نيرتتي وأخواتها
في الثامن والعشرين من يونيو الماضي وعلى نحوٍ غير متوقع، دخل مواطنو نيرتتي في اعتصامٍ مفتوح على خلفية تكرر الإعتدءات على المواطنين وممتلكاتهم دون أن تعتبرالجهات الحكومية أن ذلك أمرٌ يستوجب القيام بتصرفٍ ما حياله، ما قام به مواطنو نيرتتي كان بمثابة التدشين لحِراك أوسع اجتاحت اعتصاماته الكثير من مدن وأرياف دارفور (1).
حفّزت هذه الاعتصامات شُروق العديد من الأسئلة وخَلَقَت نقاشات حول العديد من المسائل، مثل السلام، وإلى أي مدى باتَ الشّارع يمتلك زمام الأمور؟ وكيف يمكن لهذا أن ينعكس على مستقبل العملية السياسية برُمتها؟ الكثير من الأسئلة قد انطَرحت، وبالطبع الكثير من التغني بالوسائل السلمية التي استخدمها المعتصمون وبـ ” الوعي المدني ” الذي بدأ يتخلق، ولكن، مهما بدا من أمر؛ فإن أسئلة جوهرية وأساسية لا تزال غائبة وطَي النسيان، أو على الأقل لم تلقَ حظّها من الرّعاية، وبشكل خاص الأسئلة التي تدور حول الأمن، هل من قبيل المصادفة أن تتفق هذه الحراكات جميعها على بند الأمن؟ حتى لتبدو البنود الأخرى كمجرد لوازم وضمانات للأمن.
الحرب، هذا هو الجواب الشائع بشكلٍ كاسح على سؤال ” لماذا الأمن “، الأمر واضح، حالة الإنفلات الأمني وانتشار السلاح خارج مؤسسات الدولة هو كُل ما ستحصل عليه عندما تكون لديك حرب، وحينما لا تعود الدولة هي الجهة الوحيدة المحتكرة للعنف، لا تعود هناك دولة (2)، أو بتعبير الأستاذ يس السوار تحصل على حالة من ” الدولة المؤجلة “، هذا ما تعنيه بصورة دقيقة ” الحرب الأهلية “، لأنها تسوق الوضع بالإتجاه المعاكس لحالة الدولة، إنما ـ والحال هذه ـ يبدو أن سؤال لماذا الأمن يجب أن يكون لاحقاً على سؤال ما الأمن، أي بالنسبة إلى كل من المواطن و الدولة ما يكون الأمن؟ ولماذا قد يستدعي مثل هذا الحراك الجماعي؟
إن إحدى الأفكار وراء العقد الاجتماعي الذي يفترض بها أن تكون أساساً تقوم عليه الدولة هي ـ بنوع من التبسيط ـ تنازل الأفراد والجماعات عن استخدام العنف في مقابل أن تحتكر الدولة العنف للحفاظ على عدم استخدامه خارج نطاق مؤسساتها، لذلك، القول بأن الحرب تنسف الدولة؛ يعني انهيار هذا الجزء من العقد (3)، و القول بأن الحِراكات المسلحة ترفض الدولة يعني خروجها على هذا العقد. بالنظر إلى تاريخ دارفور فإن الدولة نفسها ـ قبل الحراك المسلح و قبل الحرب ـ لم تلتزم بالعقد حينما سمحت لأفراد وجماعات خارج مؤسساتها بإستخدام العنف، وسمحت هنا تعني أن الدولة كانت تُسلح هؤلاء الأفراد والجماعات دون أن تكترث لعواقب خروج السلاح عن مؤسساتها، عدم التزام الدولة بهذا العقد يعد إحدى مشاكلها البنيوية، بالإضافة إلى مشاكل بنيوية أخرى لازمت تشكلها أدت في النهاية ـ منذ البداية إذا تحرّينا الدقة ـ إلى نشوء الحراكات المسلحة.
اعتصامات دارفور هي إذن حراك إجتماعي لتذكير الدولة ـ إذا جاز تسميتها بالدولة ـ بما يعني أن تكون هي دولة، أي بجانبها من العقد المتعلق بحصر العنف داخل مؤسساتها وتفعيل آليات تنفيذ هذا الشرط من العقد، وهي إذن، مع الأخذ بالحسبان الوضع الجديد أو ما أسماه الأستاذ يس السوار بـ ” الحدث الديسمبري ” وما توفره من إمكانية بناء دولة حقيقية؛ فإن أنظار المجتمع الفاعل في اعتصامات دارفور تتجه ناحية العقد الذي به تقوم العلاقة مع الدولة، وأكثر من ذلك، يمكن للفاعلين الاجتماعيين في دارفور اختبار مقدار التغير في بنية وتفكير الدولة من خلال ردة فعلها تجاه هذه الاعتصامات.
ما يجب قوله والتأكيد عليه هو أنه على الرغم من كون اعتصامات دارفور مربوطة بالحدث الديسمبري؛ إلا أنها فتحت أُفقه على سؤال العقد الاجتماعي، أي سؤال الدولة، وهو ذات السؤال الذي تعامل معه نفس الفاعلين الاجتماعيين قبل نحو عقدين من الآن بالحراك المسلح، يكمن الفرق بين طريقتي التعاطي في زاوية النظر، يركز الحراك السلمي على بند الأمن في العقد بين الدولة وبينها ـ سيكون من الطرافة أن تحمل السلاح لتذكير الدولة بضرورة إحتكارها للعنف ـ وهي مسألة آنية وملحة وتُظهر مدى إستعداد الدولة ـ دولة الأفق الديسمبري ـ للإلتزام بجانبها من العقد وبمعاملة الجميع بإعتبارهم مواطنين يستحقون ذات القدر من العناية، يتحلى الفاعلون الاجتماعيون إذن بقدر من الأمل يمحضهم الإرادة لمحاولة وضع عقد إجتماعي يضع الحد للدولة القديمة، وبالتأكيد، فإن تخييب الدولة لهذا البصيص من الأمل سيؤدي إلى عواقب لا يمكن تخيل مدى وَخامَتِها. على الصعيد الآخر فإن الحراك المسلح يركز على العوامل المسببة للإخلال بهذا العقد (4)، وفي التحليل الأخير فإن سؤال الدولة لم يراوح مكانه وهو محور الحراك المسلح والحراك السلمي والحراكان بهذا المعنى متكاملان، وواقع الأمر أن الفاعلين الاجتماعيين الذين انخرطوا في الحراك المسلح هم أنفسهم من انخرطوا في الحراك السلمي، والحراك المسلح هو في النهاية ذروة الحراكات الاجتماعية ويستخدم إلى جانب السلاح العديد من الوسائل المختلطة (5)، وعلى العكس من تصور القطيعة يمكن قراءة الحراك الحالي في غضون إعلان تنظيمات الحراك المسلح وقف إطلاق النار وانخراطها في مفاوضات إحلال السلام ؛ كمراقبة وضغط على الجالسين في مراكز السلطة لإنجاز عملية السلام.
الهوامش :
1ـ اعتصامات دارفور حراك شعبي لاستعادة الحياة | صحيفة السياسي السودانية
2ـ السير بإتجاه الدولة | صحيفة السياسي السودانية
3ـ المصدرالسابق
4ـ الحراكات الاجتماعية : البنية و الأدوات |صحيفة السياسي السودانية
5ـ المصدر السابق