ثمار

الصحافة السودانية الحاضر الغائب!

انفجرت ثورة المعلومات لتتيح للكثير من الناس الوصول إلى المعلومة بصورة سريعة وشفافة بحيث يستطيع أبسط الناس معرفة الكثير عن دولة أو عن رئيس أو عن صفقة تجارية معينة لإحدى الشركات العابرة للقارات، أو عن قائد عسكري سابق في أحد الجيوش القوية حول العالم، ساهمت التقنية الرقمية في انتقال مفهوم المعلومة إلى شكل مختلف غير التداول أو الوصول السريع، ساعدت التقنيات الرقمية أيضا في خلق قاعدة من البيانات والمعلومات التي عبرها يمكن استنتاج سلاسل لا نهائية من شكل العلاقات والترابط في الأحداث وغيرها.

أعاد هذا الشكل في التدفق المعلوماتي وتراكمه من إعادة تكيف لمفهوم الصحافة والصحفي، ليس على مستوى الدول التي تمتلك قدرة تقنية بل على مستوى العالم ككل، فالانفتاح الذي أتاحته الألياف الضوئية وخدمات الإنترنت المقدمة مكن العديد من النشطاء والمعارضين أن يتحولوا إلى صحفيين أيضا من دون أن يقتربوا من المؤسسات الصحفية أو الإعلامية، فمع تطور الأدوات الإعلامية أتاح لهم اكتساب ميزات الصحفي الذي ينتمي إلى مؤسسات صحفية وإعلامية ويمتهن الصحافة كمهنة وكمصدر للرزق.

في دول مثل السودان التي عانت فيها المؤسسات العامة والرسمية الإعلامية بسبب الشمولية وغياب الديمقراطية، انعكس ذلك على شكل المؤسسات واحتراف الكوادر وتطورها من الناحية العملية والنظرية كذلك، ولأن الشمولية تهتم بما يصل للناس وما يتصل بهم بصورة مباشرة عمل النظام السابق على تدجين الإعلام ليس عبر الأيدولوجيا وحسب وإنما أيضا عبر الحرمان، بالإضافة إلى السياسات الحكومية هناك أيضا تأثير للسوق يدخل في هذه المؤسسات مع ارتفاع وزيادة التكاليف على مدخلات الإنتاج منذ عام 2013  وغيرها من التأثير المباشر وغير المباشر على السوق الورقية والصحافة ساهمت في إضعاف هذا المجال وتطوره.

يوجد في السودان أكثر من 50 صحيفة بالإضافة إلى المواقع الإلكترونية التي لا يمكن ضبطها بصورة صحيحة فبعضها لا يمكن اعتباره موقعا إخباريا لإشكالية متعلقة بمصداقية الأخبار و البعض الآخر يعتمد على تجميع الأخبار وإعادة نشرها، ولكن يمكن القول بأن الصحافة في السودان تعتمد على النشر الورقي، ويعكسه هذا في كيفية تعامل الأحداث وردة فعلها مع ما تنشره الصحافة من خلال مواقع التواصل وما يتم تداوله، إلا أن هذا لا يجعل من الصحافة هي مصدر المعلومات المباشر للسودانيين وذلك من خلال النسخ التي يتم شراؤها والمطبوعة إضافة إلى ذلك فإن قيمة النسخة مرتفع جدا وهذا يعود إلى ارتفاع مدخلات المطابع وغيرها.

بالإضافة إلى ذلك فإن غياب الجسم المعبر عن الصحفيين  والمسؤول عن كل هذه التعقيدات لم يوجد حتى هذه اللحظة وهذا ما ينعكس على طبيعة العمل الصحفي والقوانين ونشاط الصحف والصحفيين في الساحة السياسية، رغم أن الصحفيين لعبوا دورا سياسيا مهما في الثورة الأخيرة من خلال المشاركة في تجمع المهنيين والمشاركة شبه الدائمة طوال التاريخ السياسي الحديث منذ مناهضة الاستعمار إلى مناهضة الشموليات التي تعاقبت على السودان.

ولكن ذلك لا يعفي من إلقاء اللوم وتحميل المسؤولية للجهات المعنية بالصحافة والمؤسسات الصحفية، فغياب الكوادر المؤهلة والمؤسسات التدريبية بالإضافة إلى عدم الربط بين الممارسة الصحفية والجوانب الأكاديمية ساهم في إحداث شرخ واسع وكبير في العمل الصحفي، وانعكس ذلك في طبيعة المواد الصحفية التي كان من الممكن و بالإمكان أن تؤثر بصورة مباشرة في الفضاء العام السياسي، ومازالت الفرصة متاحة للصحافة أن تلعب دورا مهما في الشأن السوداني سواء اجتماعيا أو سياسيا أو حتى ثقافيا.

المشاهد لواقع الصحافة في السودان يمكن أن يقول بأنه لا توجد مؤسسات صحفية مكتملة بصورتها العالمية المتعارف عليها لذلك سيكون من غير المجدي الحديث عن أي دور للصحافة في ظل هذا الغياب المؤسسي الكبير وخصوصا أن الشكل الكلاسيكي للصحافة قد بدأ يتبدد وحاليا الجميع في حوجة سواء الصحافة أو المتلقي للتجديد والانتقال إلى شكل محترف للصحافة وخصوصا أن هناك أزمة في الواقع السوداني وشكل المعلومة والحصول عليها، فلربما تغير الصحافة من الشكل السياسي والممارسة السياسية بالإضافة إلى الشفافية المالية التي ما عادت حاضرة بسبب التكتم على الأنشطة المالية وشكل الشبكات التي تدخل في الاقتصاد وتكون مؤثرة بشكل مباشر على المواطن.

لذلك من الضروري جدا بداية عهد صحافة بشقيها الورقي والإلكتروني وبناء مجتمع يعتمد في شكله على المعلومة الموثوقة التي تخرج من مؤسسات تعمل بصورة محترفة من أجل الوصول إلى حقائق جريئة تعمل على بداية نسق جديد من الشفافية والنزاهة، وازدهار الصحافة بالتأكيد ينعكس على واقع الانتقال الديمقراطي، فبجانب الحفاظ على شفافية العملية السياسية يمكن للصحافة أن تكون ركنا أساسيا في بناء الحريات والتناول الحر والمسؤول للوضع السياسي، كما أن الصحافة يمكن أن تتحول إلى مدافع أول عن الحقوق للمواطنين والدفاع عن مكتسبات الثورة التي أصبحت في مهب الريح من جراء الوضع السياسي أو الاقتصادي، لذلك يمكن أن نوجه السؤال إلى المؤسسات الصحفية وهو (متى تتوقف الصحافة عن ممارسة دور الحاضر الغائب؟)

حسان الناصر

كاتب من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى