اسبينوزا ونيتشه في حوار: كوناتوس اسبينوزا وإرادة قوة نيتشه، حفظ الذات مقابل زيادة القوة؟
مقدمة:
كتب نيتشه في العام 1881م:” أنا منذهلٌ ومسحورٌ تماماً! لدي سلفٌ وأي سلف! هذا المفكر الأكثر استثنائية ووحدةً، هو الأكثر قرباً مني في هذه المسائل على وجه التحديد: فهو ينكر حرية الإرادة والغائية، والنظام الأخلاقي للعالم، والغيرية، والشر”.
كلمة قصيرة عن المؤتمر
يجمع هذا المؤتمر مفكرين من أنحاء العالم، يعملون ضمن تقاليد فكرية متباينة لاستكشاف الصلات العديدة بين فكر اسبينوزا ونيتشه. وكلاهما مفكرٌ جذري ذو مقاربة فردية للغاية فيما يتعلق بالتقاليد التي سبقتهم، في مناحٍ عديدة. سيضع هذا الحدث اسبينوزا ونيتشه في حوار، وبذا يوسّع الحوار بين الباحثين، وعلاوةً على ذلك يقدم النقاش إلى جمهور عريض.
نص المحاضرة
شكراً جزيلاً، أود أن أشكركم أيضاً على دعوتي، شكراً لسوزان وكيم وأليكس، سعيدة بوجودي هنا.
سأتحدث عن استقبال نيتشه لاسبينوزا، وأقدم بعضاً من أفكار أطروحتي.
(أنا منذهلٌ و مسحورٌ تماماً! لدي سلفٌ وأي سلف! هذا المفكر الأكثر استثنائية ووحدةً، هو الأكثر قرباً مني في هذه المسائل على وجه التحديد: فهو ينكر حرية الإرادة والغائية، والنظام الأخلاقي للعالم، والغيرية، والشر)
بهذه الكلمات إذن، في العام 1881م اعترف نيتشه بحماس بأن اسبينوزا هو سلفه، بعد أن اكتشف فلسفته عبر مقاربة كونوفيشر. هذه الثنائية الغريبة التي تعرف عليها نيتشه بعد اكتشافه أو بالأحرى إعادة اكتشافه لاسبينوزا لم تقده، رغم ذلك، للصيرورة اسبينوزياً. التزام نيتشه المؤكد لاسبينوزا قد أخلى مكانه لمصلحة حوارٍ نقدي مع سلفه، بعد العام 1881. حوارٌ حدث بصورة منتثرة في كتاباته المنشورة، بيد أنه أُنجز بكثافة في ملاحظات نيتشه غير المنشورة. إذن، يصدر نقد نيتشه لاسبينوزا عن تلقٍ مُركّب، من ناحية يتخذ نيتشه بعض مواقف اسبينوزا، بينما من ناحية أخرى يتبنى مواقفه بالتعارضٍ مع هذه المواقف الاسبينوزية، وبذلك يحاول أن ينأى بنفسه عن سلفه. هذا التبادل بين التبني والتفارق يجعل من اسبينوزا واحداً من أهم محاوري نيتشه في ثمانينات القرن التاسع عشر. لكن في الواقع، نيتشه لم يقرأ اسبينوزا. رغم افتتان نيتشه الظاهر بفكر وشخص اسبينوزا، لم يشعر نيتشه، في أغلب الأحوال، بالحاجة لقراءة الكتابات الأصلية لسلفه، بل اكتفى بالرضا بتكوين صورة عن فكر اسبينوزا بناءً على مصادر ثانوية أهمها كتاب كونوفيشرز بالألمانية وهو كتاب يقدم فلسفة اسبينوزا في 500 صفحة، وقد عكف نيتشه على دراسته مرتين على الأقل في ثمانينات ذلك القرن التاسع عشر. بالطبع تعرّف نيتشه على اسبينوزا في وقت سابق على العام 1881، حيث نقل إليه جوته وشوبنهاور صورة إيجابية جداً عنه، عندما كان طالباً، ثم عبر فردريك لانقه وأفريكان اسبير اللذان قرأهما نيتشه بعد ذلك حيث أشارا إليه مراراً، وغالباً عبر صديق نيتشه الفيلسوف بول ري الذي حدثه عن اسبينوزا في أحايين عديدة، لكن كل هذه التعرفات التي حدثت قبل العام 1881 كانت عرضيةً بالأحرى، لكن مع كونوفيشر وحده، ركّز نيتشه على اسبينوزا وقرأه ليكون مُلمّا بفكر اسبينوزا بصورة فعلية.
بالنسبة لنيتشه تمثل فلسفة اسبينوزا نموذجاً بقدر ما هي هدف للنقد. وقد حددتُ أكثر أوجه نقد نيتشه لاسبينوزا أهميةً في: أولاً نقد الأخلاق، ثانياً ما سأسميه باتيقيا الإثبات Ethics of affirmation)) المرتبط بمفهوم (حُب الـ….:Amore Di)، ثالثاً تصور المعرفة، رابعاً مفهوم القوة. تتباين آراء نيتشه بقوة فيما يتعلق بهذه المجالات اعتماداً على ما إذا كان يخاطب جمهوراً أم لا، لذا فإنني أقترح التمييز بين صورة خارجية لاسبينوزا في كتابات نيتشه المنشورة، وصورة باطنية في ملاحظات نيتشه غير المنشورة. بينما تشهد كتابات نيتشه في دفاتر ملاحظاته على نزوع وتبني، يسعى نيتشه في كتاباته المنشورة للنأي عن اسبينوزا، والاستثناء الوحيد الممكن هنا، هو نقد نيتشه لفلسفة الأخلاق، حيث يقر نيتشه باسبينوزا كسلف لتفلسفه الخاص فيما وراء الخير والشر في الكتابة المنشورة وفي دفاتر الملاحظات بذات القدر، ويُقدِّرهُ بوصفه شخصية استثنائية في تاريخ الفكر المسيحي الأفلاطوني. يمكن تفسير الفرق بين صورة اسبينوزا الخارجية والباطنية لدى نيتشه باختلاف مسعاه في الكتابات المنشورة عن الملاحظات غير المنشورة، بينما يتوفر على فلسفة اسبينوزا كمصدر للأفكار في ملاحظاته، فإنه غالبا ما يؤسلب موقف اسبينوزا بوصفه نقيضاً لموقفه في كتاباته المنشورة. هكذا يرسم تفكيره، ويؤكد أصالته. بهذه الطريقة يخون نيتشة نزعته في تجذير المواقف التي واجهها لدى اسبينوزا، ليقوده هذا أخيراً إلى قلب هذه المواقف ضد سلفه.
فيما سيلي سأفحص حوار نيتشه النقدي مع اسبينوزا، فيما يتعلق بمفهوم القوة. أقوم بذلك لأنني أعتقد أن سؤال القوة يقع حقاً في قلب نقد نيتشه لاسبينوزا، ولأبيّن أيضاً أن تلقي نيتشة غير المباشر لاسبينوزا كان عنصراً مُشكِّلاً لفكره في ثمانينات القرن التاسع عشر، حيث كان لمفهوم إرادة القوة أهمية أساسية. أود أن أبيّن كيف صقل نيتشه مفهوم إرادة القوة عبر تفاعل نقدي مع مبدأ حفظ الذات الاسبينوزي المعطى في نظرية الكوناتوس. يعتبر نيتشه كوناتوس اسبينوزا أطروحة مُكوِّنة للفكر الميتافيزيقي الحديث، وبواسطة مفهوم إرادة القوة يعارضها بمبدأ، ليس لحفظ القوة، إنما لزيادتها، ضد ما يعتقد أنه هوس ميتافيزيقي بالكينونة المعبّر عنه من وجهة نظر نيتشه بمبدأ حفظ الذات، يطرح نيتشه مفهومه للقوة كوسيلة لإعادة تقييم فكرة الصيرورة الجذرية، ويهدف بذلك إلى تعريف تعبيرات القوة ليس وفق ذات تحاول حفظ ذاتها عبر هذه التعبيرات، بل باعتبار ذات تتجاوز ذاتها على الدوام، وبهذا المعنى ليس لها من هوية قارّة.
سأقدم أولاً نقد نيتشه لدافع حفظ الذات الاسبينوزي، كما هو معروف للغاية، فقد هاجم نيتشه مراراً مبدأ حفظ الذات الحديث، ليس في سياق تلقيه لاسبينوزا فحسب، إلا أن اسبينوزا هو الشخصية التي يصورها نيتشه بوصفها أهم مناوئيه في هذا الجدل، بسبب أن تصور اسبينوزا الميتافيزيقي لمبدأ حفظ الذات، يسمح له بتبيان موقفه المضاد بصورة أكثر حسماً ودقة، بمعنى، أن يطرح مفهومه إرادة القوة بوصفه أطروحة ضد- ميتافيزيقية، فهو يعتقد أن التقليد الميتافيزيقي الذي سبقه تصوَّرَ القوة على أنها قوة محافظة بالأساس. وأراد أن يقدم إرادة القوة باعتبارها مبدأ دينامياً لتنامي الذات وتزايدها في المقابل. ولكي يفسّر هذه الفرضية المُضادة، يستخدم اسبينوزا. هذا الجدل مهمٌ لنيتشه أيضاً، بالقدر الذي يعتبر فيه، تقليد حفظ الذات الحديث مسعىً للداروينية المعاصرة التي يهاجمها. مفهوم نيتشة (إرادة القوة) والذي ظهر في أعماله المنشورة لأول مرة في (هكذا تكلم زرادشت)، لم يكن قد تبلور بشكل كامل بعد عندما قرأ نيتشه كتاب كونوفيشرز عن اسبينوزا في العام 1881م. قراءته عن سبينوزا ستمكنه من تجلية مفهومه الخاص للقوة وأن يصوره بالتعارض مع نظرية حفظ الذات الاسبينوزية، بوصفه مبدأً للزيادة. لكن بقدر ما يعزو نيتشه لاسبينوزا السعي إلى مجرد حفظ الذات، فإنه يقدم تفسيراً أحادياً لنظرية الكوناتوس الاسبينوزية، ومن ثم أيضاً، يخفي التقارب بين مفهوم اسبينوزا للقوة ومفهومه الخاص لها. في كتاب ما وراء الخير والشر 13 يعارض نيتشه بين مفهومه للحياة بوصفها إرادة قوة وبين سعي اسبينوزا لحفظ الذات، والنص الذي سأقوم باقتباسه مثالٌ جيد على الصورة الخارجية التي يعطينا إياها نيتشه في أعماله المنشورة “ينبغي أن يفكر الفيزيولوجيون في أنفسهم قبل أن يموضعوا دافع حفظ الذات باعتباره الدافع الرئيسي للكائن العضوي، فوق كل شيء يريد الكائن الحي تفريغ قوته، الحياة نفسها إرادة قوة، حفظ الذات هو أحد التبعات غير المباشرة والأكثر تواتراً فحسب لهذا، باختصار، هنا أو في مكانٍ آخر، احذر من المبادئ الغائية الفائضة ومنها دافع حفظ الذات، الذي ندين به لتضارب اسبينوزا، وهذا ما تطلبه المنهج، الذي يجب أن يكون اقتصاداً للمبادئ بالأساس”. هنا، ينتقد نيتشه السعي لحفظ الذات من حيث محتواه ومنهجيته أيضاً. ويعتبر هذا السعي مبدأً فائضاً، بما أنه مُوجَّهٌ نحو حالةٍ مُعطاة سلفاً، لذا يفهمه بوصفه مبدأً غير كافٍ لتحديد كائنٍ حي. عوضاً عن ذلك، يخضع نيتشه هذا السعي لمبدأ إرادة القوة، الذي يتضمن حفظ الذات، بينما يتميز في ذاته بزيادة القوة. علاوةً على ذلك، يتهم نيتشه اسبينوزا بالتضارب، مُستبعداً السعي لحفظ الذات بوصفه مبدئاً غائياً، غير المخول لاسبينوزا كمفكرٍ ضد غائي صريح. بينما يرحب نيتشه بشدة بنقد اسبينوزا للغائية، في العام 1881م في البطاقة البريدية الشهيرة المرسلة إلى أوفر بيك، حيث كان نقد الغائية واحداً من النقاط الخمس الأساسية التي تعرّف نفسه فيها، فإنه يقلب هذا النقد على مؤلفه، عندما يتهم اسبينوزا، بروح اسبينوزية فيما يبدو، بالتفكير غائياً. يستأنف نيتشه نقده للسعي لحفظ الذات، في الكتاب الخامس من “العلم المرح”، بشذرة ضد داروينية في خطها الهجومي، أقتبس (رغبة المرء في حفظ الذات عرض لحالة كرب، لحدٍ كابح لغريزة الحياة الأساسية الحقة، التي ترمي لتنامي القوة وروم هذا التنامي يضع حفظ الذات موضع الخطر مراراً، و يضحي به حتى، أحياناً) وهنا يصوّر نيتشه اسبينوزا كجد للصراع الدارويني من أجل البقاء، مؤولاً حفظ الذات الاسبينوزي بوصفه عرضاً لبنية مريضة، وأقتبس مجدداً من نفس النص (ينبغي أن يعُتبر أعراضياً، قيام بعض الفلاسفة، مثلاً اسبينوزا الذي كان مسلولاً، باعتبار غريزة حفظ الذات شيئاً حاسماً، وكان عليهم أن يروها على ذلك النحو، نسبة لحالات كربهم الفردية) بالمقابل يعترض نيتشه (الصراع من أجل البقاء مجرد استثناء، وتقييد مؤقت لإرادة الحياة) ثم يعلن أن نزوع المرء لزيادة قوته سمة أساسية للحياة (تدور الصراعات العظمى والصغرى دوماً حول الأعلوية، حول النمو والتوسع، حول القوة، وفقاً لإرادة القوة، والتي هي إرادة الحياة).
لكن، بتقديم اسبينوزا، بوصفه منظراً لحفظ الذات، يفوت على نيتشه حقيقة أن نظرية الكوناتوس الاسبينوزية تشمل كل من؛ حفظ القوة وزيادتها، وهذه حقيقة، تتجلى بوضوحٍ، بالمناسبة، في كتاب كونوفيشرز عن اسبينوزا. كونفيشرز، حقاً، مؤلف يؤكد كثيراً على مفهوم القوة، وعلى أهمية القوة في فكر اسبينوزا، وفي هذا الخصوص، يمكننا قول أن تأويله لاسبينوزا مازال مواكباً إلى حدّ كبير، وقد كان جديداً للغاية في القرن التاسع عشر، خاصة هذا التعالق بين حفظ الذات وزيادة القوة، الشيء الذي يقدمه كونوفيشرز على نحو شديد التفصيل، هناك على الأقل 25 فقرة من كتابه يشدد فيها على هذا الأمر، والمقتطع الخاص بحفظ الذات أخذه نيتشه عن مونوغراف كونوفيشرز، يبيّن بوضوح أن هذا التعالق بين حفظ الذات وزيادة القوة في مفهوم الكوناتوس الاسبينوزي كان ظاهراً بالنسبة لنيتشه وأقتبس (أياً كان ما نفعل، فإننا نفعله لحفظ قوتنا وزيادتها) لذلك يقتبس نيتشه من دراسة كونوفيشر عن اسبينوزا، في ملاحظاته غير المنشورة، وهذا مثال على الصورة الباطنية لاسبينوزا، في مذكرات نيتشه الخاصة، سأدلف الآن إلى التعالق بين حفظ الذات وزيادة القوة في الكوناتوس الاسبينوزي. يتطلب مفهوم الكوناتوس الاسبينوزي ……، والذي وفقاً له، يحدد طبيعة كل شيء متعين، هو في الحقيقة مفهوم دينامي لحفظ الذات يشمل الميل لزيادة القوة، إلى الحد الذي يمثل فيه كل شيء بالنسبة لاسبينوزا قوة معينة تحقق نفسها عبر آثارها فقط، ولاينوجد كشيء منعزل عن آثاره، جوهر كل شيء هو فعالية، بمعنى، أنه إثبات للقوة، لأن كل شيء معين يتعرِّف َمن الخارج- بوصفه شيء- عليه أن يؤكد نفسه ضد أشياء أُخرى، بمعنى أنه يسعى لحفظ ذاته بمضاداتهم، لذلك فإن قوة شيء معيّن تتخذ، بالضروة، شكل الكفاح، والذي، لذلك يؤلف جوهر الشيء، لكن إذا كانت كينونة الشيء ليست سوى إثباتٍ للقوة ضمن علاقة بأشياءٍ أُخرى، أو قل كفاح، إذن، فما من هوية قارّة للشيء، وفي حفظه لذاته، فإنه لا يرمي لحفظ ذاتٍ ثابتة، غير قابلة للتغير، بل لإثبات ذاتها بوصفها قوة قادرة على خلق انفعالات جديدة مرّة بعد أخرى، فحفظ المرء لذاته لا يعني وفقاً لاسبينوزا ضمان الوضع القائم لقوة موجودة، بل بالأحرى، حفظ الكفاح في ذاته، بمعنى، إثبات المرء ذاته بوصفه قوة متغيرة.
و الآن ماذا عن النزوع لزيادة القوة؟ فيما يتعلق بالكوناتوس فإن الشيء لا يثبت قوته فحسب، لكن إلى الحد الذي يكون فيه واعياً بقوته، فإنه أيضاً سيثبت أيما شيءٍ يخدم إثباته لذاته. سيسعى الكوناتوس الواعي بذاته للوسائل التي تؤمن كفاحه، وإذا كان قادراً على توقُع المخاطر المستقبيلة، وتذكُّر الاخطار التي أحدقت بوجوده في الماضي، فسيفهم أن حفاظه على ذاته سيكون مؤمّناً بصورة أفضل إذا ما كافح لزيادة قوته. في تقديري، إن الكفاح من أجل زيادة القوة، مضمر بصورة طبيعية في السعي من أجل حفظ الذات بالنسبة لشيءٍ واعٍ بسعيه، كـ(الإنسان) مثلاً. الكائنات الإنسانية أو أي كائنات واعية أخرى محتملة، تنزع طبيعياً لزيادة قوِّتها، وهذا النزوع ضالعٌ في إثبات قوتها ذاته. في هذا الصدد، فإن نظرية الكوناتوس الاسبينوزي تتكشف عن درجة ملحوظة من التقارب مع مفهوم إرادة القوة النيتشوي. والذي يوجهه نيتشه رغماً عن ذلك، سجالياً، ضد اسبينوزا، في كتابه (ما وراء الخير و الشر)، السؤال الذي أودُّ التوجه نحوه الآن هو: هل بامكان للمرء أن يبرر الاعتراض على اسبينوزا على غرار ما فعل نيتشه، بأن مبدأه لحفظ النفس غائي، لذا فإنه ينذر بتقويض نظامه. يتصور اسبينوزا الكوناتوس بوصفه مفهوما ضد غائي Anti-teleological، أظن أن هذا مما لا جدال فيه بين الباحثين. لكن، غالباً ما تم الاعتراض على اسبينوزا بأنه يتصور حفظ الذات بوصفه غاية تخضع لها وسائل محددة كزيادة القوة مثلاً، عليه، فإن الكوناتوس، يكشف عن نفسه بوصفه ذو بنية غائية، في نهاية الأمر. قد يكون هذا النقد مبرراً، حال كان حفظ الذات هدفاً لم يُنجَز بعد بالحقيقة المجردة للكفاح فحسب. لكن بالنسبة لاسبينوزا فإن حفظ الذات ليس هدفاً يتميز عن كفاح القوة الفاعلة للشيء، بالأحرى هو ببساطة، نمط كينونة شيء محدد، عليه فإن الكوناتوس من حيث هو، قد يُفسِّر بنيات غائية، كما في أفعال الإنسان مثلاً، لكنه ليس مبدئاً غائياً في ذاته، ومن المثير للاهتمام أن نرى أن كونوفيشرز يفهم الأمر على هذا النحو أيضاً، فهو لايقدم اسبينوزاً بوصفه مُفكراً غائياً، لكن ما يفعله في كتابه، هو تفنيد النقد الوراد في كتاب أدولف ترخندلن ويدحض هذا النقد الذي، وفقاً له، يفشل نظام اسبينوزا في تحقيق زعمه الضد غائي. ونيتشه الذي قرأ كونوفيشر فحسب، ولم يتوفر على المصادر الأولية، ولم يقرأ هؤلاء المؤلفين الآخرين، يتجاهل اعتراضات كونوفيشر على كتاب ترخندلن، ويستخدم النقد الوارد في كتاب ترخندلن ليفسر فرضيته المضادة لاسبينوزا، وفعل ذلك رغم أنه هو نفسه لم يعجب بكتاب ترخندلن إلى حدٍ كبير. لدينا ملاحظات أخرى، في دفاتر ملاحظاته، حيث يكتب بصورة سلبية إلى حد كبير عن كتاب ترخندلن، لكن في هذه الحالة لا بد أنه كان من المهم جداً لنيتشه أن يتمّكن من تأويل أطروحة مضادة لاسبينوزا، بحيث أنه أخذ هذا الاعتراض فحسب، دون أن يقلق بشأن محاولة تأسيسه بصورة أكبر. على الأقل، هذا ما أظن أنه فعله.
يقودنا هذا إلى استراتيجية نيتشه في تفسير اسبينوزا، كان نيتشه واعياً، بتعالق حفظ الذات وزيادة القوة عند اسبينوزا بوصفه منظراً للقوة، وهذا مُبيَّنٌ في الملاحظة التي اقتبستها من قبل، أي شذرة نيتشه عن كونوفيشرز حيث يكتب أن “حفظ الذات و زيادة القوة ينتسبان إلى بعضهما”، لكن عوضاً عن الاعتراف به كسلف في هذا الخصوص، ينكر نيتشه في كتاباته المنشورة على اسبينوزا نظرية عن زيادة القوة، و يوائم هذا الجانب مع مفهومه “إرادة القوة”. بعزوه لاسبينوزا مفهوماً محضاً لحفظ الذات ووصمه علاوةً على ذلك بالتضارب، فإن نيتشه يفوّت جانباً مهماً من دراسة كونوفيشرز، أكان هم الأصالة لديه هو ما دفعه لفعل ذلك؟ أعتقد أنه سيكون مبالغة في التبسيط أن نشرح تفسير نيتشه بالدافع النفسي فحسب، حتى لو توفر لديه هذا الدافع حقاً، في تقديري، أن لنيتشه أسبابه الفلسفية في رسم هذه الصورة الأحادية لاسبينوزا، فمن ناحية، يهمل نظرية اسبينوزا في القوة وخاصة الجانب المتعلق بالزيادة، لأن ما يعكّره أن القوة العظمى بالنسبة لاسبينوزا تتمثل في الممارسة العقلية، بالتأكيد، دوّن نيتشه عن كونوفيشر ملاحظة أن قوة العقل وحدها قادرة على التغلب على العواطف وجلب انسجام الذات مع ذاتها ومع الآخرين، ويضاد نيتشه هذا الطرح في مذكراته وهنا أقتبس منه (إنها الأنا، هذه كلها تحيزات، لا يوجد مثل هذا النوع من العقل، ومن دون صراع و عواطف يصبح كل شيء ضعيفاً، الإنسان وبذات القدر المجتمع) وبقدر ما يختزل نيتشه كل ممارسة عقلية في الانفعالات والدوافع، يعلن العقل بوصفه ظاهرة لاحقة “ابيفينوميناEpi-phenomena” لتضاد القوى، والذي يستطيع أن يهدئ تصارع القوى على نحو ٍسطحي وزائل فحسب، ويهدف إلى تحديد أن يحدد مفهومه للقوة بالصراع والعاطفة، لذلك يريد أن يستبعد أي إمكانية للجمع بين نظرية اسبينوزا العقلانية للقوة ونظريته. من ناحية أخرى، يستنكر نيتشة جوهرانية نظرية اسبينوزا للقوة، بالنسبة لاسبينوزا، بالتأكيد، لكل شيء متناهٍ جوهرٌ أبديٌ، يشارك بمقتضاه في الجوهر الإلهي بوصفه نمطاً له، الجوهر الأبدي هو قوة فعل المادة (Substance) بو تينسيا أقندي، التي صارت معدلة إلى كوناتوس في الشيء المُتناهي. في نظر نيتشه، تصور قوة الشيء بوصفها جوهراً له يعني فهم الشيء بوصفه ذاتاً موحدة بهوية ثابتة، بالتالي، سيكون الكوناتوس هو نزوع جوهر الشيء لحفظ ذاته بما هو عليه، بنظريته في الكوناتوس، يتصور اسبينوزا -من وجهة نظر نيتشه- القوة بوصفها قوة محافظة بالأساس، يكتب نيتشه في ( ملاحظات غير منشورة) (لو كانت مقولة اسبينوزا في حفظ الذات صحيحة، فإنها لا بد جالبة كل تغيير إلى نهاية، لكنها خاطئة والعكس صحيح، وتحديداً فيما يتعلق بالكائن الحي، فإن بوسع المرء أن يبيَّن بكل وضوح أنه يفعل كل شيء لا لحفظ ذاته بل ليصير أعظم) يريد نيتشه بالمقابل أن يعزز جانب الصيرورة وتجاوز الذات وعلى تناهي القوة، فالقوة وفقا له ذات دينامية تمددية بالأساس، تقوّض عين فكرة هوية حفظ-ذاتية، من ثم، في تقديري فإن هذين التباينين: العقل بوصفه قوة كما في عقلانية اسبينوزا، وجوهرانية القوة لدى اسبينوزا، هما السببان في أن نيتشه في كتاباته المنشورة يؤكد التعارض بينه واسبينوزا، ويعزل عن صورة اسبينوزا لديه ذلك الجانب الذي صار تكوينياً في تفكيره، أي، زيادة القوة.
سأحاول الآن تقديم مفهوم نيتشه للقوة في مقابل خلفية تأويله لاسبينوزا. بمقابلة مفهومه لإرادة القوة بالمفهوم الحديث لحفظ الذات، يستهدف نيتشه بالأساس فكرتي الوحدة والهوية المحددتان لهذا المبدأ من وجهة نظره. ويوجه مفهوم إرادة القوة ضد تصور ذات تريد حفظ ذاتها بوصفها وحدة ذات هوية ثابتة، وفي المقابل يبقي في المقام الأول على الفكرة التصارعية الداخلية المكوِّنة لكل وحدة فردية، ثانياً تجاوزٌ دائم للذات يسبب هوية الفرد ويسائلها ويسمح حتى بدمارها المحتمل. عليه تأتي حالة الدمار عندما يقوم فردٌ بالانتحار من أجل تمديد قوته، الحالة يعتقد نيتشه بمنطقيتها. عليه، فإن نيتشه يريد أن يوضّع إرادة القوة كمفهوم بديل لتفكير أن حفظ الذات ينطوي على مبدأ للسكون الكوني. اقترح ييم ياهو يوفيل، الغائب اليوم للأسف، أن نيتشه بالمقارنة مع اسبينوزا يقلب العلاقة بين حفظ الذات وزيادة القوة، بينما يشدد اسبينوزا على الكفاح من أجل حفظ الذات ويرى زيادة القوة كتبعة له، يعتبر نيتشه الكفاح من أجل زيادة القوة أولياً مُلحقاً به الكفاح من أجل حفظ الذات، وسامحاً بالتضحية به من أجل زيادة القوة . كنت لأود مناقشة هذا الأمر السيد يوفيل، لأنه، أعتقد فيما يتعلق بكتابات نيتشه المتأخرة، فإنه لبعيد عن الوضوح أن حفظ الذات يمكن أن يُلحق بزيادة القوة بهذا الجلاء، بيقين كافٍ، بدءاً من (هكذا تحدث زرادشت) إلى (جينالوجيا الأخلاق) ظل نيتشه يهاجم على الدوام مفهوم حفظ الذات، لكن على النقيض مما صرح به على نحوٍ إشكالي، فإنه يجمع بين المفهومين مرةً أُخرى في كتاباته المُتأخرة، لذا يتحدث في (أفول الأصنام) عن حفظ الذات وتمددها، ويكتب مجدداً في (نقيض المسيح) عن القوانين الأعمق لحفظ وزيادة الحياة، وفي شذراته المنشورة بعد وفاته فإنه يربط بين زيادة القوة -هنا أقتبس- و (منظور شروط حفظ الحياة وزيادتها، فيما يتعلق بالكيانات المُعقَّدة نسبياً لأمد الحياة داخل الصيرورة) . بالمناسبة، مع ذلك، يؤكد أن مفهوم إرادة القوة ليس مفهوما غائياً . إذن، ما الذي يميز مفهوم نيتشه لحفظ الذات عن مفهوم اسبينوزا لحفظ الذات Conservato Sui؟ أعتقد أن نيتشه يعطي تأويلاً مُفارقاً لفكرة حفظ الذات، بتوجيه السعي لحفظ الذات نحو الصراع وتجاوز الذات، ما يريد حفظ ذاته، من ثم، ليس هويةً ثابتة، بل إرادة قوة تتجاوز ذاتها على الدوام، تريد زيادة قوتها وبالتالي تبقى غير متطابقة مع ذاتها،هذا الجزء من مفهوم نيتشه لحفظ الذات، نعثر عليه في المقولة التي أقتبسها هنا (ما من كينونة، لكن الصراع نفسه يريد حفظ ذاته، يريد أن يزداد وأن يصير واعياً بنفسه) أي ولنقتبس شذرة أخرى من شذرات ما بعد الوفاة (ما من ذات تحاول حفظ ذاتها، إنما صراع). تُبيّن هذه الاقتباسات مساعي نيتشه لتحرير مفهوم الحفظ من سياق ميتافيزيقا المادة الذي يركز على هوية الذات على نحوٍ مُفترض، وموضعته عوضاً عن ذلك في خدمة تجاوز ذات مُتضاد داخلياً. يمكن للمرء أن يقول أن نيتشه يقلب هنا فكرة الحفظ ضد مفهوم حفظ الذات الذي يفسره بوصفه عرضاً لإرادة ضعيفة، إرادة قوة ضعيفة يعزوها وفقاً لذلك لاسبينوزا، وفقاً لنيتشه فإن إرادة ضعيفة مثل هذه تحاول (الحفاظ على عالم ما هو كائن، ما يبقى، ما يكافئ، بينما تظهر قوة الإرادة نفسها في القدرة على توجيه الكفاح من أجل حفظ الذات نحو التحوّل و الصيرورة) وهذا ما تفعله إرادة القوة الأعلى وفقاً لنيتشه عندما تثبت فكرة العود الأبدي للعينه، أقتبس (فهي تخلع سمة الكينونة على الصيرورة) ما يعنى أنها لا تريد حفظ أي شيء سوى ما يتغير أبداً، بهذا المعنى فإن نيتشه يضع فكرة الحفظ في خدمة الحكمة البندارية (صر من أنت). على خلفية تفسير نيتشه لمبدأ حفظ الذات الاسبينوزي، الُمُعطى هنا، يغدو واضحاً مسعى نيتشة لتجديد مفهوم حفظ الذات (Conservato Sui) يقرّبه أكثر من اسبينوزا، حتّى من استعداد نيتشه نفسه للإقرار بذلك، ويبدو أن ما هو أكثر أهمية بالنسبة لنيتشه، هو التشديد على الاختلافات بينه واسبينوزا، وكُلّما كانت التشابهات أشد وضوحاً، كلما زاد في رد فعله بافتكاك نفسه عن اسبينوزا، بالتأكيد ثمة أسباب عديدة لهذا الافتكاك، لكنني أظن، أن السبب النفسي قد وُصف على نحو بالغ الشفافية من نيتشه نفسه وأقتبس هنا محاورة قصيرة بين الشخصيتين أ وب من مذكرات نيتشه (يقول أ لـ ب: الطريقة التي يسيء بها فهمي علناً، تثبت لي أنه فهمني بإفراط. ثم يقول ب لـ أ: خذ الأمر على نحو إيجابي، احترامه لك قد زاد للغاية بما أنه يعتقد مُسبقاً أنه لابد من تشويه سمعتك) تهدف محاولات نيتشه للنأي بنفسه عن اسبينوزا، كما بيّنت هنا، فيما يخص مفهوم القوة، إلى إدانة سلفه بجريرة أنه متضارب مع مواقفه ذاتها. أما فيما يتعلق باسبينوزا، فبإمكان المرء أن يقول، أن نيتشه نفسه صار مُتضارباً.
شكراً.
هانا قروس وايزمان ( جامعة همبولدت الألمانية ببرلين).
*”عن تسجيل صوتي لمحاضرة قدمت يوم 17/5 من العام 2013م”