شهادات

قراءة في احدى قصائد الراحل لاتينوس …

الليلة الفائتة، كانت الريح تهدر

هابطةً نحو الأسفل

حيث الليل يغوص في سكون مريب

والبرد يطعن جِلد الأشياء .

الليلة الفائتة، كانت غريبة جداً

إذ بالقمر يشعُّ، يتلألأ،

يضيء سماء الكون

وهذا أمر لم أعهده منذ سنة ونيف تقريباً

وكأنه لا وجود له مِن قبل .

هنا يُفسد الفكر المجرد والتنظير والتقنين والمنطق الشعرَ، ويحوله إلى نظم ومحاكاة على مثال سابق ومادة علمية جافة، لها وسائل أخرى لتأصيلها وتوصيلها، ويحد من تجليات الخيال والدفقات الشعورية؛ فيصبح ثقيلاً مكبلاً؛ لا يستطيعُ التحليق والطيران، ويغدو بارداً لا دفءَ فيه، وهو إن وصلَ قد يصلُ إلى عقولنا، لكنه لا يصلُ إلى قلوبنا، ولا يسري في شراييننا؛ فلا يسحرنا ولا ننتشي به؛ لأنه لا يرفعنا، بل يقيدنا ويشدّنا إلى الأرض، لكن هذا الثقل والجذب للأرض، وهذا التعطيل للشعرِ ومفعول الشعر، لا يحدثُ إلا عندما يفقد الشاعر أسرار المعادلة الشعرية ورموزها.

فبالإمكان دائماً الجمعُ بين جمالَيْ الشعر والفكر؛ فلا تناقض بينهما لدى الشاعر المتمكن، بل إن الشعر عندما يخلو من بعده الفكري والثقافي والحضاري يصبح سقيماً ضعيفاً ساقطاً. فالشعر الذي يضيف إلى مخزون الحضارة والثقافة والفن والذوق العام لأمّة و لغة وهوية هو الشعر الذي لا يعطل قيمةً على حساب أخرى، وهو الشعر الذي يراكم ولا ينفي، وهو الشعر الذي يتكئ على التراث الحضاري واللغوي الخاص، والإنسانيّ العام، وعلى البيئة والواقع، دون أن يُرتهن، مساهماً في التغيير الإيجابي والإضافة والبناء، مغرداً بالحق والخير والجمال والحب والسلام، محتفيًا بالطبيعة والإنسان، ساعيًا إلى رفعته ورقيه وتحقيق إنسانيته، مكتنزًا بالأسئلة المثرية المحفزة على التساؤل والبحث، وهو بذلك يحرك العقل والشعور والوجدان ويحرك مجاديف الحضارة والرقي، كما هو الحال مع بقية الفنون ..

ونحن نعلم أنه ليس للشعر قواعد ونظريات ثابتة تُتبع ويُبنى عليها، وإلا لتشابه وفسد. فالشعر متحرك متعدد متغير باختلاف الشعراء والمدارس؛ وهنا سر استمراريته وخلوده. وهذا لا يعني هنا الشكل فحسب، بل يعني الشعر كله.

ونحن نستطيع تلمس ما قلنا لدى شاعرنا لاتينوس؛ فهو مُخْلِصٌ لقصيدته، وهي مخلّصَةٌ له، تزيحُ عنه المرارات، وتشرح صدره بالجمال، وتفتحُ له الأبواب والنور والرؤى، فتريح ضميره ونفسه القلقة كقلق المتنبي، كما يتجلى لنا ذلك في أعماله، وفي قصيدته ( الليلة الفاتئة ) بشكل أكثر وضوحًا؛ حيث يشعّ النور كفكرة وقيمة وكشعور!!

فالأعمى في قصيدته الذي يرى هو شاعرنا، وإن كان شخصية حقيقية مرّ بها، أو خيالية ابتكرها خياله الخصب ليعبر بها عن رؤيته وهو يدرك أسرار معادلة الشعر.. وحين نقرأ الأعمى الذي يرى ندرك أنه يحسن وزنها عبر موهبته ولغته وثقافته؛ فيحافظ على توازن قصيدته، ويجعلها عاليةً دانية؛ فهو يُلمّح ولا يصرّح، ويُحيلُ ولا يشيرُ عبرَ …

لو قدِّر لي أن أحب

بجنونٍ لا متناه،

فيما تبقى مِن عمري البائس .

سأحب أمرأة لا تشبه أحدا

بمشاعر تغوص بدمِ الشبقِ

بأقراط طويلة تتدلى مِن أذنيها

وزمام في الأنف كنساءِ أفريقيا .

ونحن حين ذكرنا ما ذكرنا حول الشعر كله نعلم أن للشاعر كامل الحرية في أن يكتب ما يشاء، وأن يطلق قصيدته كيفما يشاء، أن يتغزل بعيني حبيبتِه، أو أن يعرِض قضيته وقضايا وطنه وأمته، أن يجرّب، وأن يدرّب يده لتصبح أكثر مهارةً في رسم التفاصيل، أو في اختزالها.. المهم أن يكون لدينا شعرٌ يغرينا ويغوينا، ويرضي غرورَ ذائقتنا التي تحب التحليق والطيران.

فالمهمّ ليس التنظير أو التأطير؛ المهم هو القصيدة شكلاً ومعنى.. والمهم الروح؛ فالروحُ لا اللسانُ ما يقود الشاعر إلينا، ويزرع شعره في حقول جمالنا، ويثبت هويته وبصمته في مكتبة معارفنا وسلّم ذائقتنا.

سأحبها نصف مجنونة

تطعنني ببظرها بلا شفقة

في آخر الليل،

فأفرُّ موجوعاً إليها .

أريدها أمرأة تحبني بتسلطِ الأمازونيات

بقُبلةٍ في الفمِ، تهزني

كوخز إبرة في الردف .

لو قدِّر لي أن أحب أمرأة

سأحبها مجنونة فعلاً،

تتوهّم بأن الجنس نداء الجسد

لا علاقة له بالروح أو الحب

أن الجنس تعميد الشهوة

ورتق جراح الليل عبر إبرة التأوّهات اللذيذة .

لستُ أعرف أفضل وقت للحب

كما للبكاء أيضاً،

رغم أن كل الأوقات تصلح للبكاء

حتى ونحن على سريرِ الحب

نصلي لإله الشهوة .

فالحب شيء كالبحر

لا نعرف متى يهيج

فيلطم الموج صخور الروح .

الحب كالدم لا نعرف متى يفور

فتصرخ الأوردة تحت سريانه

فننزع نحو وحل الخطيئة .

الحب شيء كالريح لا نعرف متى تثور

فتزيح التنانير الضيقة

التي تحزم الأفخاذ الكانزة .

صِدقاً؛ لا شيء يسوق إلى الحب

غير طعنة ما بعد منتصف الليل

حين يغوص البرد في الجِلد والعظام

فتطفق الروح في صراخٍ مهول

زر الذهاب إلى الأعلى