(حينما وقفتُ على حافة الإنتحار!)
اليوم العاشر، من الشهر العاشر، للسنة العشرين بعد الألفين.. ذكرى ميلاد سيدنا القس دانيال كمبوني.
العزيز بوي جون..
وأنا أكتب إليك هذه الرسالة تذكرت حديثاً لنا ، عن الموت والحياة، كان ذلك في شتاء ديسمبر من العام ٢٠١٨م. حينما قلتَ أنت، عبارة مؤثرة: “إنْ لم يعش المرء لأجل نفسه، فليعش لأجل الذين يحبونه”!.
أعجبتني العبارة -يومها- لدرجة أنني كتبتها على جدار غرفتي!، ولكن ما حدث تالياً كان شيئاً مرعباً؛ فقد نبشتَ فيّ خوفاً ظل يؤرقني لسنوات عديدة: الخوف من الموت، أو وسواس الموت(Thanatophobia).
أشكر القدير أن ذلك الرعب لم يستمر طويلاً، هذه المرة لأنني وقبل أن أصعد الطائرة التي جئت بها إلى الخرطوم مستشفياً، كنت متسلحاً بدعوات الوالدة، وصلوات القس “جيمس”.
إن قصتي مع حقيقة الموت، تعود إلى بواكير طفولتي، حينما وجدت نفسي يتيماً فجأة، كنت طفلاً متعباً، ولكن مباركاً – أو هكذا قالت جدتي- فقد مكثتُ في بطن أمي لأكثر من عشرة أشهر. وعندما قررتُ الخروج إلى هذا العالم الموحش، اخترت أحد أشد صباحات أمدرمان برودة!.
الأربعاء الموافق الخامس والعشرين من شهر نوفمبر / تشرين الثاني، هو اليوم الذي اخترته لأرسم بهجة على وجه والدي!. وهو نفس التاريخ الذي اختاره القائد الأعلى “فيدل كاسترو” بعد ثلاثين عاماً من تاريخ مولدي، ليكتب نهاية حزينة لبطل قصة سعيدة (قصة الثورة الكوبية).
عندما وُلدت كان والدي شاباً ريفياً وسيماً، في نهاية العشرينيات أو بداية الثلاثينيات من العمر ، قدم للتو – كما يجري النيل- من الجنوب إلى الشمال.
الانتقال أو قُل “النقل” من قاعدة (ملو) العسكرية في قلب الجنوب إلى الشمال. إلى المنطقة العسكرية أم درمان ، ثم رئاسة المدفعية / عطبرة ، ثم لاحقاً إلى الجنينة في أقصى إقليم دارفور، شكل صدمة عنيفة للريفي القادم من جمال القرى إلى قبح المدن، ولكن الصدمة الأعنف كانت من نصيبي! عندما رحل والدي “مغدوراً” دون أن يلوح لي بإشارة وداع.
كانت حياتي – حسب والدتي- تسير بصورة هادئة لا تعكرها إلا داء الجاردية (G-Lamblia) ،و بعضاً من شقاوة الطفولة ، مثل اللعب ببندقيته طراز (جيم 3)، وهي العادة التي تركتها لاحقاً بعد أن علق أصبعي (السبابة) في فتحة خلف عقب البندقية، ولكن حياتي التي كانت تسير بهدوء، عكرها صدمة موته المبكر، والمبكر هنا تعبر عنا تماما -أنا وأبي- فهو كان في ريعان شبابه، ولم أكن قد تجاوزت مرحلة التهام الطين أو ابتلاع معجون الأسنان خلسة بعيداً عن أعين أمي!.
طوال سنوات طفولتي ، لم ينشغل عقلي الصغير بأسئلة الطفولة العادية، ماذا سآكل، ماذا سأرتدي في العيد، أين سألعب الكرة، وكيف سأتحايل على والدتي حتي لا ترغمني على الاستحمام ..الخ. بل كان منشغلاً بسؤال يفوق سنوات عمري أضعافاً مضاعفةّ.
ما الموت؟ هذا السؤال يا صديقي ظل يرافقني كظلي حتي مرحلة البلوغ وما بعدها؛ حين انفتح أمامي باب من أوسع أبواب الحياة (الحب). فانصب جل اهتمامي على تفاصيله، ولم يعد سؤال الموت يشغلني، فما كان يشغلني بحق في تلك المرحلة هي أسئلة الحياة.. والحياة فقط.
فالحب يكشف لنا جمال الحياة… أليس كذلك؟.لكن في مرحلة لاحقة، ونتيجة لحزمة من الخيبات، والتجارب المريرة، وتحت وطأة ألم جسدي، ونفسي ناتج عن القولون العصبي، عاد شبح الموت، وهذه المرة بصورة أكثر رعباً. فخلال السنوات الخمس الممتدة من ٢٠١٣م إلى ٢٠١٨م، استحوذت على عقلي فكرة الموت، فعشتُ في قلق قاتل بأتم معنى الكلمة. ونتيجة لذلك تدهورت صحتي النفسية حتى لامست حدود الاكتئاب.
كنت أحس -لأسباب أجهل بعضها- بأن الموت سيداهمني تحت أي لحظة!. والجزء الأصعب من هذا الإحساس؛ أنه كان يومياً!. زاد الأمر سوءاً الحرب البلهاء التي اندلعت في ليلة الخامس عشر من ديسمبر من العام الثالث عشر بعد الألفين.
في تلك الايام الكئيبة المظلمة، كانت المدينة تنام على أصوات قعقعة المدافع ونعيق طائر الشؤم، فبتُ أرى الموت شاخصاً، في وجوه الشباب والكهول، في عيون اليتامى ودموع الثكالى، وفي كآبة الأبنية.
لم يكن الأمر محض وهماً!. فالموت كان – حرفياً- يترصد الناس عندما يعم الظلام مدينة جوبا، متربصاً بهم في الأزقة والطرقات الحزينة، في المشافي، في المدارس، وفي المنافي البعيدة.
خمس سنوات كنتُ أحس فيها بالموت كامناً في كل شيء، في فوهات البنادق، في أزيز الطائرات، في أحذية العسكر، في قاعات اجتماعات الساسة.. وفي أحلامي الجميلة، وكوابيسي المفزعة!. بل حتى في يقظتي!. ووصل بي الأمر في بعض الأحيان إلى أن أرى الموت في أشياء غير منطقية.
تخيل يا صديقي أن ترى الموت في كوب شاي، أو قطعة بسكويت!.
المهم في الأمر أن إحساس السنوات الخمس الأصعب على الإطلاق مرت مثل سحابة صيف بفضل الله ودعوات الوالدة، و”لمة الاصدقاء”!.
ولكنني لن أنسى ما حييت أنني، وقبل الخضوع للعلاج كنت في لحظات عديدة، وبسبب الاكتئاب وحالتي النفسية المتدهورة أبحث عن حجة منطقية لأستسلم للموت.
هذا الأمر ترك في نفسي ندبة كبيرة، في شكل هلع!. كيف لا.. وقد كنت أتوهم، كلما شعرت بوخز في قلبي – رغم أنه من أعراض القولون- بأن قلبي سيتوقف وبالتالي سأموت كما يقول الطب!. وإذا داهمني ضيق التنفس الذي كان يتكرر بصورة دائمة، حسبته اللحظة الفاصلة بين انفصال الروح عن الجسد وفقا للتفسير الديني!.
كنت يا صديقي – وأعني ذلك تماماً- على بعد ثلاث خطوات من حافة الانتحار، الذي كنت أفكر فيه كخلاص أبدي من الألم!. لكنني في كل مرة كنت قريباً من ذلك، أقول لنفسي:
تستطيع الصمود.. لا تستسلم يا بطل.
هكذا حققت انتصاري الصغير!. وكان سلاحي في هذه المعركة. لطف الله، دعوات أمي، ومؤازرة شقيقتي الصغري. لهما مني كل الحب.
ختاماً:
ألا توافقني أننا، ومن أجل صحتنا النفسية.. نحتاج إلى أحد يحتضن آلامنا، أحزاننا، يأسنا؟
كثير من المحبة
صديقك سايمون أتير
الخرطوم
١٠ أكتوبر ٢٠٢٠م.