لا أُنكِر أنَّ بعض أداءات الراحل شول منوت لِنشيد (أنا سوداني) تُحرّكني كثيراً.
فقد كان هذا الشاب الوسيم يستحْضِر كلَّ أحاسيسهِ الوجودية تِجاه تلك التجربة المُسمّاة بالوطن، وهو يُعاظُل كلِمات نشيدها (المندوكوري الأملس الخبيث)، وفِي ظَنِّهِ أنَّهُ يُعلي مِن شأنِ القوميّة والهويّة السودانية وينفخ في مزامير محبتِهِا ومحبّةِ الوطن.
لذلك تجده يُؤدّيها بهذِهِ المحبّة وبانتشاء يبدو على وجهِهِ وحركات جسمِه النحيل.
وقد بادلته الجماهير المحبّة. (وَ يطرب (ود العرب) في سرِّهِ لِسِحْر لسانِه المُبين الفصيح وَهو يجري على ذلك اللِسان (الأغلف!).
والنشيد حلو، النصيحة (لِللّاه!). فَفيهِ جزالةٌ واحتشاد موسيقي آسِر، يُسْهِم فيه تكرار النون المُشْبَعَة بالضّمّ. وفِي لغتِهِ واختيار مفرداتِه فصاحةٌ كلاسيكية، مع قدرةٍ شاعرية مُدهِشة في صياغة مقاطع وجمل شعرية متفرّدة حافلة بالمفاجآت.. وبالتقديم والتأخير في مكونات الجمل.
تأمَّل هذا الإفتتاح الجَزِل، في التولُّهِ بالوطن، الذي تزيده بهاءاً هذِهِ (النونات) الصاخبة (على خدّيِهِ):
كلُّ أجزاءِهِ لنا وطنٌ إذ نُباهي بِهِ وَنَفْتَتِنُ
نتغنَّى بِحُسْنِهِ أبداً دونَه لا يروقُنا حَسَنُ
حيثُ كنّا حَدَت بِنا ذِكَرٌ ملؤها الشوق كلنا أمِنُه
كلمات برنينها وحُسْن سبكِها تمسّ شِغاف قلب (كلّ سوداني؟)، وتُلهِب دلالاتُها الأشواق (النوستالجية) عند أبنائِه المُبعْثَرين في شعاب الداياسبورا!
انظر كيف يُحْدِث تقديم النعت وتأخير الفِعل وتأجيل الحال، مِن مفاجآت في مُتابعة حركة اللغة.
ثُمّ اسمع كيف تفعل السنسنة والشقشقة، التي تخلقها السينات والشينات والنونات والقافات، في جرِس النشيد وهو يخطو كأوركسترا- بكامل طاقم آلاتِها نحو الخاتمة:
يا بلاداً حَـوَت مآثِرَنا كالـفراديس فَيْضُـها مِـنَنُ
قَد جرى النيلُ في أَباطِحها يَكفِلُ العيشَ وهي تحتَضِنُ
رقصت تِلْكُمُ الرياضُ لَهُ وتَثَنَّت غُصُونُها اللدُنُ
وتغنى هزارُها فَرِحـاً كَعشوقٍ حدا بِهِ الشجنُ
حَفِلَ الشّيبُ والشبابُ معاً وبتقديسِهِ القمينِ عُنوا
نحنُ بالروح للسودان فِدا فَلْتَدُم أنتَ أيُها الوطَنُ
واللحنُ مندلقٌ بسلاسة عجيبة على صوت العطبراوي المتداخل الأبعاد. وصوت العطبراوي (بَلَدي)، تَسْتَطعمه كما تستطعم (الحلومر)؛ فَفيه تتخالط طبقات لتعطي ما يشبه ال تون المُهرْمَن (harmonized tone) فَمِثلما تذوق في (آبري الحلومر) مذاقات متعددة في ذات الوقت مِن حلاوة وحموضة وحداقة وسلاسة، كذلك يندلق في الأذن صوت العطبراوي (وَأبو داؤود كمان).
بدا لي أنّ العطبراوي قد استوعب مفاصل القصيدة والتقط بِحِسٍّ عالٍ موسيقى المقاطع الشعرية فيها، بحيث نجح نجاحاً باهِراً في إلباسها لحنّاً مُوفّقاً شجيّا. شعبية النشيد جاءت إذاً من لقاء هذين العملاقين.
كيفَ إذاً، يكون هذا النشيد الفتّان والمحبوب لدى (كافة؟) السودانيين؛ هو نشيد (مندوكوري أملس وخبيث)؟!
هو النشيد دا بِيقول شِنو؟ أو نَحنُ و(اللغة العربيّة الفُصحى):
طبعاً هذا النشيد مكتوب بلغة (نوعية لغوية) ليست مفهومة تلقائيا للقطاعات التي لم تحظ بالتعليم، بل حتى للمتعلّمين أنفسهم. وفي العادة، تستوعِب الغالبية من جمهرة المُسْتَعْرِبة مثل هذا الشعر -أو النصوص بعامة- بلِا التفات لِلمعنى، والإكتفاء (بالإحساس) بالنص على نحو عاطفي مُوجب(1)، ومن ثمّ حفظه بكثير من العُثر الذي يَتبدّى حتى في ترديد المتعلمين له.
وعلى ذِكر (الأباطِح) ما بعيد -أو مُؤكّد- يكون في ناس كتيرين ما عارفين معناها شِنو وعاجباهم بس كِدا، والعاجبهم أكْتر كمان (فصاحتها غير المفهومة دي!)، فالشِّعر من وادي عبقر؛ والفنون جنون!
المهم، النص ليس سهل الاستيعاب عفوياً (not spontaneously accessible)
فهو من لغة النصوص الكتابيّة الأدبيّة (الفنيّة) التي علّمتنا المدرسة أنّ نحفظها هكذا دون كثير مساءلة للمعنى. وقد أمضينا معظم الوقت في دراسة اللغة كأداة (تعبير فنّي) لا كَأداة (اتصال وتواصل اجتماعيّ)*1 ، فإنَّ علاقتنا باللغة، بصراحة، معطوبة!
طيّب نرجع تاني للنشيد!
نشيد أنا سوداني، نشيد حَسُن النيّة أراد أن يتغنّى للوطن وبِهِ، ويشيد بِأَهلهِ ويهجو أعداءه. لكنّ واقع الأمر، أنّ النشيد يضلّ الطريق في تعريف الوطن وأهله وأعداءه!
فحين شرع كاتبُهُ في تأصيل أهل الوطن وهويتهم، لم يطلبهم في واقعِهم الإثني الثقافي أو الجغرافي أو التاريخي؛ إنما لجأ لِوهمة العروبة يسْتَمِدّ من مجدها مجداً للأمّة الوليدة في قولِهِ:
أيُّها الناس نحنُ من نفر ٍ
عَمّروا الأرضَ حيثُما قَطَنوا
يُذكَرُ المجدُ كلمّا ذُكِروا
وهو يعتزُّ حين يَقتَرِن
وهذا التعريف الصمد لهوية السودان كبلد (للعرب المسلمين)، دون أقوام السودان الأُخرى، كان من بنات أفكار الصفوة النيلية المستعربة التي تَوّلت أمر البلاد في أعقاب الإستقلال، والذي بموجبِه خلقت دولة قائمة على مركزية ثقافية عربسلاميّة؛ تجاهلت ثقافات غالبية أهل البلاد. وعلى مركزيّة سياسية اقتصادية همّشت معظم مناطق السودان. باختصار خاطت وطناً أضيق من سكّانه، فانفتق!
كتب الناقد محمد نجيب محمد علي، في ذكرى رحيل الشاعر:
” أراد المستعمر تقسيم السودان إلى قبائل وإثنيات تتحدث عن القبيلة أكثر من الوطن الواحد، وقد قابل مؤتمر الخريجين ذلك بالرفض الشديد والدعوة إلى هوية سودانية جامعة(2)، ومن بين هؤلاء كان الشاعر محمد عثمان عبد الرحيم الذي أطلق صيحته الأولى الشهيرة “أنا سوداني” عام 1947 والتي جسد فيها الهوية السودانية العربية والإسلامية، يقول فيها:
دوحة العُرْب أصلها كرم
وإلى العُرِب تُنْسبُ الفِطَنُ
أيقظَ الدهرُ بينهم فتنٌ
ولكم أفنت الورى الفتنُ
أنا سوداني أنا” (انتهى).*
ولم تستَطِع هَذِهِ الصفوة وهي سعيدة باستقلالها وعَلَمِها أنّ تستوعب تَظلّمات
أهل السودان المُهمّشين. ويعكس النشيد رؤيتها للصراع الذي نَشَب في الطريق إلى الاستقلال. فَهيَ لا ترى في الأمر مظالم ثقافية واقتصاديّة وسياسية: إنما هي الأحقاد والإحِن التي تتنزّى في الصّدور:
وكثيرونَ في صُدورِهم تتنزى الأحقادُ والإحنُ
فأجداد هؤلاء المستعربة (أحفاد العبّاس):
نزحوا لا لِيَظْلِموا أحدا لا ولا لاضطهاد مَنْ أمِنوا (3)
فالعرب أهل كرم وعدل (كيف؟ -كِدا بس)
دوحةُ العُرْبِ أصلُها كرمٌ وإلى العُربِ تُنسَبُ الفِطَنُ
ردّد الدهرُ حُسْنَ سيرتِهم ما بِها حِطةٌ ولا دَرَنُ
لا يمكننا إغفال أن النشيد بدأ بـِ:
كلّ أجزائِهِ لنا وطن إذ نبالي بِها وَنفتتِنُ.
وفيها اعتراف ما بِتنوّع ما، كان جديراً بالالتفات إليه. لكن تلك الصفوة كانت مستلبة ومُتنازعة ما بين واقعها والثقافة المدرسيّة (الخديوية) التي نَشَأَت عليها. ومع حالة الفصام هذي، والتي تُرجع كل شيء إلى الماضي؛ فالغالب أنّ كلمات مثل (الوطن) و(الأمّة) و(الهوية) لا تستدعي الواقع الماديّ المُعاش .. لا تستدعي السودان بأجزائِه المُختلِفة، وأقوامِهِ المُتعدّدة. لأنّها ككلمات مدرسيّة تبقى أسيرة حاضِنتها الأيدولوجيّة العربية الإسلامية؛ فَهي تستدعي عوضاً عن ذلك هَذِهِ النوستالجيا الماضويّة (لأمّة) تاريخية يفتخِر المجدُ بالإقتران بها ولها تُنسب الفِطنُ.
وهكذا فإن هذا النشيد على طلاوتِهِ وحلاوتِهِ يخفي في تلافيفِه جرعة علقم!
الهوامش:
(1) علاقتنا باللغة تحتاج لكثير من البحث والدراسة
(2) رحيل الشاعر السوداني محمد عثمان عبدالرحيم
(3) (حَنَك اليانكي والياباني!)