ثمار

الإنتاج الأدبي الضال، والحوار الفعال

يكفي المرء تدبّر الحال الثقافي في البلد لمهلة من الوقت حتى يدرك هذا الركود المخيف. فرغم كل هذه الكتب التي تصدر يوماً تلو الآخر -وهو ما لا يمكن اعتباره أمراً سيئاً للوهلة الأولى- إلا أن الجزء الأهم غائب عن المشهد.  ذلك الجزء الذي لولاه لا يحدث تطور في المنتج الثقافي، ولولاه لا يدرك الفرد المبدع نواقصه ولا يقدّر مناقبه، وأيضاً لولاه يظل منتجنا الثقافي مغموراً ومحصوراً، يولد ميّتاً ويأكله النسيان… هذا الجزء هو الحوار الثقافي الفعال. وههنا تدوين لما أرى أنها عوامل لا يمكن إغفالها عند تشخيص هذا الوضع الراكد.

الإنتاج الضال:

تطالعنا دور النشر بعناوين جديدة جاذبة أو غير جاذبة في فترات متقاربة أكثر من أي وقت مضى. وهناك المزيد دوماً تحت الطبع.  وبصورة أقل نسمع كل بضع أشهر عن مسرحية جديدة أو دراما أو فيلم. ومن شأن ذلك أن يعني انتعاش الحراك الثقافي في البلد. غير أن الشيء الوحيد الأسوأ من العُقر الثقافي هو الإنتاج الثقافي الضال، لأننا عندها لا نعرف سمات مشهدنا الأدبي الحاضر، ولا ما يميّز أديب عن غيره.. ماذا إذا كتب عبقريّ ما واندثر في تلك الضوضاء الكتابية قبل أن تُشير إليه يدٌ واحدة؟ وكيف نعرفه قبل كل شيء؟. وأخشى أن تلك هي الصفة التي تنطبق على إنتاجنا الثقافي.

ولنتمهّل قليلاً لنوضح ما نعني بـ “الإنتاج الضال”؟ وأعني به كل هذه الكتب والمسرحيات والأفلام وغيرها من أشكال الإبداع التي لم تتعرض لأي نوع من التقويم الاحترافي، ولا الغربلة والتحقيق، لا أثناء عملية الصنع ولا بعدها. وبهذا ينتشر منها الجيّد بجودته، لكن هذه الجودة في كثير من الأحيان تمضي غير ملحوظة ولا مُثبتة في كتابات المثقفين أو مراسلاتهم بصورة واضحة ومفهومة وممنهجة (كما سنبين في فقرة تالية)، وتظل مجهولة للقارئ في كثير من الأحيان وعن المبدع نفسه في بعضها.  كما ينتشر منها الرديء دون عين تمحصه ولا قلم يفضح رادءته.  وفي نهاية الأمر يمضي المبدعون مثل العميان، مشغولين كل الشغل بإنتاجهم التالي كما ينبغي بهم، ولكن يفتقدون إلى من يهدي إليهم عوجهم حتى يستقيم مشيهم كما يفتقدون من يشيد ببراعتهم من غير تحيّز وبدقة ووضوح حتى يؤمنوا بقدراتهم وهم واثقين مقتنعين بتلك البراعة واعتراف غيرهم بها. كما يمضى القراء أيضاً مثل العميان، مشغولين بحياتهم كما ينبغي بهم، لكنهم محرومين من أي حوار شيّق أو مفيد عن ما قرأوه. بعبارة أخرى: غياب النقد الفعاّل ولا أقول “البناء”؛ لأن النقد الهدام له فوائده أيضاً). ومن أضلّ ممن مشت قدماه إلى غير وجهة؟!)

لكن كيف حدث هذا الضياع؟ وما العوامل التي سبببته؟

قد يلقي الكثيرون باللائمة على المبدع نفسه، وفي ذلك يقولون مثلاً إنه لم يبذل ما يستحقه العمل من جهد أو أنه فقير المخيلة وما إلى ذلك، ولعل في ذلك شيء من صحة. لكن، وعلى خلاف الرأي السائد، فإن معظم الأسباب في هذا الركود أو الإنتاج الضال هي خارجة عن المبدع نفسه. فبالنسبة للروائي على سبيل المثال، يعود جزء من المشكلة لغياب التحرير البنائي، وتتحمل دور النشر جزءاً من المسؤولية، وجزء آخر لكسل المثقف، وغير ذلك. فإن توافرت كل هذه العوامل فإن المبدع في غالب الأحيان إما أن يكون بقدر التحدي وينتج ما يرقى وينجو من كل تلك المصافي أو يندثر ذكره ويُخلي الساحة لمن يمتلك من الموهبة والعزم ما يمكنه من ذلك. لننظر إلى كل واحد من هذه العوامل بشيء من التفصيل.

غياب التحرير البنائي:

صحيح أن كثيرين من كتابنا وسينمائيينا ودراميينا لا يحترفون مجالات إبداعهم ولا يكسبون عيشهم منها. هم في أحسن الأحوال يعتبرونها أنشطة جانبية يمارسونها في ما تبقى من وقت من وظائفهم وحرفهم الأساسية. وإما أن يُعتبر ذلك سبباً أو نتيجة لحالة الركود هذه، ويعتمد الأمر على منظورك للمسألة. أما ما لا شك فيه فهو حوجة المبدع -خاصة في بداية مسيرته- للدعم والتوجيه الذي يُعينه على بناء ملكاته وصقل الموجود منها حتى يستبين طريقه. في بلدان أخرى يسمى هذا الدعم بالتحرير البنائي، أي تحرير العمل وإصلاحه أثناء مرحلة صنع العمل.

كم مرة قرأت رواية وليست هي برواية؟ أو قرأت قصة قصيرة والقصص منها براء؟ أو مقالاً لا يُرضي أدنى أشكال المقال؟ ولا تنحصر هذه الأسئلة وغيرها في شكل الرواية الشائع في السودان والعالم العربي، أي ما يُسمى بالـ Literary Fiction بل أيضاً يشمل الأنواع غير الشائعة أو المعدومة مما يُسمى Genre Fiction وتشمل روايات الفانتازيا والخيال العلمي والرعب وقصص اليافعين وغيرها. إن التحرير البنائي يضمن أن العمل يستحق التصنيف الذي طُبِع على غلافه على الأقل، وقل ما شئت بعد ذلك عن مزاياه. وهو بمثابة الغربال الأول للأعمال الإبداعية.

وقد استفاد كثيرون من كتابنا المشاهير من هذا النوع من التحرير كما استفاد منه سينمائيون ومسرحيون هم في نظر الوسط الثقافي السوداني مبدعون محترفون. ومما لا شك فيه أن المبدع يستفيد من هذ النوع من التوجيه أكبر فائدة مقارنة بالمراحل الأخرى من المراجعة، وذلك لما فيه من تدقيق النظرة واستفاضة النقاش على مستوى الجملة والمشهد عبوراً إلى الفصل والبناء بأكمله. ويلعب هذا النشاط دور الغربال الأول الذي يمر به العمل الإبداعي، ما يعني تسهيل مهمة المستوى الأعلى من التنقيح المتمثل في دور النشر بالنسبة للكتّاب مثلاً. وكمثال لهذه المجهودات يمكنني الإشارة إلى “منتدى السرد والنقد” غير أنه لم يستمر، كما هي حال مبادرات أخرى أصابتها ذات اللعنة، وأحياناً قبل أن تُلقي بثمارها. إذن فالتحرير البنائي غائب سواء أكان على مستوى الأفراد أو المؤسسات، وهو ما يزيد من أعباء دار النشر.

دور النشر:

لا تنحصر مهام دور النشر في طباعة الكتاب وتوزيعه، وإلا لاختلطت علينا بالمطابع. بل تتعدى لأدوار هي في الحقيقة بذات أهمية الطباعة والتوزيع لو لم تكن أهم، فهذه الأدوار في جانب منها تؤثر في جودة المطبوع نفسه وبالتالي صورة دار النشر. ومن ذلك أنها تُجنّد هيئات التحرير التي تكون بمثابة الغربال الثاني للأعمال، بعد التحرير البنائي.

وفي العادة تكون هيئات التحرير هذه موجهة بمصالح الناشر وفلسفته وما يريد أن تكون عليه صورة دار النشر في الوسط الثقافي وبين قريناتها (أقلّه ألا يبلغ بها الاستخفاف أن توسم كتاب “غرفة تخص المرء وحده” بسمة الرواية!.) إن هيئة التحرير في الحقيقة هي التي تصنع سمعة الدار فإما تبنّت معايير جودة عالية للنشر ونشرت بالتالي أعمالاً يُشار إليها في المحافل ويذكرها الدارسون في دراساتهم، أو تراخت في مطلوباتها وباتت مثل أي دار متواضعة تنشر الغث والسمين، ويندر أن تذكر في ثّبتٍ للمراجع.

وتزيد أهمية هيئات التحرير في حالة شيوع التحرير البنائي، لأنها في تلك الحالة لا تشغل بالها بالشكليات (إن شغلت بالها في الأساس) بل تبحث عن تلك الصفات الفريدة في كل كاتب، ومدى جودة وعمق الكتاب، والشيء الذي يدفع المشتري الأول لأن يقترح الكتاب المعني لأصدقائه وربما الكتابة عنه. ومع مرور الزمن، حتى لو لم تخطط هيئة التحرير لرفع معايير القبول، إلا أنه لا مناص من ذلك. وما الذي يريده القراءة إن -أرادوا- غير ذلك!.

ولا ننكر أن في ما ينشر الغث ومنه الجيّد. وفي العادة لا توظف دور النشر إلا من توافرت لديه الخبرات وعرك المجال المعني لسنوات إما إنتاجاً أو تحريراً للأعمال الأخرى. فهي مع كل الاعتبارات الأخرى تجارة، وهذا الجانب الاحترافي فيها يدفعها أحياناً أن تكون أشدّ حرصاً على إنتاجها وطرق الكسب الممكنة. وبذلك فدور النشر هي محطة رئيسة في دورة حياة المؤلَّف. فلو أن الكاتب تلقى رسالة برفض نشر عمله لقصوره عن إرضاء المتطلبات التحريرية المذكورة، فأقل ما يُقال عندها أنه أدرك مواطن الضعف في كتابه، ولعاد إلى كرسي الكتابة يتحرّى مواطن الضعف حتى يقوّم كتابه ويرضى عنه، ولطلب المشورة والعون فيها ممن يستحسن رأيه، ومن ثم يعيد إرسالها، وهكذا. فإذا نُشر كتابه فقد فاز مرتين: مرة لتحسين قصته ومرة لنشرها، وفازت الدار بإضافة عمل آخر لرصيدها ساهمت في تحسين جودته عن طريق هيئة التحرير. ولنأمل أن انفجار دور النشر الذي نشهده يغير من هذا الواقع إلى الأفضل، ففي غياب هذا الدور فوات فائدة للمؤلف، وضعف صورة الناشر، وخسران للمنتج الكتابي كل.

ولو أن الوسط الثقافي توفر فقط على هذين الغربالين (التحرير البنائي وهيئات التحرير في دور النشر) لما شغلنا أنفسنا كثيراً بالتنقيب عن جيّد الأدب في ركام المنشور، أو موات الحوار الأدبي. ذلك الحوار الذي يقوده المثقف. لكن ماذا لو قصر المثقف عن هذا الدور؟

كسل المثقف:

قد تمضي شهور طوال دون أن تقرأ مقالاً أو بحثاً أو تحليلاً ينظر إلى العمل الفني بمنظور محدد ومفهوم وبمنهج واضح جلي درس من خلاله العمل وبيّن ميزاته وعيوبه، وتعمق في درسها، ومن ثم خلُص إلى رأي متسق مع منطلقات ذلك المنظور. وقد تحضر الندوة تلو الندوة قبل أن تسمع أحد المثقفين وهو يتحدث بأي شيء ذا قيمة عن عمل معين غير كيل المدح وتعداد النوادر الشخصية التي جمعته بصاحب العمل (لا نعمى عن قيمة ذلك، ولكنها لا تفيد غير المعنيين بها) أو محض طلاسم لا سبيل إلى فهم المراد منها.

وفي غياب الدور الحقيقي للمثقف في تمحيص الأعمال الإبداعية والتحقق من جودتها غربال مفقود، ولعلّه أهم الغرابيل الثلاثة.. سمّه اختبار الزمن، أو اتساع المقروئية والاستشهاد، أو الرأي العام الذي يستند إلى حوار حقيقي حول العمل المعين، أو ما شئت من التسميات. لكنه في أبسط العبارات هو ما يجعلنا نقرأ رواية مثل “زوربا اليوناني” بعدما يربو على سبعين عاماً من نشرها، أو حتى “آنا كارنينا”  بعد نحو قرن ونصف القرن.

هناك عوامل كثيرة تتداخل وتسبب مثل هذا التكاسل: ابتداء من العوامل التأريخية والسياسية المتعلقة بممارسة العمل الثقافي، مروراً بثورة الإتصالات وظهور مواقع التواصل الاجتماعي وما كرّسته من سلوكيات استهلاكية سريعة وتعليقات خاطفة تختفي خلال ساعات من نشرها، وظهور الشلليات المغلقة الفاقدة للمشروع والرؤية (فالشلليات عامة ظاهرة صحية في تاريخ الأدب، ويمكننا استدعاء حركة الصوالين الأدبية في مصر أو روسيا في حقب ماضية، ولا يخفى على أحد ما أفاد منه الأدب بسبب الحوارات والجدل الذي نشأ في تلك الصوالين، والذي أنتج لنا أساليب ومدارس نستلذ بقراءتها إلى يومنا هذا)، وهناك الخوف من إبداء الرأي بشفافية نسبة للنزعة الساخرة والعدمية التي تسيطر على أجواء شبكة الإنترنت، وبالتالي غياب المغزى وانتفاء الدافع لبذل الجهد في الكتابات المطولة ذات النسق والمنهجيّة والمفهوم… إلى أن نصل إلى مفعول الدائرة المفرغة التي تتمثل في انعدام المحتوى الجيّد وبالتالي انحسار حركة الجدل الثقافي التي بدورها تغيّب المثقف عن مجاله بحثاً عن مساحات أخرى، أو ببساطة الانعزال واكتساب شخصية منغلقة. تلك بعض العوامل بصورة خاطفة، ونأمل أن يستفيض فيها غيرنا لمزيد من الفهم.

لابد لتطور الإنتاج الثقافي من حوار فعال، ولأجل ذلك فلا غنى عن التحرير البنائي ولا دور هيئات التحرير في دور النشر، ولا غنى عن حضور المثقف واتصاله بما يجري في الوسط الثقافي. ولا نبخس الجهود المحترمة في الكتابات النقدية الأدبية التي نراها من وقت لآخر، لكن يلزم جهداً أكبر وأكثر تنوعاً وأبعد مراماً لإنشاء حوار أدبي فعّال.

يس المك

كاتب من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى