ثمار

الغاية من الطبل

احمد-مبارك

اللُّغةُ؛ تلك الحَشَرَةُ المُتَوحِّشَةُ؛ النَّامُوْسَةُ التي اخْتَبَأتْ في رأسِ النَّمْروْدِ العظيم؛ كانَ ثَمَنُ خُروجها من جُمجُمَتهِ الكَبيرةِ فادحاً للغاية، ومأساوياً بدرجةٍ لا تُحْتَمَل. لَقَد أوْعَزَ إليهِ شيطانهُ الجَميل بتهشيمِ الجُمجُمة ـ في روايةٍ تَخُصُّني ـ إن كان فعلاً يريدُ إسْكات طنينها الفاجِر. في النِّهاية: كان مَشهَدُ النّمرود مثيراً للضّحِكِ والشَّفَقَةِ في آن؛ فلقد جَلَسَ على العرشِ ـ بلا رأسٍ في الحقيقة ـ يُفَكِّرُ بالجمجمةِ الذَّهَبيِّةِ التي أعدَّها الشيطانُ في خياله. وفي لحظةٍ أرادَ النمرود التَّحَقُّقُ من تَمَوْضُعِ تَاجِهِ المَلَكيِّ على الجمجمةِ السعيدة: فأُصيبت يَدُهُ بالجِّنوْن…
لا يُمْكِنُ تَصَوُّر الحَالة الهستيريَّة حينما ينبري العَالَمُ ضرباً بأخفافهِ المُهترئةِ على جمجمته التي تَطُنُّ فيها ناموسَةُ اللّغة السَّجينة. وإذن.. لا بُدَّ أن خَيَالَ العَالَمِ سَيَتَفتَّقُ عن فكرة، أن يَشُقَّ فَرجاً في جمجمتهِ لانولادِ الناموسة المبجَّلة. وهذا الفَرجُ الذي سَيُشَقُّ؛ هو الحِيْلَةُ الذَّكيَّةُ والخَلاقة، الثَّقْبَةُ الفَنيَّةُ المُراوِغة، السَّهْمُ الذي تُطْلقه البَصِيْرةُ من كنانةِ الضّوءِ مُبَاشَرَةً في العينِ السّليْمةِ للظُّلمةِ المُطْلَقَة؛ بل هو الجَمَالُ الذي يضيقُ به سُروال العِبَارة…!
وعِنْدَما كان الإنسانُ وحيداً يُحاصِره فراغُ العالم؛ بنى طبلاً عملاقاً وطَفَقَ يَضرِبُ حتى انسَلَّت أرتالُ البَشَريَّةُ من شتى بقاعهِ القَصيَّة… فلقد عنيتُ بذلك مسألة التَّوق الكشفي، الفطري، للما حَوْل.. لكن سُرعان ما تَحَوَّرتِ الغايةُ من الطَّبلِ إلى شيءٍ آخر لم يكن في الحسبان. استجابَ الجَسَدُ للسِّحرِ القمينِ المبثوثِ من جوفِ الطَّبلِ؛ فكانت الرَّقصَة الكونيَّة الأولى. ولأنَّ بيضةَ الكتابة لم تُفقَس بعد؛ فَكَّر الإنسانُ لتخليدِ الرَّقصَة وليدة الغريزة فأنشأ النَّقشَ والجداريّات حتّى أن أصابعه تآكلت قبل أن يكتشف الكتابة على الكي بورد.
وهذا الجِذرُ المعرفيُّ، الغائِصُ عميقاً في تُربة التَّجريبِ والحِيَلِ المُغلّفةِ بالمجازِ والكنايات؛ سَهَّلَ المثولَ بين أصابعِ الاشتهاء، بكبسةِ زر، داخل الفضاءِ الكونيِّ مفتوح النِّهاية… ولطالما سيظل هذا الكائن يتأبطُّ ذلك الكيس المُسمّى بـ(القريحة)؛ سيمتلئُ رداء العالم بالفراشات التي ستحلِّق من جنائنِ الحُلمِ؛ لتخترقَ أغشية الواقع الرَّهيفة.. وتندلقُ اللغةُ خضراء على اليَبَاسِ المُمْتَدِّ.. وكلما أطفأت شعلة نبت حقل شموع.

 

*كاتب من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى