في إعادة جندرة المعرفة والعلوم: الأبستمولوجيا النسوية نموذجاً

لقد تمظهر انقلاب الذَكر جليا في فكرة الحضارة وأبنيتها وفي فكرة العقل نفسه، لا أقصد الانقلاب الشق الأول من ثنائية الانقلاب والهزيمة التاريخية للجنس النسائي بالتحليل المادي للتاريخ، لا؛ فالتحليل المادي للتاريخ مجرد طوبى ووهم وخرافة.
لنا أن نرى ما ترتب على ذلك، على مصادرة الذكر أولا لمفهوم العقل، لقد غدت مختلف الخطابات الإنسانية (المعرفية والعلمية) مجسدة للذكورة وقيمها، تصب في فكرة المركزية الذكورية، تطابق الخبرة الإنسانية بالخبرة الذكورية وتعتبر الذكر موجد العقل والعلم والفلسفة والتاريخ والحضارة، ما جعلها خطابات منحازة.
عندما ظهرت الفلسفة النسوية قامت بتعرية تلك الخطابات الذكورية الجوهر ،وكشفت زيف فكرة الموضوعية العلمية والمعرفية،و هو ذات المنعرج الذي الذي ظهر مع ما بعد الحداثة وما بعد الاستعمار كأهم وأكبر المابعديات التي احتضنت بداخلها تيارات نقدية قوية للحضارة الغربية.
تضافرت الفلسفة النسوية مع كليهما لإعادة قراءة فكرة المركزية الغربية بشكل نقدي كمركزية ذكورية، كما أنها أعادت أيضا قراءة الخطاب الإنساني المعرفي والعلمي بشكل نقدي استجوابي، يناهض فكرة تهميش وإجهاض الإسهام النسوي بداخله وتوظيفه لإعادة إنتاج تراتبية الذكورة والأنوثة المختلة بجانب تشكيكها في أعلى قيم ذلك الخطاب وهي الموضوعية.
بدأت الفلسفة النسوية بالتوسع بشكل كبير تحديدا في نهايات الموجة الثانية وانبثقت تيارات فلسفية تعبر عن ولوج الفلسفة النسوية لمساحات معرفية محكمة الذكورية، وكفلسفة العلم ، ما أدى الى ظهور فلسفة العلم النسوية في بداية ثمانينيات القرن المنصرم وأحدثت تحولا لا يخفى بميدان فلسفة العلوم والمنهج العلمي (الميثودولوجيا) ونظرية المعرفة.
شملت الأبستمولوجيا النسوية قراءات جديدة لقضايا من قبيل أخلاقيات العلم وقيم الممارسة العلمية وعلاقة العلم بالأبنية الحضارية والمؤسسات الاجتماعية بجانب علاقته بالأشكال الثقافية المختلفة واتخاذه أداة لقهر الشعوب والثقافات الأخرى ‘*” .كان العام ١٩٨٣ ميلادا فعليا للأبستمولوجيا النسوية بفضل كل من ساندرا هاردنج وميريل هينتيكا بأطروحتهما:” اكتشاف الواقع : المنظورات النسوية الأبستمولوجيا والميتافيزيقيا والميثودولوجيا وفلسفة العلم ” كأطروحة جامعة لعدد من الإسهامات النسوية في المجال.
قامت هاردنج بعدها بإشعال مجال فلسفة العلم النسوية بأحد أقوى أطروحاتها ” سؤال العلم في النسوية “.
تثبت فلسفة العلم النسوية أن العلم ليس مجردا عن الجنوسة والجنسانية والذاتية وأيدولوجيا المجتمعات التي أنتجته (الذكورية) ، إذ تقوم بتفسير ظاهرة العلم الغربي في سياق الجنوسة وتأثيرها على مفرداته ومشاريعه ولغته ومضامينه، الأمر الذي كان مقبولاً في الأدب والفنون والنقد الاجتماعي والأنثروبولوجيا والنظرية السياسية تكفّلت فلسفة العلم النسوية بإنجازه في أخطر الميادين .. العلم الحديث “**”
عرّت فلسفة العلم النسوية العلم كأحد أقوى السرديات القائمة على المنهجية والموضووعية إذ ترى أن هاتين السمتين لا وجود لهما اليوم في ظل التحولات الكبيرة التي طرأت على فلسفة العلم وتاريخه والسوسيولوجيا الخاصة به.
إن نظرية المعرفة النسوية كأحد الاعتبارات التي انطلقت منها فلسفة العلم النسوية تقودنا إلى طرح أسئلة محورية من قبيل:
١/ هل الذات العارفة تدرك الأشياء بمعزل عن تدخل الذات بأهوائها ومصالحها وتحيزاتها وخلفياتها المعرفية والايديولوجية؟
٢/ ما مدى صحة ما يستند عليه الاتجاه التجريبي الوضعي، أي اعتبار الملاحظة الحسية مصدرا دقيقا لكل معرفة موضوعية وأن المعرفة وموضوعاتها تنفصل عن الذات العارفة؟
تجيب فلسفة العلم النسوية على السؤال الأول بالنفي وتمضي إلى أحد فرضيات نظرية المعرفة النسوية فترى أن المعرفة ترتبط ارتباطا عضويا بالذات العارفة من حيث دورها المحوري في عملية المعرفة، أي أن الموقف المعرفي لذات الأنثى يختلف عن الموقف المعرفي لذات الذكر، إنها ترى أن التضافر بين الذات العارفة والمنهجية العلمية أضحى آلية من آليات البناء المعرفي. بينما تتعامل فلسفة العلم النسوية على السؤال الثاني برفضها لأساس الاتجاه التجريبي الوضعي والأحادية في المنهجية العلمية بجانب إثباتها لعلاقة الترابط بين المعرفة والذات العارفة .تقودنا كلا الإجابتين للتحدث عن كل من نظرية المعرفة النسوية والمثيودلوجيا النسوية كأسس فلسفية حكمت فلسفة العلم النسوية:
نظرية المعرفة النسوية:
تعتبر نظرية المعرفة أحد الأسس الفلسفية المتينة لفلسفة العلم بجانب كونها أحد الفروع الثلاثة الأساسية للفلسفة (المعرفة والقيمة والوجود).
بحثت نظرية المعرفة النسوية مثل بقية مباحث نظرية المعرفة في شروط المعرفة ومصادرها ومعاييرها ومناهجها وعلاقتها بالذات العارفة في العملية المعرفية لكن من حيث الجنوسة تضع نظرية المعرفة النسوية فكرة الذاتية صوب نظرها وتوليها أهمية كبيرة، مستفيدة من الرؤى المعاصرة لمفهوم الذاتية في كل من الفينومينولوجيا والبنيوية والتفكيكية ورؤية هيدجر.
استعانت نظرية المعرفة النسوية بالتفكيكية ومناهجها ففككت مفهوم الذاتية ودوره في الفلسفة الغربية الذي وصفته بأنه الدور اللاشرعي أو المسكوت عنه.
فككت جوانا هودج الذاتية الذكورية عند ديكارت ووعيه العقلاني عن الجسد كما أسهمت العديد من النسويات في تفكيك الذاتية وتقاطعها مع الجنوسة على المستوى السياسي “*”.
إن مفهوم الذاتية ليس ضبابيا بقدر ما هو عمومي، لذا فإن نظرية المعرفة النسوية مايزت بين المفهوم الأبستمولوجي للذاتية الذي طوره التجريبيون أمثال هيوم وبين المفهوم الأنطولوجي للذاتية الذي يمايز بين ذاتي الذكر والأنثى في الموقف المعرفي .
لا يمكننا أن نمضي في المفهوم الأنطولوجي للذاتية بمعزل عن إسهام لورين كود فيه وتعزيزه داخل نظرية المعرفة النسوية وفلسفة العلم النسوية عبر تفجيرها لسؤالها الشهير: هل جنس العارف مهم من الناحية الأبستمولوجية؟
تجيب الابستمولوجيا التقليدية المبنية على فكرة الموضوعية بالنفي، أما كود فتؤسس للإجابة بـ ” بلى” انطلاقا من الأبعاد الاخلاقية للموقف الأبستمولوجي والمسؤولية الأبستمولوجية.
المثيودولوجيا النسوية:
استندت فلسفة العلم النسوية على المثيودولوجيا النسوية التي ناهضت الأحادية في المنهجية وتبنت تعدديتها من فيلسوف العلم بول فيير آبند ، تنادي المثيودولوجيا النسوية بالنظرة المحدثة للمنهج العلمي والتي تقوم على أسبقية الفرض على الملاحظة، بجانب أنها تنفي النظرة التقليدية للعالِم في العلم بشكل عام ، الفكرة التي ترى في العالِم مجرد عقل يلاحظ ويفكر ويجرب ، فالموضوع والذات بالمثيودولوجيا النسوية ثنائية يعمل شقاها بشكل جوهري في عملية المعرفة.
لم تكتفي فلسفة العلم النسوية بتشيد نظرية المعرفة النسوية والمثيودلوجيا النسوية وحسب ، إذ أن ساندرا هاردنج قد أضافت أنها نشأت عن تجادل ثلاث مقاربات نسوية وهي: التجريبية النسوية ، الموقف النسوي وما بعد النسوية.
ترى التجريبية النسوية أن التجريبية بشكلها الكلاسيكي التقليدي (الوضعية وتطوراتها) في فلسفة العلم عملت على إقصاء العلم عن الأبنية الاجتماعية والمؤثرات الثقافية وفكرة مناهضة الفلاسفة الوضعيين الشعواء لفكرة التشكل الاجتماعي للمعتقدات العلمية لعبت دورا مهما في شكل الوضعية التقليدي “**” .
أما الموقف النسوي فيميل لتعرية اللاموضوعية والانحياز الذكوري والقراءة النقدية للنصوص فتتعامل مع العلم بشكل نصي أي النظر إلى المحصلات العلمية كنصوص تقرأ للكشف عن جوهر التحيز.
رأت هاردنج أن الموقف النسوي انطلق من رؤية هيجل للعلاقة بين السيد والعبد التي طالت ماركس وإنجلز ولوكاش والتي قوامها أن سيادة الرجل للحياة الاجتماعية أدت الى انحياز في الرؤية وقصور في النظرة ساد سائر الأبنية الثقافية بما فيها العلم ، فجعلته أحادي الجانب ، ذكوري ، يعمل الموقف النسوي على تقديم المنظور الأنثوي والقيم الأنثوية لتتكامل معها “٥”
والمقاربة الثالثة هي ما بعد الحداثية النسوية تعني فحص وصياغة مفاهيم العقلانية والموضوعية وغيرها من المفاهيم بشكل جديد ، وفي ارتباطها ب ما بعد الاستعمار تناهض فلسفة العلم النسوية المركزية البيضاء والاستعمار والرأسمالية وسائر الأنماط الهيراركية التي تصب في مصلحة المركز “٦”
من هنا سنلحظ أن فلسفة العلم النسوية لم تمثل تيارا نقديا للأبستمولوجيا وحسب بل أسهمت في تفنيد فكرة التمركز حول الرجل الأبيض ” العالـِم ” العقلاني ، وفي تفكيك هالة القداسة المحيطة بالعلم بسبب موضوعيته وصرامته. لقد عرّت فلسفة العلم النسوية العلم الحديث كأداة يوظفها الأبيض لقهر الآخر سواء كان امرأة أم شعوبا أم ثقافات بجانب أن توظيفه بهذا الشكل يعمل بشكل كبير على تغييب إنسانية الإنسان ،أي أن الابستمولوجيا النسوية قد رفضت العلم العنصري الطبقي القاهر اللإنساني ، إنها لا تعيد قراءاته بشكل نقدي وتعيد موضعة الأنثى داخله وحسب إنها تقوم بعملية ” إعادة أنسنة العلم” ،هذا التضافر بين فلسفة العلم النسوية وما بعد الحداثة وما بعد الاستعمار أدى إلى تشكيل موقف فلسفي قوي لفلسفة العلم النسوية ضد الاستعمار ،إذ لا يمكن أن نتحدث عن سيادة تمركز الحضارة الغربية بمعزل عن الاستعمار والعقل الحداثي الذكوري التجريبي النازع الى السيطرة على الطبيعة والآخر بواسطة آليات العلم، لقد مثل هذا العقل الحداثي الذكوري الأبيض الأساس الأيديولوجي للاستعمار “٧”.
شوهت المركزية البيضاء الآخر بوصفه امرأة أو شعوب العالم الثالث و شوهت الطبيعة.
جنبا إلى جنب مع فلسفة العلم النسوية وانطلاقا من فكرة النظر إلى العلم من الخارج مع التأطير التاريخي والاجتماعي التي أتى بها فيلسوف العلم توماس كون عملت الفلسفة النسوية بتياراتها كفلسفة تحررية ليست للمرأة وحدها بل للبيئة والثقافات والقوميات وشعوب العالم الثالث من براثن الاستعمار كأقوى تمظهر للذكورة البيضاء وفلسفتها.
فيلسوفة العلم النسوية ماك كلينتونك في إطار دراستها لحركات المد القومي ودورها في قهر الاستعمار قامت بنحت تعبيرين مجازيين مهمين هما: الزمان المنطوي على مفارقة مكانية والمكان المنطوي على مفارقة زمانية الأول تقصد به تمثيل الكوكب برمته انطلاقا من بقعة واحدة (المركزية الغربية). أما الثاني فترمي به إلى صورة الآخر عند الغربي الأبيض كرجعي متخلف فيقوم بالحكم على النساء والمستعمر على أنهم خارج المكان المتحضر والحداثة “٨”
بهذا سارت فلسفة العلم النسوية في اتجاه تقويض المركزية الغربية الذكورية ومناهضة وتفكيك الاستعمار كأحد إفرازاتها كما أنها رفضت فكرة كون العلم مؤسسة بيضاء موضوعية ونادت بديمقراطية العلم وانفتاحه وتعدديته الثقافية والاعتراف بالآخر وأنسنته.
إن فلسفة العلم النسوية نموذج حي لإعادة موازنة الخطاب العلمي والمعرفي وقراءته بشكل جديد دون هالة القداسة المضروبة عليه ، إنها أحد أقوى النماذج الفلسفية النسوية في فكرة إعادة جندرة الخطاب.
المراجع :
“*” – Y.T.kholi femenisim and epstimology p.7
“**”- birth of femenist epstmology , Femenisim and epstmology Y.T.K p.47
“*”- J.Hodge : body & exclusion of women from philiosophy in femenist prespectives in philosophy p.152-168
“**” & “5” Y.T.K femenisim and epstmology p.48- 49
“6” & “7” Y.T.K femenisim and epstmology p.64-65
“8” Mc clintock : gender and sexuality in the colonial cotext