ثمار

مديحُ الشَجرِ العالي

شجرُ اللاشوكا شجرٌ حكيمٌ و صبور، لو يعطي القليل من صمته، القليل القليل من حنانه الصاعد إلى الأعالي. شجرٌ بلا قلب، لكنهُ معطاء. هِبةُ السماء لنهارٍ صوفيِّ قصير. شجرٌ ينام خارج بيته ليستضيف العالم و ليله المديد. هو شجرٌ تتنفسُ خلجاته من خلال الرقص مع الطيور، لا الغناء: فكأن خرسه الغنائي صلاةُ الغياب على الفارَّ من غربته إلى غربةٍ أشدَّ. شجرٌ يبخلُ على الريح و الهواء ليراقصُ العصافير.

فكُلما رأيت شجرة لاشوكا، هَالكَ توَّحدها مع حالها. مع تقشُّفها الوفيّ. مع زُهدها الخافت الذي تبدو من خلاله الشجرة كما لو أنها لا تأبه بنفسها، أو كأنها بلا جسد، بلا أوراق أو أغصان، بلا قوامٍ شاهق ومجدول إلى الأعالي، بلا أسرارٍ تستمِّدها من الطبيعة.

هو شجرٌ مسكونٌ بخِّفة الفراغ وكائناته المُحلِّقة، وليس بالأرض ومن يمشي عليها: إذ تبدو الشجرة كما لو أنها تنبتُ من أعلى إلى أسفل، من غرسٍ يتفتَّق في الفراغ لينبُت مُتدليَّاً إلى أسفل.

إنَ اهتزازتها الراقصة توحي بأن جوفها تسري فيه أرواح طائر، و ليس دفوق نُسغ أو ماء أخضر. ففي حِراكها اللادن، لا تُبدي شجرة اللاشوكا تناغماً إلا مع الطيور. فما أن يَرَك طائر على غصنها النائم، سُرعان ما يبدأ كونشيرتو الطبيعة عزفه الفريد: اهتزازتٌ وتمايلات، تخلُّلاتٌ في دوارٍ أليف، حضرة وثنية يتحوَّل فيها الطائر إلى شجرة و الشجرة إلى طائر، و الرائي إليهما يتحوَّل بدوره إلى مُريدٍ زاهل، إلى الحد الذي لن ترى بعده سوى شكل واحد يُراقصُ حِنكة وجوده اللامرئية.

فعلى النقيض من أنواع الأشجار الأخرى، يبدو أن شجر اللاشوكا لا يتحقّق من وجوده الحي والملموس إلا من خلال شفافيات أرواح الطيور التي تُخضِّب جوفه ببوحها الفضائي. كأنه رحمها الرؤوم. فكيف لكائن شجري جميل أن يتخلَّى عن كينوته الخضراء، عن جوفه العامر، عن بيته، عن روح روحه، ليفسح سُكناه لشعوب الفراغ و جماع كائناته المُحلِّقة؟…

الأرجح أنّ شجر اللاشوكا استمَّد أصل سلالته النورانية من أول لقاءٍ سعيد بين رَّفة جناح طائر ونسمة هواء هبَّت من لازورد الأبدية.

كُلّ شجرة لاشوكا هي مُشَرع حُلمٍ لعبور الطيور.

كُلّ شجرة لاشوكا هي وصل لروحٍ بأختها التائهة في قلب صديقها الشعاع.

كُلّ شجرة لاشوكا هي طفل مرسول بشوقه إلى خيال جَدة تجدل ضفائر حفيدتها العروس على سطح القمر.

كُلَ شجرة لاشوكا هي تقشيرٌ لليأس بالأمل في ميَّسم الوعد ببزوغ الفجر.

في كل شجرة لاشوكا حكمةٌ توَّدعُ حكيمها الأخير.

 

                                                                                                                    الإزيرقاب ــ  ضهاري بحري

                                                                                                                      شتاء 2016  

 

معز الزين

كاتب ومترجم من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى