مع عبدالوهاب لاتينوس

حوار : برعي محمد
مما يجعل الكتابة الإبداعية مصدر بهجة أن تعيشها حالة كشف لا حالة حجاب، فالكتابة التي تحجب غطاء خانق، في حين أنها في حالة الكشف تحليق ورفرفة.. صحيح أن ثمة برزخا غير مرئي بين الكشف و التعرّي، وأن كثيرا ممن أرادوا العبور إلى عالم الكتابة الكاشفة ذهبوا من حيث لم يشعروا إلى عالمها المتعرّي، إلا أنَّ الفرق بينهما، بحسب تصوّري، يكمن في أن الكشف يتعلّق بالعمق الإنساني، وهو يتحرّك رأسيًّا باتجاه الذات وموقفها من الأشياء وموضوعات العالم وكل ما يعبر به الكاتب إلى عالمه الداخلي، ثم التعبير عن ذلك بوضوح وشفافية عالية.لقد قمت بإستطلاع قصير مع البعض من الكتّاب الواعدين في الأدب والفنون، أبرزهم الراحل عبدالوهاب لاتينوس، جرت هذه الحوارات في مؤانسات متفرقة قبل رحيله الفاجع، طرحنا فيها بعض الأسئلة عمَّا يلي موضوع الكتابة الإبداعية. والحوار التالي جزءٌ منها:
– ﻣﺎ ﺍﻟﺴﺮ ﻭﺭﺍﺀ ﻫﺬﺍ ﺍﻻﺟﺘﻴﺎﺡ ﺍﻟﻤﺮﻋﺐ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﻤﺎﺭﺳﻪ ﺍﻟﺮﻭﺍﻳﺔ ﺩﺍﺧﻞ ﺍﻟﺤﻘﻞ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻲ ﻋﻠﻰ ﺣﺴﺎﺏ ﺑﺎﻗﻲ ﺍﻷﺟﻨﺎﺱ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺸﻜﻮ ﻫﻮﺍﻧﺎ ﻣﺨﺠﻼً؟ ﻣﺎ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﻘﺪﻣﻪ ﺍﻟﺮﻭﺍﻳﺔ ﻭﻳﻌﺠﺰ ﻋﻨﻪ ﺍﻟﺸﻌﺮ ﻣﺜﻼ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﺃﻥ ﻫﺬﺍ ﺍﻷﺧﻴﺮ ﺃﻛﺜﺮ ﺍﻧﺘﻤﺎﺀً ﻟﻠﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﻲ، هي تساؤلات معرفية وليست اتهامات.
– تساؤلات جيدة جداً، رغم أنني لستُ أملك تفسيراً أو جواباً معقولاً، ولكنّي أظن أن عدم الإهتمام بالشِّعر يرجع أساساً إلى عدم نضج ذائقتنا الثقافية، الجمالية والمعرفية. كنتُ أتساءل أيضاً، كيف يمكن لأحد، أياً كان، أن يكون مثقفاً دون أن يتذوَّق الشِّعر، دون أن يرضع مِن ثدي القصيدة، دون أن يرقص ثملاً فالس القصيدة؟!
– لكن أليس هذا مؤشر لدخول المجتمع الكسل المعرفي؟ لأن الحوجة ﻟﻠﺮﻭﺍﻳﺎﺕ ﺳﺒﺒﻪا ﺍﻟﻬﺮﻭﺏ ﻣﻦ ﺍﻟﻮﺍﻗﻊ ﻭﺳﺪ ﺍﻟﻔﺮﺍﻍ ﺍﻟﻤﻬﻮﻝ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﻤﺎﺩﻳﺔ ﻭﻋﺪﻡ ﺇﻳﺠﺎﺩ ﺍﻟﺤﻠﻮﻝ ﻟﻤﺸﻜﻼﺕ ﺍﻟﻮﺍﻗﻊ ﺍﻟﻤﺘﺮﺍﻛﻤﺔ ﻭﺍﻟﺮﻏﺒﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻐﻮﺹ ﺩﺍﺧﻞ ﺍﻟﻘﺼﺺ ﺍﻟﺨﻴﺎﻟﻴﺔ ﺃﻭ ﺍﻟﻮﺍﻗﻌﻴﺔ ﻟﻤﻠﺊ ﺍﻟﻌﺎﻃﻔﺔ؟
– نعم بالطبع ، هناك كسل معرفي واضح للجميع. ولكنه -أي الكسل- وحده لا يفسِّر هذه المشكلة. فقد نجد هناك مَن يشتغل في الحقل المعرفي ولكنه لا يفقه أي شيء في الشِّعر، الذائقة الطفولية الرديئة والتي لم تعرف درب الجمال، هي الأقرب إلى تشخيص المشكلة.
الأمكنة الهاربة
عبدالوهاب لاتينوس
في زحمة الأمكنة الهاربة
مِن مخالبِ البؤس
وإلتواءات الزمن الراكد كمياهٍ آسنة
حيث الحياة جثة مشنوقة
بحبلِ الكرهِ
الحياة التي يتقشر جلدها
كأفعى في دغل إستوائي
لا شيء سوى الخراب
سوى الموت العبثي
سوى حياة بطعمِ الموت
***
سأكون صخرةً تتدحرج
في خاصرةِ أرضٍ جرداء
سأكون شجرةً بلا ساق
تتدلى أغصانها فوق كوة جحيم
سأكون راهباً يكتظ بالرغبة المجنونة
على تخومِ براري الرب الموحشة
سأكون عاهرةً بصدرٍ متهدّل
يبصق الرجال على جسدها
سأكون غيمةً لا تمطر
تتسمّر في رحمِ السماء
سأكون أرملةً تشهق
خلف ستار العتمة
سأكون ضوءً باهتاً يتلوّى
بين فكيْ الحُلكة
سأكون لا شيء
سأكون عدماً يتمدّد في جسد الوجود
***
بوجهٍ شاحبٍ مكفهر
كبيت عناكب خربة
بيدٍ معروقة نحيلة
كساقِ شجرةٍ منزوعة اللحاء
بقلبٍ واهن
بروحٍ شائخة
بجسدٍ مزحوم بالخراب
بخطواتٍ وئيدة وجلة
أخطو صوب حتفي