاني و الوضعية الاجتماعية الموجودة فيها هذه المجتمعات، فالنظرية الانقسامية لم تكن في الأصل هي نظرية التنوير إلى ذاتهم ولكنها انعكاس تصور برتشارد إلى حياتهم، وهي محاولة لأن يضع حياتهم داخل هذه الأطر الثقافية ، وهي نزعة ميكانيكية وإلى حد ما يمكن لنا التماس النزعة العلمية التي صاغها عبد الله إبراهيم في كتابه “المركزية الغربية” حيث أشار إلى العقل العلمي الذي راح يسوغ مشروعية ما للنظام السياسي الاجتماعي الحديث، ومعنى هذا أن العلم انتظم في سياق نزعة علمية أيدولوجية، لا يهدف إلى تطوير الممارسات العلمية فقط، وإنما يضفي الشرعية على النظم السياسية التي تتبنى العقلانية التقنية [2]، إن هذا الشرح يوضح أن الأنثروبولوجيا كعلم هي جزء من السياقات الأوربية الاستعمارية التي سعت إلى وضع هذه الشعوب في وضعية معينة ومحددة .

لا يمكن أن نعمل على فصل الأنثروبولوجيا من السياق الاستعماري للمعرفة الأوربية التي حاولت أن تضع الآخر في إطار الموضوع وجعلته كجزء من نظام السيطرة، بحيث عمل العقل الأوربي على إخضاع الآخر المختلف كما عمل على إخضاع الطبيعة وإن كان الانفصال الذي حدث في فترة مالينوفسكي قد قاد إلى تحولات كبيرة في هذا المجال لكن تظل إسقاطاته وتأثره بنظريات التطور موجودة إلى حد ما كما يظهر في المقولات التأسيسية وفي شكل ممارسة المعارف هذه وخصوصا أن معظم التحولات الميدانية التي حدثت كانت من جراء انتقاله من علم الحيوان إلى العلوم الإنسانية .

الأنثربولوجيا البريطانية وانعكاسها على المستعمرات  :

نلاحظ أن بناء الدولة الحديثة في معظم الدول التي سيطرت عليها بريطانيا من خلال استعمارها تعيش ذات الأزمات التي يعاني منها المجتمع البريطاني وليس هذا من واقع الصدفة، فالمجتمع البريطاني الذي يعيش مجموعة من الانقسامات التي قادتها الشعوب التي تبعت لشبه الجزيرة البريطانية تحاول الانفكاك من هذه التبعية، وهذا ما شهدته أكبر ثلاث مستعمرات كانت تتبع إلى بريطانيا، فالصين و الهند و السودان نجدها قد مرت بهذا النموذج الذي تعيشه بريطانيا الآن فالهند وباكستان قد انفصلتا عن بعضها البعض ، كذلك الصين شهدت مجموعة من الانفصالات مثل انفصال تايوان و هونغ كونغ، وكذلك السودان أيضا الذي انفصل فيه الجنوب عن الشمال .

من هنا نلاحظ أن المدرسة البريطانية بالرغم من إسهاماتها في انتقال الأنثروبولوجيا  إلا أنها ظلت حبيسة للنسق الاستعماري الذي وظف كل هذه الدراسات في تحول النمط الاستعماري لبريطانيا بصورة سياسية، حيث لم تكن بريطانيا بالهوية الثقافية للمجتمعات أو تغير بنيتها الاجتماعية وإنما أبقت على أشكالها و سخرتها من توظيفها لخدمة أغراضها الاقتصادية ، ويبرز السؤال الملح كيف يمكن لهذه البنى الانفكاك من هذه التبعية الاستعمارية على المستوى المعرفي و المستوى السياسي ؟

 

الهوامش:

[1] فوكو ، ميشيل ، الزاوي بغورة ،  يجب الدفاع عن المجتمع (لبنان : بيروت ، دار الطليعة للنشر و التوزيع ، 2002) ، ص 15

[2] عبد الله إبراهيم ، نقد المركزية الغربية (بيروت : لبنان ، الدار العربية للعلوم ناشرون ، 2001 ) ص 452

حسان الناصر

كاتب من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى