ثمار

دولوز : التجربة كخلق للمفهوم

عندما ننطلق من دولوز فإننا لا ننطلق من أرضية جامدة وساكنة بل متحركة وفق مفهوم المحايثة، بمعنى أن التفكير عند دولوز ليس عملية مفارقة أو متعالية وإنما عملية منصبة على المشهد بحيث يعود الفيلسوف فيها إلى ذاته، وينطلق منها لخلق عملية ترتبط بالتجربة، والتجربة عند دولوز هي تعبير مجسد للتجربة الإنسانية في أقصى تجليات العمق.

الناظر إلى تمرحل دولوز يرى أن نقلة أحدثها مع فيليكس غتاري في مفهوم الرغبة، هذا المفهوم الذي عبره دخل دولوز إلى التعامل مع الإنسان بما هو رغبة، أي أن دولوز يحاول النظر إلى أهمية تحركات الجسد في الفضاء العام. ولم يتوقف هنا وحسب وإنما قلب معادلة المكتوب ليعيد التفكير في المفاهيم بطرق أخرى، أي عملية إبداع وخلق جديدة بحيث يفض فيها الفيلسوف علاقته مع صنمية المفهوم فتتصالح الفلسفة مع ذاتها كعملية أولية ومن ثم تنتقل إلى مجمل الإبداعات وكثيرا ما ردد دولوز عبارة نيتشه ” إبداع إمكانيات جديدة للحياة ” والذي خرق الفلسفة كتفكير متعالي ونقلها إلى وحدة الفكر والحياة.

لذلك المفهوم عند دولوز لا ينفصل عن المفاهيم الأخرى التي تظهر مع السطح أي أنه ليس هناك مفهوم كمفهوم لذاته، فالصورة النمطية التي تخلقت للمفاهيم في السياق الأكاديمي تتعاطى مع المفهوم مجردا من كل شيء لتخلقه كمفهوم منفصل عن سياقه وعن لحظته فتجعل منه لحظة ساكنة لا متحركة ومتعالية لا واقعية، وهو ما نجده في المدراس الفلسفية على رأسها ” مدرسة التحليل النفسي الفرويدية ” والتي خرج عليها دولوز، وكذلك ” الماركسية الكلاسيكية ” التي جمدت ماركس ووضعته في الدرج السفلي، إذن كما يقول: “إنّ الكليات والمفاهيم المطلقة لا تفسّر شيئا بل هي في حدّ ذاتها في حاجة إلى التفسير” بمعنى أن دولوز قد خلع عن المفاهيم الفلسفية الماهية ليذهب باتجاه عمق التجربة الإنسانية الحيوية، وهذا الترابط الوثيق بين إبداع المفهوم والإبداع الإنساني في التجربة يرتبط مع اللحظة التي فكر فيها بعلاقة السينما والفلسفة مثلا، فالسينما عند دولوز هي إبداع للمشهد ومزج بين التجربة / الصورة / الحركة لتشكل مشهدا كليا، ويقابله جيل دولوز بالفلسفة كعملية إبداع / اجتراح للمفهوم من داخل التجربة الإنسانية.

كثيرا ما نقف أمام الاعمال الفنية التي تصاحب الثورة في سياقنا العربي مع الموجات التي بدأت مع الربيع تونس ومن ثم ثورة مصر واليمن وسوريا وليبيا وتلتها موجة أخرى قبل عامين في لبنان وفي العراق والسودان والجزائر، هذه الأعمال الفنية لم تكن قابلة للقراءة في سياق تفكيرنا الكلاسيكي بالثورة، لذلك لم توضع في إطار المفاهيم المرتبطة بالثورة، الثورة بمعناها الفلسفي والاجتماعي بل عزلنا هذا المفهوم عن الممارسة الفعلية داخل التجربة، لذلك حملنا المفهوم دون تجربته الإنسانية وجردناه من واقعه الاجتماعي وسياقاته، ووضعنا تصورا مسبقا عن الثورة وتفكيك الأنظمة الشمولية، فانعكس بذلك على تجربتنا الحياتية ما بعد هذا الربيع فكان خريفا تلاه صعود الشمولية التي تعكس الوجه الحقيقي لمجتمعاتنا الأبوية فذاب المفهوم في عملية التصنيم وفقدت التجربة روحها الإنسانية.

إن هذا الإخفاق في الثورة والانتقال إلى المجتمع الديمقراطي الحر هو إخفاق داخل وعينا بالأسئلة و بالمفاهيم، أن كيف نخلق المفهوم ونبتدعه من داخل التجربة؟ إلا أننا قد وقعنا في فخ إعادة التجربة فمنذ هزيمة 1967م ظلت معضلة الذات التي شرخت وهما في أذهاننا، فنفكر بالثورة كما فكر فيها جيل الخمسينات ذاك الجيل المتخم بالهفوات وبالتصدع فاغتربنا من ذواتنا للماضي، إذا ما قرأنا هذا المشهد بعدسة دولوز سنجد أن واقعنا شهد المأساة المتمثلة في عدم وجود ثقافة مضادة، هذه الثقافة المضادة كما شرحها في الفكر الرحال وهي نتيجة لخلق المفهوم من واقع التجربة، وهو ما أكده في لقاءه حول المثقفين والسلطة مع ميشيل فوكو، حول النظرية والتجربة، بمجرد أن تغرق النظرية في مجالها الخاص، فإنها تؤدي إلى عقبات وجدران واشتباكات تجعل من الضروري أن يتم نقلها بنوع آخر من الخطاب، والتجربة / الممارسة هي مجموعة من التبديلات من نقطة نظرية إلى أخرى، والنظرية، تتابع من ممارسة إلى أخرى. لا يمكن لأي نظرية أن تتطور دون مواجهة نوع من الجدار، ويستغرق الأمر اختراق الجدار[1].

يفكك دولوز أو دعونا نقول يحررها من هذه التبعية عبر مفهوم التعدد، حيث لم يعد هناك تابع بل مجموعات صغيرة لا ممثل لها أي أن هناك نظرية وعمل وممارسة داخل مجموعة العلاقات التي تشكل الشبكة الكاملة واللوحة المرسومة، فنجحنا في بداية الثورات ولكن فشلنا بعد الثورة والتفكير فيما بعد الثورة، فاستعدنا بذلك الأب، ليدخل دولوز بضد أوديب الذي اقترحه للخروج من هذه التبعية، ليذكرنا بضرورة تجاهل الأب بدلا من قتله . فكلما قتلنا الأب احتجنا إلى أب جديد لنكون إخوة، ودولوز يفكر عكس ذلك بحيث يخرجنا من هذا المأزق عبر الشذرات التي يجب أن تتوالد بعيدا عن سيقان الشجرة الأب التي تشبه شجرة العائلة.

بذلك يكون دولوز قد أخرجنا من ضحالة التفكير في ثوراتنا إلى عمق التفكير في تجربتنا، أي أننا نخلق مفهوم الثورة من جديد عبر تشكل مختلف عن الماضي متقد داخل ذواتنا، نازعة بذلك السفلية والجمود الذي يعتري تفكيرنا في سياقنا الاجتماعي ليتبلور في تجربتنا السياسية أيضا والاجتماعية كذلك وليس هذا وحسب بل في تجربتنا الفلسفية أيضا. .

[1] فوكو، دولوز . المثقفون و السلطة . تر: زهير خويلدي، العراق : ساحة التحرير . 2016م

حسان الناصر

كاتب من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى