كولومبيا يا أرض الوداعات الأخيرة
“الثورة هي فرح الكينونة الهادر صوب وطن الصيرورة الخالد”
من وصايا وأقوال شعب كولومبيا
قبل شهور قليلة من الآن، عشنا بشكل استعاديّ ذكرى فضِّ الاعتصام ومجزرة القيادة، مُسقطين من ذِكرانا، سهواً، أرضَ كولومبيا، التي تمَّ اجتثاثها بوصفها أرخبيل الهوام الطُّلقاء الذين يعيشون بين ضفاف الصيرورة وحواف الخيال. إذ لم تُشكلَّ كولومبيا حدوداً جغرافية لفئة اجتماعيةٍ بعينها، لكي لا نختزلها إلى أخلاقوية خاصة بالمسحوقين والكادحين والمنبوذين، بل كانت تلك الأرض العارية، أرض الخيال المُنسرح الذي أخذ يتجسَّد ثورياً بشكل مغاير لثورة العموم المديني بين حواف ساحة الاعتصام وضفاف النيل الأزرق. أو بالأحرى، هي أرض التشظي الذي انسفح إلى مُيَتَّمين مُتيَّمين، من تَفَّرق شملهم الوجودي بوصفهم مطاريد من فردوس الثورة إلى جحيمها الحوافي الهامشي، أي بوصفهم كائنات فائضة عن حاجة المجتمع والثورة معاً، على ذلك النحو الذي أخذ لا ينزع عنهم صفة الثورية فحسب، ولكنه كان يمُعن أيضاً في تجريدهم من حيوية الكائن العاري السادر سعاره النجمي بين فلوات خياله الثوري العابر من الوعي إلى اللاوعي. لأنه سرعان ما شكَّلت فئات كبيرة من الثوار في ساحة الاعتصام موقفاً ثورياً مُضاداً للحيوية الوجودية لشعب كولومبيا، مُوغلين في الترسيم الأخلاقي والسياسي بين حدود فردوسهم الثوري وجحيم اللاثوار المنُحلّين الخلعاء السُفهاء.
إن أرض كولومبيا تجسَّدت من خلال خيالها الثوري الجامح بوصفها وطنَ طُلقاء الصيرورة المقصيِّين دوماً من فعل ثورة العموم المديني وجوهرها الخالص البعيد المنال والعصي على التحقُّق. فكما يُصوِّرهم المخيِّال المخملي لثوار الاعتصام، فهم ليسوا جزءاً من كرنفالات الفعل المحموم والمحلوم الذي أسقط النظام ويروم تأسيس دولته المدنية، دولة الحقوق والمساواة والمُواطَنة، وذلك بوصفهم سفهاء الثورة وسَقَط مَتاع مجتمعها الأخلاقي ــ الانضباطي الحديث التشكُّل في ساحة الاعتصام. إن كولومبيا بوصفها حدثاً ليلياً لمجتمع حوافِّيٍّ، شعبٌ من البرق الخاطف بين الغيوم والأمواج، مرتحلٌ دوماً بين اللاوعي والوعي، بين الفردوس والجحيم، هي أرض استكشاف واستنطاق للحدود القصوى التي لن تقوى هذه الثورة أن تَعْبُرَ إليها بكامل وعيها المديني ـ النخبوي الخامل نهاراً أو ليلاً: أي العبور إلى القاع السفلي للمسحوقين والمقصيِّين والمنبوذين الذين لا تُعبِّر عنهم الثورة بمطلق حال وجودهم المنقوص ونظرتهم المُتشكِّكة حيال كل ثورة لن تحقق في نهاية المطاف سوى مطامح سدنتها. لقد جسَّدت حوافُّ أرض كولومبيا الُحرَّة رمزية الحدود القصوى لأي ثورة اجتماعية كانت: أي عجزها الكامن في نخبوية ساحة الاعتصام عن التعبير الحقيقي عن مجتمع سفلي، مَقصيٍّ، محرومٍ ليس من تحقيق مطالبه ضمن الطيف الشبحي الواسع لمطالب الثورة فحسب؛ ولكن حتى من حرية أن يُعبِّر بمُطلق حال وجوده ’’الساي‘‘: أي ذلك الوجود المُنسفح الطليق الذي يحمل بين جوانحه شعوب خياله الشائك الوعورة والشديد الشراسة في علاقته بالوجود والحياة اليومية.
لم يكن شعب كولومبيا حُرَّاً وطليقاً في اختياره للثورة بوصفها حجيمه الخاص فحسب، ولكن أن ينزل أيضاً بخياله المُجَسَّد ضيفاً ليلياً دائم الحضور بين ضفاف اليابسة وحواف الماء، بوصفها أرض الوداعات الأخيرة لثورة سوف تُخصي ثوَّارَها قبل أن تخون مطالبهم.
لم يكن أهل كولومبيا ثواراً، بل كانوا طُلقاء الصيرورة وملاعينها، شعباً من الكائنات الطليقة التي تسمو طلاقته الجذرية فوق أي جذرية من صميم أيِّ فعل ثوري. كانوا عُراة الحواف والليالي والضفاف، شعباً من السحرة والمُنجّمين الذين أخذوا يتنكَّبون دروب الخيال، سادرين في لا جهات النجم، شاهرين خيالاتهم الناحلة، ناسلين منها غلالاتٍ شفَّافة لعُراة مثلهم من مستقبلٍ قادمٍ بلا مجتمعات.
من اللافت حقاً، أن فئة كبيرة من ثوار ساحة الاعتصام كانوا يعبرون ليلاً أرضهم المخصيّة إلى أرض شعب كولومبيا الخصيبة الحرَّة، مُستروِحين وعائدين مُحمَّلين بما خفَّ حمله من غيوم الخيال وبروقه اللامعة. هي ذات الفئة المخملية التي انخرطت في نميمتها النخبوية المديدة وأخذت تجرح في لا ثورية شعب كولومبيا، وبأن كولومبيا لا تُمثِّل ساحة الاعتصام: وكأن ساحة الاعتصام كانت تُمثِّل أحداً بعينه أو حتى مجموعة بعينها؟ هي ذات الساحة اللعينة التي أخذت، في أيامها الأخيرة، تُصنِّف زوَّارها وتُنمِّطمهم اجتماعياً وفئويّاً، مُمْعنةً في مسخهم من ثوار حالمين ومشعوذين أحرار إلى كسالى سياسيِّين نهمين لقطف ثمرة الوجود الطليق المُحرَّمة عليهم. فهذه الساحة، لم تشكلَّ إلا وعداً سياسياً زائفاً ليوتوبيا ثورية لن تنال سوى بقايا الفتات المتساقط من موائد التفاوض والتسويات والتوافقات: لن يبقى من ساحة الاعتصام، كحضور جمالي وذكرى وقيمٍ ناشدةٍ للحياة، إلا شهداؤها الذين سقطوا قبل أن تسقط ساحتهم من خيال نُشطاء الأسافير الفقير. لن تَبقَى إلا بذرة الحميميِّة الثورية المُجَّربة وروحيَّتها الجمالية التي تسمو فوق أي سلام سلطوي وفوقي لم يَقُدْ ولن يُفضيَ إلا إلى مزيدٍ من النزاعات والحروب الأهلية.