ثمار

 نقد الحزب الشيوعي في السياق السوداني

كان ما يجمع رواد علم الاجتماع الأوائل هو الرغبة في استكناه المعاني الكامنة في التغيرات التي طرأت على مجتمعاتهم [1] إحدى المهمات الأساسية التي على باحث علم الاجتماع هي مناقشة قضايا واقعه الاجتماعية، إنها تبدو كضرورة حتمية تقع علىه فالأحداث والسلوكيات والعادات والتقاليد والألفاظ على مستوى المؤسسات الاجتماعية، والسياسات والقوانين على مستوى المؤسسات الرسمية لا يمكن كشف ترابطها وتعقيدها إلا عبر التعمق بأدوات منهجية لكشف ما وراء ذلك كله وتوضيح اللامفكر فيه وبناء مقولات وحجج نظرية تسمح باستيعاب الواقع وتقديم معرفة نقدية منهجية وفق أساس نظري متين.

لمناقشة القضايا النظرية وتطبيقها على أرض الواقع لابد لنا من التدقيق العميق والمنهجي. وخصوصا إن تناولنا قضية مربكة ومهمة ومتشابكة مثل (الماركسية في السياق السوداني الحديث).
تنبع أهمية هذه الورقة في ظل التعقيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي يعيشه السودان (مجتمعا ودولة).
إن الناظر إلى تاريخ القوى الوطنية (الحديثة) في السودان  يرى أنها تعرضت  أثناء الحرب العالمية وبعدها إلى مؤثرات داخلية و خارجية، وإلى مفعول تراكمات ظلت تعمل لمدى طويلة[2] فتوسعت الطبقة العمالية أثناء الحرب مما ساعد في اتساع الخريجين والطبقة المتعلمة.

في ظل هذه التغيرات الاجتماعية كان لابد من ظهور قوى تعبر عن هذه التناقضات ، تدفع بمصالح الفئات الاجتماعية الحديثة داخل أروقة السياسة في تلك الفترة. تكون أول تنظيم شيوعي في السودان باسم الحركة السودانية للتحرر الوطني حستو في عام 1946   [3] وظل طوال هذه الفترة يقدم مساهمات مقدرة  في الساحة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والحركة النقابية.

أغفل العديد من الباحثين الاجتماعيين قضية الماركسية والحركة الشيوعية في السودان وتأثيرها على الحياة الاجتماعية، فالطابع السياسي الأيدولوجي عمل على تدمير البنى الأكاديمية بحيث جعلها مسرحا لصراعات سياسية موغلة في السطحية، ناسية بذلك الجانب المعرفي من النظريات التي أسست للحركات الاجتماعية والسياسية في السودان.

بهذه الورقة فإنني أؤسس لمسار جديد لنقد النظريات المؤسسة للحركة الاجتماعية في السودان، وبالتأكيد هو ليس بموقف سياسي ولكنه موقف نقدي يحمل في طياته عدة مواقف، فالأساس النظري لهذه الحركات الاجتماعية إنما أراه تطور من تاريخ مجتمعات لها حيزها الخاص ويجب علينا كباحثين أن ننتبه إلى هذه النقطة ولكن من دون أن ننفي أن هذه النظريات لها أساسها المعرفي الذي ينبغي علينا أن نعترك معه ونستخرج منه ما يمكننا من خلاله من إنتاج معرفتنا الخاصة التي ترتبط مع هذه المعارف في كونيتها.

تناقش هذه الورقة ارتباط نشأة الماركسية والحزب الشيوعي في السودان بالبنى (الحديثة) كجزء من تطور المؤسسات الاستعمارية وكيف أن هذا الارتباط عمل على خلق هوة ما بين الماركسية وبين بنى المجتمع السوداني ذوالتركيبة المحتلفة والمتعددة في أنماط إنتاجها (القبلي).

تستعرض الورقة التناقضات السياسية والاجتماعية في خطاب الحزب الشيوعي وارتباطها بالديمقراطية، ومدى توافق خطاب الحزب الشيوعي مع تجربته الاجتماعية ومدى تأثر الحركات السياسية بهذه التجربة.

يؤثر التنظيم السياسي في حركة تغيير المجتمع من حيث توجيهه لمصلحة الأفراد الذين يعبر عنهم، لذلك من هذا المنطلق وبعد ثورة (ديسمبر2018 ) التي ظهر فيها شيء من التنظيم ضمن مصالح سياسية وتأثره على حركة الثورة كان لابد من محاولة دراسة هذه الظاهرة وأنسب ما يكون لهذا النموذج السياسي هو الحزب الشيوعي والحركة الماركسية  كمحاولة نقدية.

إن التعقيدات الاجتماعية والسياسية التي أفرزها الاستعمار في الحقبة من ( 1821 – 1955)  كانت كفيلة من تغيير (بنية) المجتمع السوداني، فمن قبائل مشتتة لا يجمعها إطار سياسي موحد إلى دولة حديثة ذات حدود جغرافية ومؤسسات مكتملة، فالاستعمار التركي المصري (1821- 1881) الذي أفرز نوعا من المؤسسات (الحديثة) والوعي السياسي الموحد الذي قاد إلى ظهور الثورة المهدية. لقد بذر الاستعمار التركي أولى خطوات هذا التغير المهم في تاريخ المجتمع السوداني المتعدد، كانت المهدية هي القطيعة مع الحداثة مضمونا  وشكلا إلا أن آثار الاستعمار ومشاهده ما زالت باقية. وذلك في شكل الإداري المركزي للدولة.
مع سقوط المهدية ودخول االاستعمار الانجليزي بدأت الحداثة تأخذ شيئا من التأسيس المختلف فتغيرت الديموغرافية السكانية مع ظهور المدن كأسواق تجارية، بالإضافة إلى ظهور النظام الإداري الحديث والمؤسسات التعلىمية بالإضافة إلى ربط السودان بخط السكة حديد.

يظهر لنا من خلال قراءة ملامح المجتمع السوداني أن هذه المؤسسات لم تتجذر داخل المجتمع فاستعصى عليها أن تعمل على إعادة  إنتاج القبيلة (أتحدث هنا عن إعادة الانتاج  بمعنى تحويل العلاقات البسيطة التي تنشأ داخل القبيلة إلى علاقات مدنية تحمل طابعا مختلفا) فاتخذت هذه البنى الحديثة موقفا مائعا حيث احتضنت  علاقات الدم داخل تركيبتها الحديثة، بمعنى أن علاقات الدم مازالت قائمة منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا وظهر ما يعرف (بالإدارة الأهلية) التي كانت جسرا بين المجتمع القبلي في أطراف السودان (خارج مراكز المدن) ، كما ظهرت أيضا المدن الجديدة التي كانت فيها علاقات العمل تحكم تركيبتها إلا أن هذه العلاقات أيضا لم تنزع بصورة كبيرة فظلت موجودة بصورة كامنة.

منها تظهر لنا إشكالية الدولة الحديثة بحيث أنها احتكرت العنف إلا أنها تحولت إلى مربع للصراع حول السلطة وحول من يحترك العنف، فأصبحت القبائل و المكونات الاجتماعية القبلية ترى حقها في السلطة والثروة وتحولت هذه النظرة إلى حروب أهلية ولم يتحول السؤال من السلطة إلى سؤال مواطنة وحقوق، بمعنى أن الدولة الحديثة عملت على زيادة التراتبية الاجتماعية بحيث خلقت آيدولوجيا للسلطة تقوم على الإثنية وخلقت مركزا وأطراف على أساس الآيدولوجيا الإثنية. ومن هنا يطرح سؤال آخر (كيف تعاملت البنى الحديثة مع هذه التركيبة التي ورثتها من الاستعمار؟).

يتجسد هذا الموقف في حديث الأستاذ: محمد إبراهيم نُقد(1930 – 2012 )[4]، تصفية الإدارة الاهلية باعتبارها شكلا من أشكال بقايا الإقطاع وشبه الإقطاع القبلي، ونشر الديمقراطية وتوسيعها في مسائل الحكم المحلي وتوسيع قاعدة الحكم المحلي بمستوياته المختلفة[5]. إن موقف نقد من البنى التقليدية تتجسد في هذه المقولة ولا أنظر إليه هنا على أنه موقف سياسي وحسب بل موقف معرفي أيضا وماركسي بامتياز، فالماركسية في جذرها الفلسفي ليست مبنية على أساس التعدد أو اختلاف فماركس عندما قام بقلب هيجل على أساس مقولته الشهيرة تلك لم تتخلص من هيجل بل وضعت الماركسية بذلك نفسها داخل الحيز الهوياتي بمعنى أنها فلسفة للتقابل والتماثل وتجاهلت بذلك مفهوم التعدد والاختلاف [6] وهو ما دفع نقد إلى قول (تصفية بدلا من إصلاح أو دمقرطة)، فنُقد يرى بمنظوره الثنائي واقعا معقدا موغلا في الاختلاف والتناقض ولكنه حلل هذا الواقع وفقا لماركسية منتجة ضمن نخبة حديثة وفقا لتصور أداتي مناسب مع البنية الحديثة للمؤسسات فالطابع السلطوي لم ينزع عنها حتى في ترجمة مقولاتها الفلسفية وربطها بالواقع فأنتجت شكلا من أشكال السيطرة التي اكتنفت معظم المناهج المعرفية في القرن العشرين، وهذا قابله نظريا في فلسفة الهوية في أنها جعلت من الانسان (ذات) والعالم (موضوع) والذات هنا تتجلى من القيم المثلى في الإنسان الأوربي لأنه الأقرب لها فهو كمنتج للحضارة والمعارف هو الأقرب لهذه المثل والقيم، أما الآخر هو الموضوع الذي يخضع للسيطرة، انتقلت هذه النظرة الاستعمارية أيضا إلى المؤسسات الحديثة وعملت على صك عقول الطلاب الذين تعلموا لمساعدة المستعمر في إدارة المستعمرات فتطورت هذه المؤسسات لتكون منتجة للنخبة السياسية والتي أسست للحركة الوطنية في الدول المَستعمرة وتقود حركة التحرر، إلا أنها لم تكن حركات تحرر على أسس نظرية تنبع من صميم الواقع المشاهد حولهم ولا وفقا لحركتهم في التاريخ لذلك انقلب السحر على الساحر وأصبحت حركات للسيطرة على الواقع وفرض قيمها عليه، إنني بهذا لا أنفي الماركسية من جوانبها المعرفية او أرفض أوربا بما أنتجته ولكن أنظر إلى الواقع أيضا الذي بدل أن تتحول فيه النظريات إلى أدوات سيطرة في أن تكون أدوات تحليل ونقد ومعالجة وتوليف، وهذا ما ذهبت إليه المعارف ما بعد الحرب العالمية الثانية مع ظهور تيارات نقدية مختلفة.

تحايل الحزب الشيوعي على الواقع السوداني المتعدد الهويات والأعراق ومختلف البنى القبلية (التقليدية) حيث أكد ماركس وإنجلز – الآباء المؤسسون للماركسية – على ضرورة توافر القاعدة المادية لبناء مجتمع اشتراكي، أي أن قيام الاشتراكية مرهون بمدى تطور الرأسمالية وتقدمها في المجتمع الذي تحدث فيه ثورة، فلا يمكن بناء الاشتراكية في بلد رأسمالي متخلف. لاحقاً طور الثوري الروسي ليون تروتسكي أطروحة ماركس بتأكيده أن الثورة ممكن أن تبدأ من بلد متخلف يعاني من رأسمالية متخلفة وطبيعتها “مركبة وغير متكافئة” على شرط أن تمتد إلى البلدان الرأسمالية المتقدمة في أوربا الغربية. ورأى تروتسكي استحالة قيام ثورة برجوازية ديمقراطية في الدول الرأسمالية المتخلفة بسبب طبيعتها الرجعية[7].

ولم يقف التحايل عند هذا الحد بل أغفلت الحركة الماركسية (الحزب الشيوعي السوداني) قضية مثل قضية الجنوب التي هي في الأساس قضية ثورية بامتياز، لكنه ظل متخفيا بدثار الماركسية شعارات فقط دون منهجية وتناقض مخجل لم ينتهج الحزب الشيوعي السوداني النهج اللينيني في التعامل مع حركة التحرر الوطني الجنوبية، فوقف الحزب ضد حق الجنوب في تقرير مصيره بذريعة الحفاظ على وحدة السودان من التمزق لقد تعامى الحزب عن الدور الذي يلعبه الجنوب في تثوير الشمال وإضعاف البرجوازية السودانية. لقد تغافل الحزب عن حقيقة وقوع الثورات في الشمال كرد فعل للجنوب، وتناسى استحالة وصول العمال السودانيين للحكم طالما ظل الجنوب محتلا والعمال الشماليون شوفينيون ومتحدون مع برجوازيتهم في قهره. أما الطرح الذي قدمه الحزب الشيوعي فهو إعطاء الحكم الذاتي فقط للجنوب وتنميته ليصبح جزءا من سودان موحد. وهذا طرح إصلاحي يسعى لتهدئة الأزمة في إطار الدولة البرجوازية الراهنة وليس طرحاً ثورياً يسعى لاستخدام الأزمة في تحطيم الدولة البرجوازية التي تقهر الجنوب .[8]

يقع على عاتق الحركة الماركسية (الحزب السيوعي السوداني) دور مهم في تثوير الواقع السوداني ومحاولة طرح مقولات تحررية في ظل الهجمية الرأسمالية الشرسة على كافة القطاعات الاقتصادية في السودان وخصوصا بعد الثورة والوضع الدولي الذي يبدو أنه سيشهد توغلا داخل البنية الاقتصادية التي بدورها ستفرز واقعا اجتماعيا مختلفا، فالتوجه النيوليبرالي لحمودك والمنظمات العالمية التي ترمي بالطعم لكي تدخل المجال السوداني يلوح دخانها في الأفق، يحتاج التيار الماركسي في السودان أكثرمن أي وقت مضى إلى عمل ثورة نظرية تعمل على بناء أفق يدفع بالواقع السوداني إلى نهضة فكرية حقيقية في شتى مجالات الحياة وضروب المجتمع.

المراجع والمصادر :

الكتب :

 انتوني غدنز ، علم الاجتماع ترجمة :  فايز الصايغ ،،بيروت : المنظمة العربية للترجمة ، الطبعة الاولى ، 2005  .

 محمد سعيد القدال ، تاريخ السودان الحديث ، الخرطوم ، مركز عبد الكريم مرغني ، الطبعة الثانية ، 2002 .

محمد إبراهيم نقد . قضايا الديمقراطية في السودان ، القاهرة ، دار الثقافة الجديدة ، الطبعة الاولى ،1992

هشام عمر النور ، تجاوز الماركسية الي النظرية النقدية ، القاهرة ، دار رؤية ، الطبعة الاولى ، 2012

حسام حملاوي ، السودان الشمال والجنوب و الثورة ، القاهرة ، بوابة الاشتراكي ، الطبعة الاولى  ، 2012

[1] غدنز ، الصايغ ، علم الاجتماع ،(بيروت : المنظمة العربية للترجمة ، الطبعة الاولى ، 2005 )، ص73

[2] القدال ، تاريخ السودان الحديث ، الخرطوم ( مركز عبد الكريم مرغني ، الطبعة الثانية ، 2002 )، ص 353

[3] القدال ، المرجع السابق ، ص 495

[4] السكرتير العام السابق للحزب الشيوعي السوداني

[5] نقد، محمد إبراهيم. قضايا الديمقراطية في السودان.( دار الثقافة الجديدة، القاهرة 1992) ص127

[6] النور ، هشام ،تجاوز الماركسية الي النظرية النقدية ، (القاهرة ، رؤية للنشر و التوزيع ، الطبعة الاولى ، 2012)  ، ص 30

[7] نقد، المرجع السابق ، ص112.

[8] حملاوي ، حسام ، السودان الشمال والجنوب و الثورة ، (القاهرة ، بوابة الاشتراكي ، 2012 ) ص12

حسان الناصر

كاتب من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى