الأساس الهيرمنيوطيقي للعلوم الإنسانية عند فيلهلم ديلتاي “2 “

الخبرة البنية :
لم يكن دلتاي هو أول فيلسوف في تلك الحقبة يركز على مفهوم الخبرة ومضامينه، لكنه بلا شك على يده مضى هذا المفهوم يكتسب صدى شديد الاختلاف، ويملك فرادة بائنة. أولا وقبل كل شيء، وحتى لا يلتبس الأمر على أحد فيما يخص تقاطع معنى هذا المفهوم مع دلالة مفهوم التجربة، إن مفهوم الخبرة عند دلتاي يقف على تعارض واضح مع الأخير. فدلتاي كان ينظر إلى إشكالية الأسس المعرفية للعلوم الإنسانية بطريقة متناظرة، قوامها التنقية والتوسيط، ولكي يباشر تفعيل إجراء التنقية، كان لابد من مضاعفة الحدود التي تفصل مفهوم الخبرة عن مفهوم التجربة الذي شاع كأداة تحاكم قيمة كل تفكير ونصابه من الحقيقة والرجحان. فالخبرة عنده شيء يختلف من جهة جوهره من التجربة، لذا لا يسع نموذج البحث العقلاني الموجهة نحو الطبيعة أن يقرر في شأنها، وأول ما يعين الاختلاف بين الاثنين هو ما يتحصل من كليهما، كل على حدا، ففي التجربة نحن نحقق فيهما يهتدي بمعطى أو موضوع، يقيم سلفا في انفصال مجال وجوده، لذلك فما يسلمه هذا الموضوع المعطى من نفسه يشكل قضية لحظة أن تأتي بما يخالف ما يمنحه لنا العيان الحسي المباشر، وعليه يصبح الموضوع قضية، كيما نتحقق من قيمة ما يكشفه لنا بالتجربة، فحقيقة كل شيء في عملية التجربة تكون مُعلقة إلى أن يُبت في شأنها وقوامها، والوسيلة إلى هذا الأمر، هو إعادة التجربة (التحقق)، وضمن كل مراحل هذا الإجراء المتنسك يظل ما نواجه كياناً منفصلاً عن من يعاين ويستفهم. إن التجربة لا تحفل إلا لفعل الموضعة، بهذا فإن ما تحصده هو التفسير، وليس هذا من شأن الخبرة في شيء.
بيد أن هذا لا يكفي في بيان أمر الخبرة كمفهوم. إن دلتاي يستخدم اللفظ الألماني Erlebnis الذي يمتلك دلالة قاموسية تختلف عن اللفظ الألماني Erfahrung فالأول يشير إلى معنى ما يتملك البشري من انفعال، وشكلا محددا من الاستجابة الشعورية داخل موقف معين، لحظة نمكث في قبضتها حينا. بينما الآخر يشير إلى ما يمثل في الموقف الطبيعي أمامنا ويشدنا إليه بواسطة تفتحنا الحسي عليه. إلا أن تعامل دلتاي مع اللفظ الألماني، يتجاوز الدلالة المعجمية إلى أفق المفهوم، فيخصبه ويغنيه بالإشارة الشديدة الخصوصية، فيعني بها “وحدة مُتقوٌمةً بمعنى مشترك يجعل منها كلاَ مُدمجاَ” ثم يمضي ليُضمنها الزمان كأرضية وفضاء يحكم وجود الخبرة ” ذلك الذي في مجرى الزمان يُشكل وحدة في الحاضر بفضل حيازته لمعنى موحد هو الكيان الأصغر الذي يمكن أن نسميه خبرة .فإذا مضينا أبعد من ذلك فإن بوسع المرء أن يطلق على كل وحدة جامعة مكونة من أجزاء حياتية مدمجة معا بفضل معنى مشترك لمسار الحياة اسم خبرة حتى لو كانت هذه الأجزاء العديدة منفصلة بعضها عن بعض ب(أحداث اعتراضية)”. لم يكن في منطق التجربة من إمكان لإثارة سؤال المعنى، وإنما كل إمكان الخبرة يرتكز على المعنى الذي يضم أنحاء هذه الخبرة في ترابط دقيق، فوحدات أي خبرة لا يمكن تصور علاقات بينها مالم تتأسس في معنى يُشركها جمعيا في هوية متجانسة تهديها فرادتها. فتعاقب الأحداث ليس هو ما ينصب الخبرة، لأننا حينئذ سنتلفت صوب السبيبة التي يُسكنها العقل حادثة التعاقب، ولن نُعنى بمعنى الحدث المُعاش بل بأصله وموجبه، إنما تُنصب الخبرة على اشتراك في المعنى، فمن الواضح هنا أن دلتاي أراد أن يبعد مفهوم الخبرة عن أي شبهة تجريبية ووضعية، ولكي ينأىَ بها أكثر، يركز على أن ما نعنيه “بخبرة” لايمكن أن تكون محتوى يناله الوعي بالتأمل الانعكاسي، فإذا كانت كذلك، عُدت شيئئا نحوزه بالاوتعاء المتأمل، فالخبرة لا تكون كذلك إلا بقدر ما تأخذ بوعينا وفعلنا، إنها شيء نربو فيه ونحيا من خلاله، إن الخبرة هي ما يعطى قبل فعل الاوتعاء المنعكس، وهي تكون فعل للوعي ذاته بما هي حادث يخلُبه أوان انسيابها في الزمان المعاش وأيان استبداده بلب الكائن.
إن ما يشمله ذلك من معنى للخبرة، يقضي إلى أنها ليست شيئا يمكن لإدراكنا أن يتربص به ويترصد فيه، إذ أن الإدراك يقتضي الموضعة كما أسلفناه، إنه لا يكون كذلك إلا بفعل التشيؤ الذي يُضيق فيه المعطى، وإذا أخذنا بها كشيء يدرك، كانت ما يقف بإزاء من يدرك، ستكون إذن الباب الدوار الذي يعيد إدخال القسمة الثنائية إلى الموقف ليجعلها معطى أمام الذات مرة أخرى، لذا لا ينبغي لها أن تكون كذلك، فما هي إذن؟ إنها الإدراك نفسه والفهم ذاته وهو مُعاش يعيش، ففيها لا ننعم بالتمايز المريح، ولا الوضوح الكسيح، إنما فيها نُقاسي الصلة المباشرة بالحياة، ونُصلى معها بالعلاقة الحية كلحظة هاربة وآن شريد.
إن الخبرة التي يُقرٌظها دلتاي، هي أساس يقوم على أركانه فهم الانسان وتأويل عالمه، فما نخبره أولى أن يقول لنا من نحن. إن ما يقصده دلتاي هنا هو ضرورة كسر الاغتراب المنهجي الذي يسود العلوم الإنسانية، فبماهي علوم تفصل في شأن الإنسان، يجب أن يكون أساسها المنهجي متسقا مع هدفها، ويجب أن تنبع من الخبرة التي تلُفُ الانسان في أكمتها، وتدور على ما ينسغ منه في تجربته للمعنى.
إن المعنى وحده، لا يمنح مفهوم الخبرة حيويته وثقله عند دلتاي، فهو بطبيعة الحال كان على أتم الوعي بالكشف الأساسي الذي أحدثته المدرسة التاريخية في عصره، بالرغم من خضوعها في أوجه كثيره للبناء المثالي، الذي تورط فيه كل من رانكه ودرويزن. فما يعتبره دلتاي كشفاً أساسيا لا يمكن القفز عليه، هو إنكارهم للذاتية الكلية، فهذا زعم مثالي لم يكن لدلتاي القبول به دون استشكاله، فهو يرى أنه ليس هنالك من ذات لم يخترقها التاريخ ولم تنثرها الصيرورة، وبالتالي فإن الذاتية الكلية لا تصلح لأن تتخذ كأساس نقيم عليه معنى الخبرة فطبيعة المعنى لا تقبض عليها ذات متعالية، وإنما تتموضع في الواقع التاريخي للحياة. لذلك فإن من كيان الخبرة وطبيعتها أن تتعين زمانيا، فما من خبرة تعاش إلا وتتمدد في زمانية ما، فمعنى أي خبرة معيشة يبرز في الأفق الذي تلقيه هذه الخبرة على المستقبل، حيث يمتد التشوف إلى الكينونة، ولكن هذه الحركة نحو الاستشراف التي تتيحها زمانية الخبرة، تتجذر في اللحظة الراهنة التي تُبسط على ما يوفره الماضي من معيشات مشابهة، هذه التاريخية الداخلية الحية للخبرة تدمج في بنية فريدة كل من الذاكرة والآني والتوقع وتجعلنا نلامس صيغة المعنى من خلال المعاناة ونمو البصيرة بالتعلم. إن الماضي والمستقبل معا يحبكان الوحدة البنيوية لحاضر الخبرة وبينة العالم التاريخي.
إن زمانية الخبرة التي يبينها دلتاي هنا، ليست مساوية لمفهوم الزمانية التي تسكن الوعي التأملي وتنشط حينما يقوم هذا الوعي انعكاسياً بتوحيد الإدراكات المتعددة لموضوع واحد مشترطا هُويٍته الفينومنيولوجية. شاع هذا المفهوم للزمانية عند المثاليين بعد ان أقامه كنط كمبدأ قبلي متعالي لإمكان المعرفة، يتحرك في الحيز الذي ينشئه الاستبطان بالتواء في قصدية العقل تعيد توجيهه وتجميعه حول الداخلي المحض. ليست الزمانية بالنسبة لدلتاي مبدأ ينزعه الإدراك على الخبرة آن استعادتها بمسلك التأمل، إن الزمانية تكمن في صميم الخبرة ذاتها كما هي معيشةَ ومعطاة ومتخومة في الوعي. أما الزمانية في دلالتها المتعالية لدى الكانطيين الجدد الذين عاصرهم دلتاي، كانت في نظره شكلاً فارغاً من التاريخية، حدوداً صورية مجردة لضبط الأشياء وصياغة العالم وتشكيل موضوعاته، أصابها التجريد بالامتقاع، إنها الظل الآفل المرتعش للجوهر أو الشيء في ذاته. لا تنهض الخبرة في وجهها الحقيقي إلا بالمعنى والزمان.
إن ما يدعوه دلتاي بنية، لهو أمر مخالف في تمامه وأشده عن ما راج في حقبة الستينات من القرن المنصرم، تحديدا في العالم الأنجلوساكسوني، فهي ليست قانوناً داخلياً غير ملحوظ يحكم الوجود بموجب علاقاته الإكراهية التي يُخضِع لها الكائن، و يظل هو هو، على الرغم من تغيير أحواله. أولاً يجب أن نشير إلى حقيقة حول هذا المفهوم الذي تبناه دلتاي وأعطاه عمقاً جديدا على امتداد فلسفته. فالدور الذي يلعبه هذا المفهوم، يبدو حاسما بالنسبة لدلتاي في تنقية التفكير والمعرفة التي يطلبها تأويل الحياة التاريخية، حيث أن بنية هذا العالم لا تسمح بتشظية مكوناته وعلاقته وعزلها عن بعضها البعض وفق منطق السببية أو أي نظام غائي، فالعالم التاريخي عند دلتاي كلَ متعضيٍ لا يقبل الاجتزاء والفصم نتيجة تعاقب لحظاته وآثاره، فأطراف هذا العالم محكومة بترابطات داخلية تجعل من العسير عزلها عن بعضها البعض والإمساك على معناها وحقيقتها في ذات الآن، إن شدة هذه الترابطات الداخلية ووحدتها هي ما يركن إليه العالم التاريخي في تحققه وإظهار أسلوبه الخاص في الوجود. شدة هذه الترابطات الداخلية وحركتها التي تتخارج في التعبير، هي ما يفهمه دلتاي بالبنية. والبنية في شأنها مشابه للخبرة، هي مفهوم يخرج من رحم المعيش في الحياة التاريخية إنها ما تفله هذه الحياة بإبهامها وسديميتها، وليست شيئا يمكن تعليله بنظرية الملكات، أو تفسيره بمنطق يبحث عن أصل ما ورائي للحياة، وجهة ترجع إليها وتختزل فيها كل الصيرورات التي تجتاح حياتنا وتأخذ في طريقها حتى غرائزنا التي نتوهم أنها اشد رسوخا وثابتاً. إن دلتاي شديد القناعة والإيمان بالانسجام البنيوي للحياة، الذي يشابه انسجام نص ما، فكما أن النص تفهم وحداته الصغرى المؤلفة له من خلال حدس كلية دلالته وموضوعاته، ويُعرٌف باعتباره حصيلة هذا التعالق بين الكلي وأجزاءه، كذلك الحياة وانسجامها البنيوي، فكل جزء فيها يكشف عن شيء من كليتها معبئا بدلالة هذا الكل، بنفس الكيف الذي يشترط الكل فيه دلالة جزئه. إن المبدأ التأويلي الذي اعتمده شيلايرماخر في فلسفته الرومانسية حول الفهم والذي أطلق عليه الدائرة الهيرمنيوطيقية، يمرره دلتاي هنا إلى حقل أوسع، حقل الحياة التاريخية. غير أن البنية عند دلتاي ليست مقصورة في فعاليتها على الحياة التاريخية، بل إنه يتصور كل ظواهر الحياة كأحداث تسفر عن الانتظام البنيوي العميق لكل حي ملموس ومعيش يقال. إن أي شعور بالنسبة لدلتاي هو شكل من الصيرورة وليس هو شعور بشيء كما ذهب معاصره هوسيرل، فليست من شيمة اللحظة أن تعاش مرتين في نفس الاستجابة الشعورية فأي مظهر للحياة الشعورية يظهر الثراء الملازم لكل اتصال بالعالم، ففي شعور واحد يمكننا العثور على تعددية استجابات وأنماط متباينة من العمليات الإدراكية والانفعالية، فالحزن على سبيل المثال، يحمل في ظلمته خشونة اللحظة الراهنة، ويستدعي ما كان ثاويا في كهوف الخبرة الماضية من أمثاله ومغايريه ففي الحزن نكون على وعي مكنون بتغاير جذوته الراهنة عن تلك التي انصرمت، وعن اختلاف طبيعة هذا الشعور مع ذاته عندما تثيره فينا خبرات مغايرة، فالحزن حين يحتجزنا في التأمل يجلي لنا تناهينا الجذري كبشر لما يشتمل عليه من ضرب في الانتباه واليقظة حيال الموقف الآني الذي يُملِيه ويكرسه، وبذات الطريقة فهو يفتح المستقبل في خبرة الهم والقلق، لتحاصرنا الريبة والشكوك المضنية حول جدوى الحياة التي تفلتنا إليها من عُقال العدم وحول وجود معنى في مغاليقها الموحشة، فالحزن شأنه شأن أي خبرة داخلية تتحاشد فيها ذهولات مستمرة مفتوحة ومتعددة وجٍدة أبدية. إن الخبرات المعيشة في أي حاضر لا تملأها عاطفة واحدة ولا يبيئها فعلا إرادي وحيد، إنها في استمراريتها شملً للمتنوع وتأليف للكثرة في تنسيقات فريدة. كل لحظة في حياتنا المجربة لا تخلو من عاطفة تكتنفها ولا حتى المفاهيم الأشد تجريدا خالية من نشاط الشعور أو الفعالية التي تمليها استجابتنا الشعورية، فكل مفهوم يجد موطنه في حركة هذه الاستجابات ولو بهيئة غامضة تصون تجريده موارباَ صلته بالانفعال. إن نظرية الملكات التي قاومها دلتاي بقوة لا تقدم لنا بحسبه غير صورة شاحبة عن الحقيقة المعيشة في الخبرة وعن بنية الإدراك والنفس التي تأخذ الخبرة بتلابيبها. إن دلتاي لا يرى في النفس أي وظائف معزولة، حسب ما قررتها فكرة الملكات، ففي النفس لا يحتجب العقل المحض في فضاءه الصوري منعزلا ببرزخ عن الفعل والحاكمة، فهي بموجب بنيتها الداخلية غير قابلة للفصل. وعندما تصف الملكات حالة المفاهيم فإنها تقوم بإهدار الواقع وثراء الخبرة الداخلية التي تأوي في ذات العالم حيث تحدرت المفاهيم . إن كل آن من خبراتنا المعيشة مهما بلغ من التعقيد يوُجَه إلى غاية تحايثه. بل إن حياتنا النفسية ذاتها تكشف عن ما دعاه دلتاي بالانسجام البنيوي، فهي تتألف من جملة غائية تتفشى في تعددية الحوادث، فالعلاقة بين المفاهيم والذاكرة والألفاظ هي علاقة تومض من هذا الارتباط البنيوي، فالكل فيها يتحرك صوب التعبير عن حياة الفكر وعن الفكر الذي تطويه الحياة، إن حياتنا النفسية تمثُل في كل من هذه المكونات بدرجات متفاوتة في القوة والمباشرة. فكلها عبارة عن هيئات متعددة للميول والأهواء تهيمن عليها غاية تمد لها الاتجاه الذي تتخذه لإروائها وإشباعها، وعن طريق تحقق هذا الإشباع، تمتلك حياتنا النفسية القدرة على التكامل مع محيطها الحيوي والتمايز عن حتمية الطبيعي. إن دلتاي يشايع كل من برغسون وفيكو في عدم اعتبارهم للإنسان كواقعة طبيعية فقط، تخضع إلى ما تخضع له جملة الظواهر الطبيعية من نظام ضرورة وقوانين كلية صارمة، إنه بالنسبة لدلتاي نسيج من الميول والرغبات والإدراكات، يشرخ جمود الضرورة وصرامة الأسباب، حيث تحيا فيه العواطف والإدراك لتقوم بدورها الحيوي والجوهري. فالعواطف هي ما يعلم الإنسان التاريخي بقيمة الأشياء التي تعترض سبيله في الوجود، فهي التي تدفعه إلى استبقاء البواعث الخارجية حين تسديه الشعور الإيجابي، كالنشوة والابتهاج وترغمه أيضا على لفظ كل ما يُحدٍث انضغاطاً في كيانه ويُحدِقه في العدم. أما الإدراك الذي يحرك الإنسان ويشبعه بالإزهار على الأشياء،فهو يهيئ له بواسطة المفاهيم والتصورات الواقع الذي يشمل فعاليته ويتحقق فيه، فمهمة المفاهيم هي أن تكشف هذا الواقع في تركيبة وتعقيده، لذلك يتوجب عليها أن تحفظ بريق الخبرة بواقعها وأن تستظل بها، فالذكاء والبصيرة التي تنمو عبر العلاقة مع العالم الذي يلبث فيه الإنسان، يستخدمان العلم الذي يتوافر عليه ويتوفر له لتحقيق غائية الحياة. غير أن غائية الحياة عند دلتاي ليست مقولة ميتافيزيقية مجردة، إن الغائية التي يتصورها دلتاي نوع من الغائية بلا ميتافيزيقا، ولا هدف متعالي على الحياة المعيشة، فالحياة تدفع بنفسها إلى امتلاك أعلى إشباع ممكن لحاجاتها، وأقصى سبيل ممكن من الاكتفاء، فغائيتها ليست بحاجة إلى كيان ميتافيزيقي مطلق يحكم عليها بالتماثل معه او استعادته. إن دلتاي يفهم الغائية بشكل دارويني، فالحياة عنده مكتفية بذاتها وليست في عوز لمرجع أو دعامة ماورائية تكون حجة لها ومسوغ لديناميتها. فالغائية التي تصيب كل مجموع بنيوي في الحياة لا تدفعه إلى خارجها، وإنما يظل محايثاً لها ومتأصلاً في تصيرها وتغيرها. إن الإشباع والامتلاء والاستدامة والتكامل هو صيغة الغائية الخليقة بظاهرة الحياة، ففي اللحظة التي تكف فيها الحياة عن التدفق والسيلان وتبدأ في الانكماش والأفول، تتآكل الغائية وتخبو شيئا فشيئا. إن الإدراك ما أن يُشحذ بالذكاء ويُصقّل بالحساسية حتى يصبح بمقدوره الإلمام معرفةَ بموضوعية الأشياء، وبعد كل ذلك يظل في خدمة الحياة التي تتوسل بالعلم لتغيير بنية عالمها وتتلاءم معه. إن الإدراك المتجذر في الخبرة الحية والذي ينقل نمط استجابة الشعور مكثفا صداه في الفهم، هو ما يخلص العقل والفهم من سلطة الانطباع الفوري، فيجهزنا بالقدرة على الانعكاس والحكم في شأن ما نعيشه ونختبره.