ثمار

فريدريش نيتشة من الفناء الى اللقاء..

في مُقاربتها الذكية بمحاضرتها الموسومة ب(هضبات السراط)1، بين مفهوم إرادة القوة لدى نيتشة ومفهوم الكوناتوس الإسبينوزي التقطت أستاذة الفلسفة الألمانية هانا قروس ويزمان خطوط تقارب لم يلاحظها كل الدارسين للفلسفة النيتشوية والسبينوزية يتبدى ذلك في المفهومين اللذين أشرت لهما، فبالدراسة المتأنية التي أجرتها على المفهومين لدي كلا من الفيلسوفين ومن المذكرات المتأخرة في التركة النيتشوية أظهرت مدى التطابق بين المفهومين  للحد الذي جعل أصالة نيتشة كفيلسوف على المحك أو على أهون الفروض يمكن أن يتهم نيتشة بالقراءة المغلوطة والمبتسرة لسبينوزا ، يظهر نيتشة كمن يبحث عن أصالة وتمايز في غير موضعها، عندما يندد بمبدأ حفظ الذات في الفلسفة السبينوزية، فكما أوضحت هانا أن مبدأ حفظ الذات عند إسبينوزا ليس غائياً بل القصد منه حفظ الذات من أجل هدف وهو استمرار الكفاح، الذي هو من صميم مفهوم إرادة القوة في الفلسفة النيتشوية،  أوردت هانا وزيمان اقتباساً مهما من كتاب نيتشة العلم المرح وهو في رأيي المفتاح للولوج للفناء التمايزي بين نيتشة و سبينوزا (الصراع من أجل البقاء مجرد استثناء، و تقييد مؤقت لإرادة الحياة) فهاهنا بالذات يظهر الفرق بين الفيلسوفين فبالرغم من عدم تبني سبينوزا لمبدأ حفظ الذات كغاية في نفسه إلا أنه يساوقه مع مجمل حركة الكفاح فالحركة وحفظ الذات عنده تؤلف كلها حركة الكفاح  أو ما يسميه بالكوناتوس فبالنسبة لسبينوزا ينبغي حفظ الذات لضمان استمرار الكفاح، أما بالنسبة لنيتشة فالثابت في استراتيجيته هو الكفاح من أجل مفاقمة القوة وبعث إرادة الحياة بطريقة فنائية تستخف كثيراً بحفظ الذات بل الثابت لديها هو تعريض الذات والاستعداد للمخاطرة بها في سبيل القوة والحياة لان الصراع من أجل البقاء هو كابح لإرادة الحياة، وهي أسلوب كِفاح نجد له جذور ضاربة القدم في التراث الصوفي، نجده لدى المتصوفة المسلمين وغيرهم، رغبة الفناء من أجل التوحد في الذات الكلية ومن أجل النفاذ للعوالم الرؤيوية (موتوا قبل أن تموتوا)، نجده لدى الحلاج وسهروردي وجلال الدين الرومي وبوذا وزرادشت والمسيح.

لا يُخفي نيتشة في كثير من الأحيان إعجابه بالمتصوفة فدلالة اختياره لزرادشت ليحمل اسم كتابه الأم (هكذا تحدث زرادشت) تشي بذلك، واحتفاؤه بيسوع الناصري في نقيض المسيح لا تخفى على عين فاحصة، ما يمقته نيتشه في المتصوفة هو غيريتهم المفرطة، وما أثار إعجابه حقا هو استعدادهم لوضع حياتهم على المحك من أجل مُرامهم وهو بالضبط ما أراد فيلسوفنا المِغوار أن ينفصل به عن سلفه سبينوزا، فكثيراً ما كان يردد في شذراته: (حياة محفوفة بالمخاطر هي حياة الأعالي أنا لست فيلسوفاً أنا عبوة ديناميت)2.

الهوامش:

1– الإشارة (هضبات السراط) ، ترجمة منشورة في مجلة البعيد أحمد النشادر.

2– هذا هو الإنسان _منشورات الجمل

زر الذهاب إلى الأعلى