ثمار

مُرَاوَحات المُغَادَرة والتَحَليق

إلى أشرف عثمان:

هاهي طيورك الملونة تُحلِّق ولاتغادر، تُدوم بين حواف الأرض وحدائق المتعالي السديمية بكل إلفتها الحُرَّة وملموسيتها المُدنسة الأنيقة، تُراقص العدم بلا وعودٍ أو نذورٍ حتى تحترق أجنحتها في ليل العالم الأبيض الطويل.

       

أحد أصدقاء الوجود العابر إلى كل حياة عابرة بلا وعود أو براهين بين ضفاف اللامُنتهى، من تغيَّرت ملامح حياته إلى الأبد في الفترة الممتدة من اعتصام القيادة إلى مجزرتها وما بعدها بقليل، أخذ يُقارب من بذلوا أجسادهم وأرواحهم في ثورة ديسمبر، على ذلك النحو الذي يصفهم بمن ’’غادروا‘‘ الحياة إلى حياة هي الحياة عينها لا أكثر، أي لم يموتوا ’’استشهاداً‘‘، قاصداً بهذه ’’المغادرة‘‘ تلك الحالة من الامتلاء التي تمحو كل حدود فاصلة بين الجسد ــ و ــ الروح، وبين الأرض ــ و ــ السماء، وبين كل ماهو بين بين، دون أن تفقد هذه الحالة، في عبورها الممتلىء النشوان هذا، أرضيتها وملموسيتها المُضمخة بدنس الحياة وواقعيتها الجارفة الحارقة.

وهو إذ يتوَّسل هذا الوصف، فهو يحاول المحاولة تلو الأخرى، مُقاوماً أي مسعى اختزالي أو تدجيني لهولاء ’’المغادرين‘‘ إلى ’’شهداء‘‘ تقربَّنوا وضحوا من أجل شعارٍ سياسي مقدس ومتعالي اخترعته آلهة السياسة، كما فعلت التجربة الإسلاموية مع من ذابوا في مِرجَل مشروعها الحضاري العدمي الكاره للحياة بوصفها فناً من فنون اليومي المعيوش، أولئك الذي حملوا لواء عملياتها الجهادوية في ساحات الوغي الآيديولوجي وحروبها الدينية.

إن من غادروا عالمنا من الثوار، ولم يموتوا  ’’استشهاداً‘‘، كانوا يُحلِّقون في حياتهم اليومية العادية قبل الثورة، عابرين الحدود والانتماءات الضيقة  وكل أشكال التدجين السلطوي، ناهلين من نبع التحولات الجذرية التي حدثت في العقدين الآخرين لمن أبصروا العالم ما بين منتصف التسعينيات من القرن المنصرم وإلى بداية الألفية الجديدة. إذ لم تكن تُشكِّل الثورة سوى الوثبة الأخيرة من طيف واسع من التحليقات المعيوشة جسداً ووعيَّاً وروحاً إلى تحليقة التحليقات، أي ملامسة المدى الشاسع والمنُسرح لحياة عاشوا نصفها ويبحثون عن نصفها الآخر في عالمٍ مجهول.

وإذا كان هولاء الثوار قد ’’غادروا‘‘ عالمنا ’’تحليقاً‘‘، فإنهم يجسدون من خلال هذه المغادرة المُحلِّقة حضورهم الوجودي العاري والمُتحرِّر من لبوس القربنة والتضحية والاستشهاد. إنهم عُراة الليالي المتوَّحدة والنهارات الحارقة، أسرى التشرُّد الوجودي الأنيق، من شقشقوا لغتهم الضارية في الجنبات والجخانين والكافيهات والعوامات النيلية، من نبشوا كنوز الأمل بين حواف أزقة الحواري ودروب القرى والحلاَّل. إنهم وحوش الفرح الثوري الرنان وصيادو الحنان المسفوح خارج بيوتٍ ودور أحزابٍ ومنظمات مجتمع مدني حولتها البطرياركية الذكورية الجريحة والداجنة إلى أوكار لمسوخ وأشباح ظلَّت تتحول مع مرور الزمن وتنمسخ بشكل مضاعف إلى أنصاف مثقفين وسياسين وأكاديميين وناشطين إسفيريين.

ألم يكونوا من قبل المغادرين دوماً، عبوراً وتجاوزاً، لأي حدود ترسمها أشكال السلطة الاجتماعية التي دجنتها الإسلاموية طوال ثلاث عقود حسوماً؟ لقد حاولت العدمية الإسلاموية تحويلهم إلى مسوخ جهادوية، لكنهم كانوا يقاومون بمغادراتهم اليومية المحلِّقة في هموم الحياة ومعايشات العادي أي موطن من مواطن التدجين الاجتماعي والسياسي. لقد كانوا قبلاً يراوحون بين حدود عدمية الإسلاموية وحياة ينشدونها بلا أبوية أو وصائية، أي بين مغادرة مواطن العدمية والتحليق في فضاءات اليومي والعادي النزَّاعة إلى التحرَّر من كل إكراهات سلطوية وإسقاطات تدجينية.

إنني أقارب هذه ’’المغادرة‘‘ على أنها تلك التحليقة التي جسدتها الوثبة الأخيرة خارج حدود حياة منقوصة كانوا يبحثون عنها وينشدونها، وليس رميَّاً للجسد بسهم الروح المُثخنة بالانكسارات والانهزامات في يقين الخلاص الأبدي. ليس موتاً. ليس استشهاداً. إنه التحليق الضاري الوثَّاب داخل عوالم المبحوث عنه، وليس في المقدس المتعالي المفارق لكل ماهو وجودي ملموس ومدنس ومعيش، بل من خلال هذا المنشود وإن كان هو غير المُتحقِّق عينه كحتمية، بل كمراوحة دائمة بين المغادرة والتحليق. لقد عبروا تحققَّاً في خيال المنشود غير المُتحقِّق لكي لا يعودوا دوماً ويروا بأم أعينهم كيف تجهض قوى الثورة ثورتها وتخونها نهاراً جهاراً، وكأن ثورات العموم المديني السودانية لا تتجسَّد في نهاية المطاف إلا في حدودها القصوى بوصفها فرصة تاريخية مُجهضة، بعد أن أخذت هذه الثورات تتحوَّل إلى جنين هلامي يجهض نفسه ذاتياً في وضح النهار، قاطعاً الرأس من مشيمة الحياة ومنزلقاً من رحمها الرحب الواسع إلى مسخ مُشوه في ماعون المُستقبل المُظلم الضرير.

6ـ14أكتوبر 2020

    جبرة ــ أركويت

                                                

معز الزين

كاتب ومترجم من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى