جاء زيدان إلى الدنيا ليغني؛ جاء وتحت لسانه أغنيات للقلوب المحطمة، للحكايات التي لم تتم، لمساكين الحب وندامى النحيب.
الكتابة عن زيدان تعني الانخراط في مجاز طويل من الرقة والعذاب، فأن تكون رقيقاً ومعذباً يعني أن تكون من حزب زيدان ومريضا بأغنياته!
كان زيدان كل ذلك وأجمل، فهو رابع أربعة في تاريخ الغناء السوداني ممن يحترمون غناءهم ـــ كما قال السر قدور ـــ بأداء شكل قيمة مضافة للغناء ذاته . فمن تأمل زيدان وهو يغني بطلعته الأنيقة ووجهه المفعم بالعواطف المنعكسة على اهتزازه الرزين؛ يدرك تماما أنه أمام مغنٍ نبيل.
حين غنى زيدان؛ كان على يقين مطلق بأن أغنياته تستحق التضحية بمستقبله الدراسي، عندما خيره ناظرٌ متزمت بين الدرس والغناء؟
كان زيدان زخَّاخاً بالشجن الناعم والأسى الشفيف، كان صورة من دنيا المحبة، حين تمثل تلك الألحان بأداء هارموني بالغ العذوبة .
بدا زيدان، دائماً، قريبا وحميما بأغنياته، فهي أشبه بشيء تشعر به كما لو أن عليك سماعه منذ زمن بعيد، فيما أنت تسمعها لأول مرة!
ولهذا الإحساس تنطوي ألحان زيدان على قيمة مطلقة للشجن. إن معنى الشجن في تلك الألحان يبدو دائما جزءا من الطبيعة والذاكرة، فلا يحس من يستمع إلى زيدان أن ألحانه تلك تحتاج إلى تجريب في الذائقة، أو توطين في الألفة ؛ زيدان نفسه كان جزءا من هذا المعنى ، كان دائما حاضرا بذات الألق لتحضر ألحانه كما لو أنها تغنى لأول مرة.
وفي ظني إن غنائية زيدان غنائية مركبة، فالكلمات نفسها تحمل غنائية جياشة حتى لو كانت بلا لحن: (قلبي زايد في حنينو أصلو قلبي عليك حنين) (لو أحبك عمري كلو برضو شاعر ماكفاني) (كل ماغنى شادي ذوبني الشعور) (حنين ياليل ياحنيـِّن ياساتر عيون الناس).
لونية الزمن
استبطن غناء زيدان انعكاساً لزمن جميل بطريقة جعلت من ذلك الزمن أسطورة هاربة،كان غناء زيدان دليلاً عليها ومستدعيا لها في الحاضر. فغناء زيدان ينطوي على بنية للشجن والحنين توحي بفردوس للإبداع غاب مع ذلك الزمن؛ لهذا ظل زيدان طيفاً لذلك الزمن الجميل بغنائه المستعاد في الحاضر. فزيدان بعزوفه عن إبداع أغنيات جديدة في هذا الزمن الأغبر كان يمارس لوناً من التماهي مع زمن الإبداع الذي صنع تلك الأغاني الخالدة .
ثمة شيء كان في ذلك الزمن أكبر من الجميع ؛ وهذا الإحساس هو ماتضخه أغنيات زيدان، وغيره من مبدعي ذلك الزمن، الذي أطلق فيه الموسيقار الكبير محمد وردي لقب (العندليب الأسمر) على زيدان إبراهيم ، فيما كان زيدان مفتونا بعبقرية الأخير.
آهات زيدان
كانت آهات زيدان التي اشتهر بها، أصواتاً من الشجن الممتد وراء الألحان. كانت تلك الآهات إحساسا أراد به زيدان تمجيد الصوت البشري ( أقدم آلة في التاريخ) فلم تخرج الآهات عن صدره إلا انفعالاً بحساسية بالغة في الأداء الصوتي المتناهي الرقة، فهي في موازاة صرخات (إبراهيم عوض) شكلت بصمةً خاصة في أداء العندليب الذي فجَّر غناءً عظيما لم يجد له تمثُلاً من نقاد الفن يعكس عمقه وفرادته في قلوب محبيه. فزيدان ولد فناناً كبيراً و نسج تاريخه الفني في مكانة مرموقة ظل فيها ثابتاً، حاضراً، ومتألقا لأكثر من أربعين عاماً، فيما اهتز آخرون وانطفئوا وتلاشوا.
مجدُ زيدان أُعطي له؛ فهذا الفنان لا يمكننا أن نرصد في مسيرته الفنية خطاً بيانياً متعرجاً، فهو منذ أول أغنية له سجلها في الإذاعة السودانية: (بالي مشغول ياحبيبي) ولد عملاقاً ومفاجئاً للجميع. هذا لم يحصل حتى للفنان العظيم محمد وردي . وربما لإحساسه بذلك الامتلاء لم يكن زيدان يعكس تذبذبا طوال مسيرته.
كانت الأجيال تعيد اكتشاف الأغنيات الخالدة: (في الليلة ديك) (قصر الشوق) (دنيا المحبة) (الوداع) (حنين ياليل) وغيرها، دون أن تحس فرقاً في العواطف المتدفقة في صوت زيدان، فقد كانت تلك العواطف (صُوَرٌ مُصَّوَرةٌ على أعْصَابِه) كما قال التجاني يوسف بشير. ومنذ تلك البدايات لم تنطفئ لمعة الغناء التي توهجت في باقات أغنياته مرة وإلى الأبد. سنحتاج إلى ألف عام ليمر بنا زيدان آخر فزيدان هو اهتزاز الصدى الأبدي في الغناء.
وطن العواطف
كان زيدان يحمل بين جنبيه وطنا من العواطف وغناء يجعل من الحياة أكثر جمالا ومن الناس أكثر رقة. لم يكن يحمل لونا سياسيا غير لون الوطن في معناه العريض. كان إحساسه بالوطن غناءً متدفقاً للملايين الذين غنى لهم و غنوا معه.
غنى زيدان بحساسية وطنية يمكنها أن تعيد لنا تعريفاً آخر مفقود لمعنى الوطنية الحقة، وبحسب هذه الحساسية الوطنية المفتقدة: المبدعون هم وحدهم مقياس تلك الوطنية وعلاماتها؛ فالإبداع هو الذي يمنح البطولة معناها في أي مجالٍ كان.
بالقطع رحل زيدان دون هذا المعنى، كما مات قبله مبدعون كبار في كل ألوان الحياة السودانية، لكن سيشهد التاريخ في يوم ما، لمعنى القيمة الوطنية لزيدان.
لم يعلن زيدان لونية سياسية ، ولم يحلم بتغيير العالم بل بالغناء له، وكان ذلك شرطاً ضروريا كي يصبح زيدان ملكاً لشعبه دون تحفظ؛ فرسالة الغناء هي في أن يكون لكل الناس وللمستقبل، فلا يمكن أن يكون الغناء منحازاً إلا للجميع وهنا تكمن إنسانية الغناء وكونيته.
كان زيدان يدرك هذا تماماً، ويدرك أن رصيده الفني الحقيقي هو في غناء بلا أدلوجة ، وبلا لون سياسي، بل وبلا أغنيات مباشرة للوطن! فحين يصبح الفنان وطناً للعواطف تصبح الوطنية رمزاً جماليا في وجدان شعبه.
هكذا كان زيدان حتى أطلق عليه البعض، تندراً، أن حزبه هو حزب (البهجة والمسرة) ، وتلك لعمري هي وظيفة الغناء.
أحب زيدان غنائه فأحبه الناس، وكانت أناقة الأداء في ممارسة المغنى شرطاً منعكساً على حياته اليومية. ولطالما ظل زيدان فناناً طبيعياً أليفاً في حياته مع الناس وكان ذلك قيمة مضافة لفنه وسيرته الإنسانية.
ككل فنان؛ حمل زيدان في داخله جرحاً شفيفاً نابعاً من انعكاس ذاكرة المجتمع التقليدية عن الغناء وأهله، وكانت له تجربة من آثار تلك الذاكرة في محيطه الأسري انتهت بانتصاره حين قال قوله الشهير: (صمتت البندقية وغنى زيدان).
كان زيدان إيقونة سبعينية للحب والشباب، ولم يدر أنه سيكون على ذلك الأفق مرة وإلى الأبد.