غوايات

أولاد حِلّتنا

بقميص أبيض، وحذاء بلاستيكي رخيص، وبنطال أخضر ممزّق، في جيبي قليل من الحلوى وكثير من الفول السوداني، أركض في ساحة المدرسة، أضرب هذا في عنقه فيطاردني هنا وهناك، أستغل غفلة ذاك النائم على الكنبة، وأكتب على قميصه “حمار للبيع”، أجري فوق الأدراج، أقفز من النوافذ، أشاغل تلميذا في الفصل المجاور: “أولى تمسك السلاح، تانية تفرك الملاح” يتجاهلني التلميذ، فأقذفه بحجر، يرد عليّ بمثله، أنادي رفاقي، فتبدأ حرب بين الفصلين، تستعر الحرب وتستمر دون هدنة إلى مجيء أستاذة إخلاص الجميلة، فتتوقف الحرب، نجري إلى الفصل ونتزاحم في بابه عند الدخول، يسقط بعض التلاميذ، فنطأهم بأحذيتنا البلاستيكية الرخيصة غير مكترثين، يجلس الجميع في أماكنهم، ويبدأ الدرس.

و بالمؤشر الخشبي، تشير أستاذة إخلاص إلى الحروف المكتوبة على السبورة، وتصيح بأعلى صوتها: “يلا كلكم قولوا معاي آ .. أسد ، باااا بقر، ثاااا ثور” نردد خلفها “آ أسد .. باااا بقر .. سااا سور” وكالعادة نقع في فخ عدم التمييز بين حرفي السين والثاء .

أستاذة إخلاص هي أم الفصل، كنا ننديها بـ ” سِت إخلاص ” تدرسنا العربي و الحساب، تعلمنا منها كيف نجمع شتات الحروف لنبني كلمة، ليس ذلك فحسب بل تعلمنا منها أيضا كيف نجمع شتات القلوب لنكون إخوة، تراقب نمو أفكارنا الصغيرة ومهاراتنا في التعلُّم، أما أنا على وجه الخصوص فكانت بجانب مراقبة نمو مهارتي تراقب أيضا نمو شعر رأسي الكثيف وأظافري، و تأمرني دوما بأن أحلق شعر رأسي وتقليم أظافري، كانت تتعب كثيرا داخل الفصل، تستمع إلى شكاوى التلاميذ التي لا تنتهي، تحنس هذا، تنتهر ذاك، تحذر آخر، كان لها صبر أيوب .

وفي كل الاختبارات التي تُجرى في فصلنا يحرز زميلي أبوالقاسم أعلى درجة، في حقيقة الأمر لم يكن ذكيًا أو سريع الحفظ، بل كان كثير القراءة والاهتمام بالدروس، لا يلعب مثلي داخل الفصل، وبعد انتهاء اليوم الدراسي والعودة إلى البيت، كان يمكث في البيت ولا يتسكع في الطرقات إطلاقًا. ورغم أنني كنت لا أعير دروسي أدنى اهتمام، وأقضي يومي لعبًا في الطرقات إلا أن فرق الدرجات بيني و بينه في كل الاختبارات ليس كبيرًا، وفي الغالب الأعم يكون التفاوت بيننا درجتان أو ثلاثة على الأكثر، وإن بذلتُ مجهودًا متواضعًا في القراءة لأحرزتُ درجة أعلى منه، لكن حب اللهو والتسكع ملك قلبي الصغير، وحبسني عن صعود سلالم المجد. ثمّة منافسة خفية بيني وبينه، تحدي غير معلن، لكنه مفهوم من خلال النظرات المتبادلة بيننا.

يسكن أبوالقاسم وأسرته بالقرب منا، يفصِل بيننا الميدان الكبير الذي يتوسّط حِلتنا ويُقسمها إلى أربعة أحياء صغيرة، الحي الشمالي وهو المتصل بمحطة ودعيسى ومنه تأخذ الرِياح في الأمسيات أصوات أغاني البخسة التي يعزفها النُوبة اللقوري، وأحيانًا في العصريات تتدفّق إيقاعات نُوبة الجوامعة الحرانية فنكتشف بأن الحي الشمالي كله متصوفة بِالفطرة، أما الحي الشرقي فيُعرف بحي الرزيقات نسبة لأن غالبية سكانه من تلك القبيلة، ويسكن المورو في الحي الجنوبي و يُسمى الحي باسمهم، أما الحي الغربي فيسكنه خليط من القبائل لذلك هو الأميز من حيث التنوع الثقافي، حيث يكوّن سودانًا مصغرًا، فأعراسهم متميزة ومختلفة، تجد فيها الحساني يلعب الكرنق مع النوبة، ويرقص الهدندوي المردوم مع البقّارة.

في الجزء الشمالي من الميدان الكبير يوجد سوق صغير يُعرف بسوق عمر نسبة لمؤسسه عمر الجزّار، وهناك مركز شرطة متواضع بالقرب من السوق يديره وكيل عريف ضخم الجثة يلقّب بالدوما. ومن مركز الشرطة إن و جّهت بصرك شرقًا يكون بإمكانك رؤية طاحونة ياسين القديمة، وهي الأقدم في الحِلة.

خُصص الميدان الكبير للمناسبات والاحتفالات العامة، حيث تؤدّى فيه الصلاة في العيد، ويضج بالدراويش والحلوى في موسم المولد النبوي، وعدا هذه المناسبات فهو بالنسبة لنا نحن الصغار مكان تجمُّع وساحة لعب تصلح لكل الألعاب.

لقد فُرضت على زميلي أبا القاسم عزلة منزلية قاسية، فبعد عودته من المدرسة يُمنع من الخروج من المنزل نهائيًا، كنا نراه في الأمسيات يمر من أمام الميدان الكبير حاملًا لوحًا خشبيًا، عرفتُ لاحقًا بأنه يذهب إلى خلوة المسجد الكبير لكي يحفظ القرآن كريم، وأنّ والده هو الشيخ مصطفى إمام المسجد وشيخ الخلوى.

كثيرًا ما سألت نفسي عن ماهية الصفات التي تجعل زميلي أبا القاسم مميزا عني، و كنت أشعر بالغيرة عندما يُكرّم في الحفل السنوي الذي تنظمه المدرسة في ختام العام الدراسي، لذلك قررت أن أفعل المستحيل لكي أكون مثله. كان قرار الذهاب إلى الخلوة من أول القرارت التي اتخذتها.

صُدمتُ من فظاعة المشهد عندما ذهبت إلى الخلوة، رأيتُ أطفالا جفّت بشرتهم من الجوع، وتسوست أسنانهم، وانتفخت لثاهم، يحملون بعناء ألواح خشبية كبيرة، قُيدت أرجل بعضهم بالسلاسل و الحديد، أتى بهم ذويهم من قرى بعيدة لكي يحفظوا القرآن في خلوة شيخ مصطفى، رأيتُ شيخ مصطفى يحمل سوطًا طويلًا يضرب به الأطفال بقسوة، شعرتُ بالخوف من هذا المنظر الغريب، فهربتُ من المسجد.

عدتُ إلى اللعب في الميدان الكبير مرة أخرى، يوميًا بعد عودتي من المدرسة، أرمي حقيبتي أرضًا، أُبدِّل ثيابي، ثم أنطلق إلى الشارع لألعب مع رفاقي، نلعب تحت الشمس التي تكاد تكوي الجلود من فرط حرارتها، نبدأه بلعبة الـ ” فلفلت” وفي العصريات “كرة القدم” حتى آذان المغرب، ويستمر اللعب على ضوء القمر، نلعب “شليل” لفترة طويلة حتى يصيبنا الإرهاق بسبب الركض المتواصل، فنتجمع في وسط الميدان، نجلس على الأرض في شكل دائري، نحكي الأحاجي و الطُرف وفي آخر الليل ينفض الجمع ويذهب كل واحد إلى بيته.

وفي فصل الخريف، عندما ينخفض ضغط الجو، وتحلق الطيور قريبا من رؤوسنا، تمتلئ السماء بالسحب الركامية المتقطعة، نعلم حينها بأن المطر سيهطل، نجتمع في الميدان الكبير ونبدأ بالدوران حول أنفسنا كما يفعل دراويش المولوية مرددين ” المطرة تعالي، أدينا تسالي” يستجيب المطر لندائنا البريء، فيرسل حبيباته المائية الباردة المتقطعة، نزيد في الدوران ونُلِح في الطلب، فينهمر بغزارة ويروي حبيبات رمل الميدان. نبني بيوتاً رملية صغيرة، نلعب بالقرب منها طِوال النهار، ثم نعود إلى منازلنا ليلًا ملطخين بالطين.

يجتمع كل أطفال حِلتنا في الميدان الكبير عدا زميلي أبا القاسم، يومياً بعد عودته من المدرسة يمكث في البيت يراجع دروسه حتى العصر، ثم يحمل لوحه الخشبي ويسلك طريق الخلوة، يمشي بخطى ثابتة، وملامح وجه صارمة وجادة، لا يتسكع في الطريق أو يتلفت، لا يلعب بالطين أو يتلطخ به، فهو تلميذ نظيف ومهذب. وذات مساء بينما كنا نلعب الكرة مرّ من أمامنا حاملًا لوحه الخشبي، ركل أحد اللاعبين الكرة تجاه مرمى الخصم، أخطأت المرمى، وطارت بعيدًا لتستقر أمامه، طلبنا منه أن يعيد الكرة إلينا بركلة قوية، التفت إلينا، لم يتفوّه بكلمة، ثم ابتعد عن الكرة كأنه يبتعد عن حيون متوحش، وذهب إلى حال سبيله، عرفنا لاحقًا أن أباهـ نهاه عن لعب الكرة لأنها حرام شرعًا، وإن ركل الكرة بقدمه كأنما ركل رأس النبي.

مرت السنوات ولم نعد صغارًا الآن، لم نعد نلعب بالطين في الميدان الكبير، قويت أجسادنا و خشنت أصواتنا، بدأنا ارتياد النوادي لمشاهدة الأفلام الهندية، لم يكن هناك نادٍ في حِلتنا سوى نادي السيد محمد عظيم، فهو أول من جلب التلفزيونات الملونة كبيرة الحجم وأشرطة الفيديو، فدخول النادي بعد اشتراء تسالي من إحدى البائعات يُعد متعة عظيمة، ومع مرور الزمن تجاوزنا مرحلة الأفلام الهندية وتركناها لمن هم أصغر منا سنا، فبعدما وصلنا المرحلة الثانوية وقعنا في حب مشاهدة المصارعة الحرة، ورغم أن مدير المدرسة عمر قمبور، كان مديرًا صارمًا إلا أننا كنا نتغيب من المدرسة في أيام الثلاثاء من أجل الذهاب إلى النادي لمشاهدة المصارعة، ونتحمّل العقاب القاسي، فعرض الثلاثاء لا يُفوّت إطلاقا.

فُجعت المدينة ذات صباح بوفاة شيخ مصطفى، وبعد دقائق من إعلان الخبر الحزين امتلأ منزله بجموع المعزين، جاء طلابه، مشائخ الطرق الصوفية، أساتذة المدرسة، والأطفال المشاغبين. مشى في جنازته جمع غفير.

أصبح زميلي أبوالقاسم بعد وفاة والده حرًا مثل عصفور أُطلق سراحه من قفص، بدأ يخرج من المنزل ويتسكع في الميدان الكبير، وقد لاحظ الجميع أن أبا القاسم بدأ يلعب مع الأطفال الأصغر منه سنًا، يتحكر أرضًا ويبني بيوتاً طينية مع الأطفال، في بداية الأمر ظنّوا أنه يفعل ذلك مجاملة للأطفال، لكن بعد انخراطه في اللعب بشكل غريب لدرجة أنه أهمل دروسه، اكتشف الناس أنه يفعل ذلك بدافع التسلية واللعب، وتدريجيًا أصبح كل سلوكه طُفولي، يأكل الحلوى مثل الأطفال، يبكي إن أخذ شخصًا ما منه الحلوى، حتى صوته أصبح يشبه صوت الأطفال، عندما لاحظ الناس السلوك الغريب الذي يبدر منه منعوا أطفالهم من اللعب معه. فعندما يجتمع الأطفال صباحًا من أجل اللعب في الميدان الكبير، ما أن يأتي أبوالقاسم بحماس لكي ينضم إليهم تسحب كل أم طفلها ويتركونه وحده، هذا الأمر جعله يدخل في اكتئاب فظيع، لكنه لم يستسلم فبدأ يبني غرفه الطينية وحده في الميدان الكبير، يتغامز المارة فيما بينهم ويصفونه بالمختل عقليًا.

ومع اقتراب امتحانات الشهادة، بدأت الورش والدروس الخصوصية استعدادًا للإمتحان، اعتكفتُ مع أصدقائي في منزل عمي وبدأنا نراجع الدروس ليل نهار، لم يُظهِر أبوالقاسم أي تفاعل مع هذه الأجواء بل استمر في اللعب بالطين، أظهر الجميع تعاطفهم مع الحال الغريبة التي أصابته، أما أنا فقد كان تعاطفي معه أقل، ثمّة صوت خفي في داخلي يتمنى أن يستمر أبوالقاسم في هذه الحال حتى لا ينافسني في الامتحان ويحرز درجة أكبر يتحدث عنها الناس، لكن كبريائي يأبى الإنتصار الرخيص، ويتمنى المنافسة الشريفة المتكافئة حتى وإن كانت النتيجة هي هزيمتي.

أخذت القضية منحًى جديدًا بعد أن ذهبت والدته وشكت حالته لشيخ الطاهر خليفة شيخ إبراهيم في المسجد، شخّص شيخ الطاهر حالة أبي القاسم بأنه مس من أطفال الجن يستدعي العلاج الفوري. سيق أبوالقاسم بالقوة إلى الخلوة وقُيد على جذع نخلة كبيرة، وبدأ الشيخ الطاهر جلسات العلاج معه، يقرأ داخل أذنه آيات من القرآن الكريم ويضربه بسوط طويل لكي يُخرج الجن من داخله، استمر هذا الوضع لأسابيع دون جدوى، بل زادت حالته سوءا، فأصبح يصرخ صراخًا يسمعه كل من يسكن بالقرب من الميدان الكبير.

يتحدث الناس في سوق عمر عن حالة أبي القاسم، بعضهم يقول بأن أبا القاسم أصابه مس من أطفال الجن الكافر، والبعض الآخر يدعي بأنها عين ساحر أصابته بسبب تفوقه وأفضليته على كل شباب الحي.

لقد فكرتُ كثيرا في الذهاب إلى شيخ الطاهر والتحدث معه في أمر أبي القاسم، كنت أعتقد أنه من الضروري عرضه على طبيب نفسي، لكنني ترددت لأن كل المعطيات تقول بأن شيخ الطاهر لن يقبل كلامي فهو لا يؤمن بالطب النفسي ويعتقد جازما بأن لكل مرض دواء موجود في القرآن.

دخلت الامتحان وأحرزت أعلى درجة في الحِلة، فرحت أسرتي وجميع من في الحِلة، تم تكريمي في حفل كبير دُعي له كل السكان، ولسنوات أصبحت محور الحديث في الحِلة والحلّال المجاورة، لكن كُتب على فرحتي بالنجاح ألا تكتمل، فكلما مررت بتلك الشجرة ورأيتُ زميلي مقيدًا بالسلاسل أشعر بطعنة قوية في قلبي ويزيد كرهي للتفوق الرخيص الذي أحرزتُه.

محمد إسحق

كاتب من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى