حول العلاقة الثلاثية: الدين والدولة والسياسة
[بلغة الكلام في السودان]
ما بننكر إنو المسألة – مسألة العلاقة الثلاثية، بين الدين والدولة والسياسة، في العصر الحديث – فيها جوانب معقدة، والإجابات فيها موش جاهزة خالص، ولا بالضرورة بديهية؛ لكن في موجّهات تفكير مفروض تكون راسخة في أرضها، بحكم التاريخ والإطار العام لتطورات الأوضاع الحاكمة زمننا.
بمجرد ما بنتكلم عن ‘دولة عصرية’ (أي تستوفي النموذج المعاصر للدولة حسب المفاهيم والعقود المتواضع عليها عالميا) فده بيعني إنها دولة مواطنة جغرافية-سياسية (جيوسياسية) بالمعنى الصريح، يعني حدودها وصلاحياتها وقوانينها بتتشكل عبر قرارات مواطنيها وتفاعلاتهم في الرقعة الجغرافية ذات السيادة، مع استيفاء شروط تاريخية متعارف عليها في الواقع الدولي، الأمر الذي يجعلها دولة غير لاهوتية وأيضا غير عشائرية، وغير ذات حكم مطلق على الرعايا، بالضرورة؛ وده بيختلف اختلاف جوهري عن معظم نماذج “الدول” أو الممالك التي توفرت في التاريخ القديم.
النقطة دي مهمة: معظم أشكال الدولة القديمة مختلفة بصورة أساسية عن نموذج الدولة العصرية، لأنها – أشكال زمان – كانت مؤسسة على حاجات مختلفة، إذ بينما الدولة العصرية مؤسسة على المواطنة الجغرافية وسيادة القانون بنلقى إنو معظم الدول زمان مؤسسة على الولاء العقيدي أو العشائري، والرقعة الجغرافية غير محددة تحديد صارم وإنما تتداخل وتتفاوت بين الدول حسب تقرير امتداد سلطانها، والسيادة ليست للقانون نفسه وإنما للفئة التي تضع القانون وتنفذه معا (أي التشريع والتنفيذ أصلا لسلطة واحدة وغير منتخبة أو حتى مفوّضة من الجماهير) وكمان في سيادات محلية شبه كاملة (أي لا تساءل في نطاقها ما دامت تؤدي فروض الولاء والطاعة للسيادة الكبيرة، إلا في حالات نادرة)، كما أن الناس في الدول القديمة معظمهم “رعايا” وليسوا “مواطنين”، فالانتماء يكون للسلطة وليس تلقائيا من الجغرافيا، ولا يتطلب حقوقا معروفة بل في الغالب يتطلب واجبات صارمة وإذعان ليست فيه مساحة جدال كبيرة (إن كانت موجودة أصلا)، قد تكون معه بعض المنح من السلطة (ولكونها منح وليست حقوق فهي قد تؤخذ كما أُعطِيت من نفس المصدر). الاختلافات الأساسية دي بتعني إننا بنتعامل مع مخلوق اجتماعي-سياسي جديد، وهو الدولة العصرية، لدرجة أن تسمية الدولة العصرية “دولة” وتسمية أشكال الحكم والإدارة القديمة برضو “دول” بيعمل خلط مفهومي. يضاف لذلك، أنه الدولة العصرية دخل فيها تعقيد بتاع مؤسسات ومعلومات وقوانين ما حصل في التاريخ البشري قبل كده. أكثر دولة منظمة في التاريخ القديم ما كانت بتتعامل مع كمية تعقيد ومعلومات بتتعامل معاها أقل دولة تنظيما في العصر الحديث. لمّن نفهم حجم الفرق بين “الدولة” اليوم و”الدولة” زمان، بنقدر نفهم أنه من الإِشكالي جدا محاولة سحب تجارب وخلاصات قديمة وتقديمها في مواعين جديدة، معاصرة، بدون اعتراف كبير وواسع بأنه ده شغل شبه مستحيل ومحتاج تبرير معقول. زي لمّن واحد يكون عاوز يشغّل طيارة حديثة بمحرك بخاري من القرن التاسع عشر.
وفي هذه الظروف، موش من الحكمة أنه مجموعة من المواطنين تحتج برغبتها في تفعيل تشاريع معيّنة لأنها مستمدة من السماء ومقدسة بالنسبة ليهم، أو ضرورية بالنسبة لعشيرتهم، أو موروثة من عهد سلطة مطلقة، في حين التشاريع دي فيها خصم على مبدأ “مرجعية المواطنة” في الدولة العصرية لأنها عمليا تعني التمييز بين المواطنين حسب انتماءات أخرى خلاف المواطنة. بعض التشاريع دي ربما يمكن قبولها بآلية اجتماعية-سياسية، أرضية، أي عن طريق قبول عموم المواطنين ليها أو تراضيهم عليها، ثم ترجمتها في صور سياسات عامة أو قوانين محددة الاختصاص؛ لكن في شروط منطقية واضحة—يعني موش ممكن تتوقع من مجموعة مواطنين يقبلوا إنهم يكونوا مواطنين درجة تانية، أو تالتة، عشان الأغلبية الإحصائية عاوزة كده وعقيدتها بتقول ليها كده (أو بالأحرى فهمها لعقيدتها بيقول ليها كده).
ما ممكن تجيب ليك مثلا ٤ أنفار ممتلكين نفس الأرض والبيت بمساهمة متساوية وتخليهم يصوّتوا حول إنو واحد فيهم ينوم وياكل برة البيت، أو يُحرَم من استعمال المرافق، أو تقرر إنو يقعد في الواطة بس وما يقعد في الكراسي والسراير زي الباقين، إذا الاغلبية عاوزة كده، بدون ما يكون اعتدى عليهم أو سبّب أضرار مباشرة للبيت مثلا وبدون ما يدوه حقه من الشراكة ويمشي أو يشيل جزء مستحق من البيت ليه. (وده مثال مخفف شديد، لأنه مرات في تبعات أخطر بكتير). (أو يتفولحوا زيادة ويقولوا نحن الأغلبية الآن قررنا إنو إنت تاني ما يكون عندك حق تصويت في القرارات المستقبلية). يعني الديمقراطية والقرار بتاع الأغلبية عنده حدود، موش مطلق وموش على كيفه خالص. الناس الممتلكين للسقف الواحد المشترك ده حيكون بيناتهم عقد، والعقد ده موش تقرره الأغلبية بس مهما كان – يعني مثلا موش ممكن بس الأغلبية تقرر يدقوا واحد فيهم ويشيلوا قروشه والموضوع ده يُعتبر عادل – وإنما لازم يتوافق عليه جميع الملّاك ويكون معقول ليهم كلهم—موش بالضرورة ما يتمناه كل واحد في أحلامه ولكن ما هو مقبول ومعقول ومفهوم ليهم كلهم. فإذا كان التوافق ده مستحيل فعلا، يبقى من المنطقي إنهم يفضّوا الشراكة دي كخيار أخير، والعاوز يشيل نصيبه ويمرق فده شيء مبرر جدا في أوضاع زي دي.
من ناحية تانية، إذا تلاتة أنفار من الأربعة قرروا إنهم عاوزين حيطان البيت تتضرب برتقالي (مثلا) وواحد منهم عاوز لون الحيطان يكون أبيض سادة، ممكن طبعا الزول الواحد ده يستغرب ويعترض على اللون البرتقالي، لكن برضو ممكن في النهاية يرضخ لقرار الأغلبية، رغم إنو مستاء منه، لكن أهو ده حال الدنيا الخلاه يبقى في شراكة مع ناس بيحبوا الحيطان البرتقالية. بس زي ما شايفين في فرق كبير بين إنو الأغلبية تقرر لون الحيطان وإنها تقرر إنو واحد فيهم يطلع ينوم برة البيت أو تقرر إنو يقعد في الواطة بس. وهكذا دواليبك. الديمقراطية ما معناها كل زول حيلقى العاوزه في كل وقت، بل الراجح إنو حيكون في تنازلات وتواضعات من حين لحين، إنما في حدود مفهومة.
ومن ناحية تالتة، مثلا لو واحد من جماعة البيت ديل بيصحى الفجر بدري يصلّي وبيصوم يومين كل أسبوع، ما حيكون مقبول بالنسبة ليه إنو التلاتة التانين يقولوا ليه ياخ لازم تقيف من صحيان بدري ده عشان بتزعجنا وبرضو لمّن تصوم بتخرب لينا جدول استعمال المطبخ، ومن حقه ما يقبل الكلام ده، ومفروض الأغلبية تتعلم تتعايش مع الحاجات حقة الزول الواحد ده لأنها مسائل مهمة ليه حتى لو أزعجت الروتين بتاعهم وما فيها عدوان على مساحتهم العامة أو خياراتهم الخاصة. يبقى مجرد قلة ارتياح الأغلبية موش أولى من تلبية الاقلية لحاجة نفسية مهمةً. وبرضو، لو اتنين منهم بينوموا بدري شوية والاتنين التانين بيحبوا يساهروا ويعملوا جوطة، ممكن يقعدوا سوا كلهم ويحددوا أيام وساعات للأنشطة بتاعتهم بحيث أنهم يستحملوا أساليب حياة بعضيهم بدون ما أسلوب واحد يطغى على الجميع؛ وهكذا دواليبك.
إذن، في مساحة واسعة للأخذ والرد، والترتيبات البتناسب ناس البيت ده كلهم وبتدّي اعتبار للتمايزات البيناتهم وبرضو المشتركات البيناتهم، وكمان بعض الاحتياجات الخاصة، ومع اعتبار الأحقية المشتركة ليهم في الأرض والبيت. فقط مفروض يعرفوا إنه المساحة الواسعة دي نفسها عشان يستعملوها كويس، ويديروا شؤونهم بيناتهم كويس، لازم يكون في بيناتهم حد أدنى من التعاقد المقبول والقواعد اللي بيرجعوا ليها كلهم، في حالات الإدارة أو التنازع، لأنهم اتوافقوا واتواضعوا عليها مسبقا عشان يقدروا يعيشوا سوا. التعاقد والقواعد ديل ممكن نسميهم الدستور بتاعهم. والدستور بتاعهم ده موش انعكاس لرغبة وطموحات الأغلبية وإنما انعكاس للشيء القبلوه كلهم.
زي قواعد اللعبة: ممكن يكون في فريق غالب، بين عدة فرق، وممكن حتى يكون متفوق على الباقين بمساحة مريحة، لكن الفرق دي كلها وافقت على قوانين اللعبة مسبقا والفريق الغالب موش من حقه عشان فايز يغيّر القوانين نفسها بما يوافق مزاجه، بل ممكن كمان في المستقبل، ومع تطور مهارات التانين واستراتيجياتهم في اللعبة، ينتصر فريق تاني من الفرق دي. أما لو الفرق كلها – الفايزة والمغلوبة – اتفقت يوم إنه بعض القوانين ممكن تتغيّر أو تتطور فده يبقى شيء تاني.
التفكير بطريقة ‘دكتاتورية الاغلبية’ آفة معاصرة، فهو في الحياة العامة ساي غير مقبول، لا منطقيا ولا أخلاقيا، ولا حتى دينيا. ثم خاصة في المساحات الجيوسياسية. والتفكير بمنطق ‘التعاقد والتوافق الاجتماعي’ (الحقيقي) أقرب للعقل والحكمة، والاستدامة.