هذه سلسلة حوارات أجريتها مع صديقي الرائع خالد تورين ضمن احتفالات الزريبة باليوم العالمي للفلسفة في نوڤمبر2019.(المحرر)
-بداية أستاذ خالد لابد أنك على إلمام بوضعٍ كثيراً ما يُقرأ بأنه تجسيد لأزمة كبيرة تمر بها الفلسفة، وهذه الحالة تعبر عنها أحاديث النهايات التي ظهرت كعناوين بارزة في قلب فيض من النقاشات في الفلسفة المعاصرة من: نهاية الأيديولوجيا، موت المؤلف، نهاية التاريخ، سقوط السرديات الكبرى، نهاية الفسلفة…الخ فكيف نفهم هذه الخطابات؟ وهل تنذر بإحتضار الفلسفة أم تبشر بإزدهارها؟
– شكراً جزيلاً الصديق العزيز سوار على ابتدار هذا الحوار، ونرحب بجميع المتابعين أملاً في التواصل الفكري الخلاق.
فيما يتعلق بالسؤال، أعتقد أن الفلسفة حسب مسارها المعتاد والمعروف منذ طاليس إلى هبرماس، هي في محنة أشد وأكبر من أي وقت مضى، أزمة الفلسفة ناتجة عن مأزق الحضارة الحديثة بعامة، الفلسفة الحديثة منذ بواكير تدشينها مع ديكارت وبيكون كانت تحمل محنتها معها، عندما تم تأسيس الوجود على أساس نظرية المعرفة، واختزاله فيه، ومجاراة الفلسفة للعلم الحديث وتقليد منهجه هو ما أفضى في نهاية الأمر إلى القول بنهاية الفلسفة.
ويظهر قمة هذا التفكير في الوضعية المنطقية التي لم تدعو صراحة إلى موت الفلسفة؛ ولكنها باختزال دورها ومهامها في تحليل منهج العلم التجريبي، إعلان مبطن بنهايتها.
هنالك إعلان للنهاية بطريقة أخرى جاء من هايدغر الذي قال بنهاية الفلسفة وبداية التفكير، وكان يعني نهاية نمط معين من التفكير ساد الفلسفة منذ أفلاطون إلى يومنا هذا، ما يجعلني أقول إن محنة الفلسفة في الأساس تكمن في داخلها، بمعنى أن نمط التفلسف الذي ساد ويسود هو الذي أدخل الفلسفة في محنتها. إذن فعلى الفلسفة أن تستعيد نفسها من خلال التفكير الحر وإبداع طرائق تفلسف تتجاوز الطريقة الأحادية الشائعة فيها، وهنا على الفلسفة أن تعود إلى موضوعها الأول وهو الوجود وبذلك ستتصالح مع نفسها ومع أخواتها الأخريات وهن الفنون.
-بعد تحريرك لهذا الإشكال يبدو أنك قد اختصرت لي نصف الطريق فالآن فهمـِنا أن السؤال الأساس للفلسفة هو سؤال الوجود كيف نُعرّف الفلسفة إذن؟
– ماهي الفلسفة؟
إن مهمة تعريف الفلسفة لهي من أخطر وأصعب المهام، ليست فقط لأنها مثل كل ظاهرة بشرية هي من التعقيد والتركيب والتشابك بحيث لا يمكن القبض عليها بتعريف ما؛ بل لأن الفلسفة لها علاقة خاصة بنمط وشرط الوجود البشري- قلت علاقة خاصة- لأننا ندري بأن كل ظاهرة بشرية هي في نهاية الأمر مرتبطة بشرط وجود الإنسان، شرط وجوده يعني ماهيته أي كينونته، أو مايجعل الإنسان إنساناً دون غيره.
إن تعريف الفلسفة هي فلسفة حول الفلسفة، أي التفكير لأقصى حد حول التفكير لأقصى حد، وأقصى الحدود هذه هي نبع الكينونة “الماهية “، إذ أن الفلسفة تقودنا إلى التخوم والحواف، تجعلنا نلامس ماهيتنا ونعانقها، ومن أجل ذلك تكون موضوع الفلسفة الأول ليس الموجود، وإنما الوجود الذي يحيط بالموجود .
نعلم وتعلمون أن الإنسان وحده يتفلسف، ُيفكر ويتسائل حول شرط وماهية وجوده،أي يمتلك وعياً كما يُقال، ذاك التفكير حول شرط وجوده ليس شيئاً مضافا إلى الإنسان، بمعنى أنه ليس الإنسان سابق على وعيه بكينونته؛ بل تلك العملية “التفكير بالماهية /التفلسف “، هي ما جعل فكرة الإنسان ممكناً، ومن هنا لا يمكننا أن نفصل بين ماهية الإنسان وعملية التفكير في تلك الماهية، إذن الفلسفة بماهي التفكير في شرط الوجود، أي الماهية فهذا يعني أن الفلسفة هي الماهية نفسها وهي التي تكون على التفاف وإحاطة بالكينونة .
من أجل تلك “الماهية ” امتلك الإنسان اللغة وبذلك تدين، و صنع العلوم والفنون… الخ.
والأكثر الأهمية من كل ما قيل آنفاً، أزمة المعنى عند الإنسان الناتجة من أنه يفكر ويتأمل في شرط وجوده، تلك العملية الخطيرة التي أشار إليها القرآن “إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولً “. أن نتفلسف يعني أن ننعكس على وجودنا تفكراً وتأملاً، أن نسائل الوجود ونضعه بين قوسين، لهذا فإن موضوعات الفلسفة الأولى هي موضوعات الوجود بصيغة السؤال ما ” الحياة، الموت، الوجود، العدم، الإنسان، الجمال، الكمال، اللغة …..الخ “.
إن وجودنا في الأساس مفتوح على جُبّ عميق ومظلم وغامض ومستلغز. فهو على هاوية لا حدود لها، وتلك الهاوية هي بمثابة رحم الأم بالنسبة لنا كبشر، ورغم أنها داكنة، وهي متاهة كبرى إلاّ أنها مكان الدفء، وواحة السكنى والطمأنينة أيضاً، وما يفتحنا على تلك الهاوية هو التفكير/الفلسفة، فالفلسفة هي حبل السرة الذي يمدنا بالدم والغذاء والهواء من الكينونة. والفلسفة هي النفق والجسر والبرزخ نحو تلك الهاوية!
-هذه المقاربة تقودنا مباشرة إلى أفق الفينومنولجيا، أو بتعبير أدق الفينومنولجيات مابعد الهوسرولية، وما انبثقت عنها من تيارات هيرمونيطيقة اهتمت بسؤال المعنى هذا، وتخلت عن أسئلة عزيزة على الفلسفة مثل أسئلة الحقيقة، والأخلاق، فتولد من هذا النوع من التفلسف سيل جارف من التيارات الفلسفية التي تدرس تجارب الموجود البشري وتخرجه في تأويلات شعرية، وفنية وتاريخية، ودينية،..الخ. هنالك جملة من الإعتراضات التي قُدمت لهذه الإتجاه أود أن أطرحها عليك هنا؛ فطالما أن الفلسفة اهتمت وخنقت نفسها بسؤال المعنى فإنها مباشرة تُصادر علينا الوجود بوصفه لغة أو نصاً “حيث لا جود خارج النص” بتعبيرات دريدا فسيدور رحى النشاط الفلسفي داخل نصوص معينة، تُعتبر نصوصاً تأسيسية منها نبدأ وإليها ننتهي، الفلسفة اليونانية ما قبل سقراط عند هايدغرعلى سبيل المقال، أو النصوص الفلسفية التي يعود لها دريدا كثيرا، باعتبارها كتابات أسست لمركزية العقل مثال آخر، ففي التحليل الأخير تكون الفلسفة بهذا المعنى قد ضيقت لنا واسعاً، وسجنت نفسها داخل النصوص مما ينزع عن الفلسفة شحنتها التحررية.
– وهناك شيء آخر يختبئ خلف إرادة التأويل هذه فلئن كانت الغاية القصوى للفلسفة هي الإجابة عن أسئلة المعنى فإنها بمصادرتها الوجود في نص/لغة لا تفعل شيئا سوى أنها تدور حول نفسها، وفي نصوصها ، وبإفتراضات مسبقة عن هذه النصوص حيث يبدأ التفلسف وينتهي داخل هذه الدائرة المسحورة، بإستبطان وجود معاني كامنة داخل هذه الأعمال الكبرى، وعلينا أن نقرأها ونمنحها الحياة من جديد باستكناه المسكوت عنه واللامفكر فيه في تلك الأعمال فتختفي مرة ثانية طاقة الفلسفة التحررية بطرح سؤال معنى الوجود، ألا ترى أن هنالك نزعة محافظة خلف هذا النوع من الفلسفة؟ السؤال الآخر بما أن محور تفلسفنا يدور حول العدم والموت والقلق والسقوط..وغيرها من التجارب المشابهة والتعامل معها باعتبارها ملازمة للشرط الإنساني وليست ناتجة عن شروط إجتماعية وتاريخية معينة يمكن تخطيها بعد فهمها مثلاً بدلاً من تحويلها إلى أنتلوجيا ملازمة للموجود البشري مما يستحيل تحررنا منها مرة أخرى؟
– أسئلة ضافية وغنية. فعلاً، مثلما قلت إن الدراسات ما بعد الفينومولوجية، وما بعد هنا تفيد الزمني والمضموني،قد اتجهت نحو التأويلية، وبالتالي إلى أسئلة اللغة والمعنى، وفي هذا المنحى كانت هناك إرهاصات قد ظهرت قبل هوسرل نجدها عند نيتشة بالتحديد. وأنت في التحليل الأخير سئلت سؤالاً يشير إلى أنه بالتوجه نحو المعنى واللغة تكون الفلسفة قد تخلت عن موضوعات عزيزة عليها مثل أسئلة الحقيقة والأخلاق ..الخ ؟ عليه تكون الفلسفة قد حصرت نفسها في النصوص واعتزلت الواقع الغني والأخضر، وبذلك تصبح ليس تحريرية ويمكن-إذا جاز التعبير-أن نقول عنها إنها رجعية.
لا أعتقد بأنها كانت كذلك، بل ربما على النقيض من من ذاك التحليل،لماذا؟ فلنبدأ بمقولة هايدغر المأثورة ” اللغة بيت الوجود “، السؤال ما المقصود باللغة هنا؟ نقول بأن الوجود في أساسه حركة،فعل، إندفاع، ظهور، وضياء، أي إيماء، إشارة، وترميز، أي معنى في النهاية،وكل هذه العوامل تدخل في عباءة اللغة، فهي مع هايدغر أوسع بكثير من أن نحصرها في نص أو مقولة، الوجود كله لغة وكفى. وهذا يعني أن نمارس الهيرمونطيقيا الوجودية والفلسفية، وفي كون الوجود لغة ما بما تحمله من دلالات أشرنا إليها تقودنا حتماً إلى التأويل، وفي التأويل نجد :التعدد،والإختلاف والتشتت ،والغنى، غنى الدلالة والمعنى، ولا يتم التأويل إلا بالتمرد على الجاهز والمسبق والمقولب، والأهم من كل هذا، لا يتم-التأويل- إلاّ مصاحباً للحرية والتحرر، وما يرافقها من إبداع وخلق وإبتكار.
إذن مع تلك الإتجاهات الفينومينولوجية والهيرمنويطيقية وما بعدها يكون التحرر ممكناً.
بالنسبة لسؤالك الثاني الذي يذهب إلى أن ممارسة الفلسفة بهذا الشكل يتجاهل ماهو تاريخي، ويكون موضوعه ماهو جوهري وماهوي في الكينونة فينشغل بموضوعات مثل: الموت والقلق والعدم .. الخ .من الصعب جداً أن أفصل بين ماهو ماهوي الذي يرتبط بسياق تاريخي وإجتماعي كل يشير إلى الآخر،الموت مثلاً، مسألة أنطولوجية ولكنه أيضأ قضية تاريخية وإجتماعية،وكذا القلق والعدم،و..الخ.
-عظيم! هنالك ظاهرة شديدة التعقيد تكتنف حياتنا المعاصرة بشكل كبير جداً، هي ظاهرة التقنية، وحسب إجاباتك السابقة يمكنني أن أستنبط أنها نتيجة طبيعية لسيطرة الأبستملوجيا الوضعية وما نتج عنها من عقلانية أداتية بلغة أدورنو/ هوركاهيمر، ولكن التقنية لم تتوقف عند هذا الحد بل واصلت تمددها وقامت بثورة أخرى تكنولوجية كبرى في نهايات القرن العشرين، وما زالت متواصلة إلى الآن فكيف نفهم التقنية فلسفياً؟هل تبشرنا بما بعد الإنسان أو السايبورغ كما تذهب دونا هاراوي إيجابياً -أي أن التنكولوجيا في المستقبل ستصنع إنساناً هجيناً يتجاوز مقولات فلسفة الوعي ذكر/أنثى/حيوان/إنسان..الخ؟ أم أنها ستنتهي بنا إلى كارثة أخرى، فهل التقنية يوتوبيا أم دستوبيا؟
– مطلقاً، لا يمكن النظر إلى التقنية بأنها شر مستطير، ولكن واقع الحال هو أن عالم الحياة قد تم تكننته بأكمله، كما عبر عنه هايدغر حيث الآن يتبدي الوجود كله بشكل تكنولوجي، كما كان العصر الوسيط يتبدي دينياً، إن الزحف الكاسح للتكنولوجيا هذا جعل سؤال الوجود، وسؤال المعنى، وسؤال الإنسان نفسه بلا معنى! فالتقنية مقبرة تلك الأسئلة وهي جدث الفلسفة أيضاً. إستقراء بسيط يوصلنا إلى نتيجة مفادها أن الراهن الآني هو راهن غياب، الإبداع الخالد لماهو فلسفي وفني عموماً، من شعر وملاحم ومسرح وموسيقي وغناء وغيرها.
لا أعتقد أن التكنولوجيا ستنجب لنا السوبرمان، فالسوبرمان كما قال نيتشة ” دولاب يدفع نفسه بنفسه ” أي يبدع ويبدع ثم يبدع! إنسان يتجاوز نفسه بإستمرار، وفي الإبداع خلق للمعنى ومقاومة للموت، وتحدي للفناء، ومعانقة للخلود من خلال أثر الجمال والبهاء والضياء في الوجود، وهذا ما لا يمكن أن تفعله التقنية إن لم تكن ضده. فالتكنولوجيا ستخلق إنساناً ممسوخاً، وواقعه باهت لما هو إنساني.
-سؤال أخير في هذا الجزء من الحوار” بتتجازف ولا ما بتتجازف؟” أعني هل يمكننا فعل شيء ما إزاء فرانكشتاين التقنية أم أن علينا الصمت فقط وإنتظار إله ما لينقذنا؟ كما عبر عن ذلك مارتن هايدغر في آخر حوار ل؟!
– شكلو كدا مع الأمريكان أولاد اللذينا ديل ما بتتجازف، هم كمان زادو الملاح ملح،من خلال تحويل التكنولوجيا نفسها إلى إرادة هيمنة وذلك بتوظيف التقنية كلها لصالح إرادة التوسع والهيمنة ذاك هو البلاء الأعظم؛ لكن مع ناس بيرا البقاومو بالشعر دا ممكن تتجازف، والإله نفسه قد لا يعلم ذلك!