وُجـُــود
لا تسرف كثيراً، فقط ما يكلفك لذة الشعور بالعالم من حولك كشيء مختلف، ليس كالساعات التي تمضي بلا توقف ولا الأمكنة التي تملؤها الرتابة، لكن، كوجود تسمع له صوتاً، يرن في أذنك و يشدك لتفتح عينيك على آخرهما لترى الإختلاف، مثلا كأن تكون لكل الأشياء حواس، أو أن تسمع ليلاً صرير جنادب جائعة في الشارع و أنت في طريقك للمنزل، منزلك،الذي نام كل سكانه، زوجتك التي أرهقها التفكير بمصيرك، فاستسلمت لشبح النوم وهو يلجها، و طفلاك اللذان انتظراك ما يكفي من الزمن لتقص عليهما حكاية ما قبل النوم. شعورك و أنت تقترب من بابك الذي تعرف أن خلفه يقبع سرير دافئ ستستلقي عليه حتى يعود العالم شيئاً عادياً، ملمس شراشف سريرك الدافئ وأنت تضع يدك عليه للمرة الأولى كأنه عذراء خائفة، حديث زوجتك و هي بين عالمي النوم والصحو متمتمة بحديث تقول فيه ما تفهم أنت أنها عرفت بقدومك، الآن ستنام بكل جسدها وستخضع كليا لشبح النوم الذي يداعبها. هذا الوجود الذي لا تشعر به إلا حينما تقذف في عمقك كؤوسا متتالية من هذا الذي تشرب، تسلم روحك كليا لمخزون السائل داخل الزجاجة، وتسلم جسدك لشفتيك، كما يحدث لعاشقٍ في قُبلته الأولى، تضعهما على حافة الكأس، ويكتمل الحديث بدون مجهود كبير منك، تظل تسكب وترتشف وتبتلع، حتى يدق الليل طبله، ويبدأ الكون، تدريجياً، بالرقص على أنغامك، حينها ترى الوجود جميلاً جداً، لأنك وقتها تكون في قمة الجمال، وإبتسامتك لا تفارق جسدك _ شفتيك _ تثمل وتسقط منك عيناك ، ويرفرف صدرك عالياً بكل ما بداخله، لكن، لا تسرف، كن فقط على بعد خطوة من الزوال، حافظ على وجودك الهزيل الذي ترى من خلاله كل الوجود جميلاً ، ومختلفاً، وتستطيع بكل سهولة أن تبتسم.
تعرف جيداً أنك تمقت العالم العادي مقتاً لا حد له، و تكره في سرك كل حياتك التي أنشأتها وأنت تحاول أن تكون عضواً فاعلاً في العالم العادي، ولا ينقذك من هذه الكراهية إلا شعورك بإستطاعة تلوين العالم في أي لحظة تكون فيها يداك حرتان لتمسكان بكأس و تلقي بكل ثقل جسدك على شفتيك. لا تقر أنك تفر فراراً من عاديتك، و لكنك تظن أنك تحل الإثارة محل الرتابة، لا تستطيع إكمال حديث عاديٍ مع زوجتك العادية، إلا وتتركها خلفك تقذف عليك حمم الكلمات، التي قطعاً تخطئك و لا تصيبك، ثم لا تلبث نيافتك أن تعود، مبتسماً، وعيناك مُدَلَّاتان لتحتضن زوجتك وتقبلها على جبينها الساخن وكأن مصنعاً للإسمنت بداخله، لا تشعر هي بالأسف لك، ولكنها تشعر بالأسف عليك، أنت حتماً لا تفهم هذا، بل بكل ما فيك من إبتسام تأخذها برفق إلى كونك اللاعادي وتغيب فيها، حتى يعود الكون لرتابته، و تستيقظ أنت ،شاعراً بصداعٍ يكاد يشقك، وتقطيبةِ جبين، وشعرٍ مُشَعَّثٍ، ووضعية نوم مقلوبة، في حين أن المكان بجانبك فارغٌ إلا من ما ينبئ عن أخبار ما جرى وقت لم تكن عادياً.
هذا ما يجري عادةً، ولكن آخر مرة كان الوضع مختلفاَ ، فحين عدت،مدلّى العينين، باسط الذراعين، لإحتضان زوجتك، صدتك يدان ناعمتان، مبللتان، حتى ابتل صدرك جراء لمسها لك، أصبح كأن صدرك يبكي، لكنك تقدمت وحاولت تقبيل الجبين الذي كان سينفجر، بيد أن الذي إنفجر كان إحدى اليدين الناعمتين، عرفت ذلك حينما أحسست بخمس أصابع مبللة بالدموع ترتطم بسطح خدك الأيسر، توقف الكونان لحظةَ، وغابت زوجتك في الفراغ. خرجت أنت من حيث جئت، باحثاً عن مخرج من وحل الرتابة و الإعتياد الذي أوقعك فيه صوت الإرتطام.
توقف، الوقت يمضي، و عليك أن تستريح، كما أني أراك في طريقك للإسراف، لكن ما أستغربه، هو وجود الكون الذي ما زال عادياً ، بالرغم من جسدك الذي أصبح شفتان، تلتصقان بالجدار الزجاجي الرقيق و تمتصان ما يجعل العالم مختلفاً، الغريب أنك ما زلت ذا وجودٍ باهتٍ، ولا تشعر بحواس الأشياء، ولم يضرب اللليل طبوله بعد، لتحرك ساقاك مع ساقي الكون و ترقصان على أنغام الوجود النافذة إلى العمق . أراك، مدلى العينين، مرتخي الذراعين، وموغلاً حد الغرق في الإعتيادية، تلفك رتابة آتية من عمق سحيق، ولا تجدي شفتاك، أصبحت يبساً كزهرة نبتت على حجر. توقف، لا تمضِ أكثر من ذلك في السكون، لا تسرف في وجودك العادي. توقف، لا تزول إلى لا شئ، لا … يبدو أنه لا مناص، أنا الذي سيتوقف.