هل لا زالت تحبه؟
ولدت سوداء البشرة قصيرة وخشنة الشعر، أنفها أفطس، عيناها صغيرتان، كانت طفلة صغيرة قبيحة، بغريزة الأمومة أحبتها والدتها ولكنها كانت تضربها وتلعنها إذا أسرفت في البكاء كعادة الأطفال، في الواقع لم يكن من حقها أن تبكي، لأن القبيحين لا يبكون من غير أن يدفعوا ثمن بكائهم ضربات ولعنات. كبرت بسرعة كأن ضربات والدتها على فخذيها ومؤخرتها شجعتها لتكبر وتتخلص من هذا الألم .
وهي طفلة لم تكن تعامل بنفس الحب والعطف الذي يجده أخوها الأصغر والذي كان جميلا بعينين كبيرتين وابتسامة مرحة، بينما كانت هي دائمة الحزن والعبوس وإن ضحكت يزداد قبحها أكثر، تعلمت الصمت ومراقبة الجميع لا تتحرك إلا إذا طلب منها إحضار شيء ما، ولا يبتسم الناس لها إلا حين تخدمهم بشيء. تحضر الدقيق والسكر والشاي والبسكويت ولبن البدرة في الصباح لوالدتها، في الظهيرة تحضر سيجارة واحدة لخالها. تغسل أحيانا مؤخرة أخيها بعد أن يفعلها في نفسه، تستمتع بتقبيله في خديه حين لا يكون هناك أحد يستطيع أن يراها، لم تكن تحب أن يرى أحد الجانب اللطيف والمرح فيها .
في عالمها الهادئ تعلمت أن تعتني بالحيوانات، أصبح لها هوس بالقطط، بمرور الوقت أصبحت تستطيع أن تحاكي انفعالات القطط بوجهها بإتقان، يمكنها أن تركض كقطة أن تموء كقطة، وكانت تفهم ما تحتاجه القطط بالضبط .
لم يكن والداها يهتمان لأمرها كثيرا ما دامت مطيعة وتقوم بواجباتها المنزلية من غسيل عدة ونظافة ومراسيل بإتقان وهدوء كعادتها، إلا أنهم في البداية أزعجتهم رائحة براز القطط التي تربيها ابنتهم لكن مع مرور الوقت اعتاد الوالدان على هذه الرائحة ولم يعودا يميزانها عن بقية روائح المنزل، كانت تخبئ في غرفتها أربع قطات، ولم يمر كثير من الوقت إلا وأنجبن كلهن ثمان قطط صغيرة، وبمرور الوقت امتلأت غرفتها بالقطط المستأنسة والمتشردة، لم تكن هذه القطط تصدر صوتا عاليا يمكن أن يلاحظ كما كن لا يخرجن من الغرفة حتى لو وجدن الباب مفتوحا، طاعة لأمر مربيتهم التي تجيد مخاطبتهم .
كبر أخوها الأصغر وأصبح مدللا يتسلى بضربها وإزعاجها لأن أمهما لم تكن تنصفها وكانت تحكم دائما لصالح ابنها الوسيم، وكانت أرق طبعا من أن تدافع عن نفسها بضربه، بل كانت في أعماقها تحبه، تحب أن أخاها وسيم، تحب أن والديها يحبانه.
تكرر الضرب منه كثيرا، وكان يصبح أقل كلما كبرا، حتى أصبح شابا وسيما بينما أخته امرأة وحيدة لا زوج ولا حبيب لها، كما أنها لم تكن تملك عملا لأن والدتهما لم تكن تهتم بدراستها كما كانت تهتم بدراسته، لم يكونا يتحدثان مع بعضهما إلا نادرا كأنهما أصبحا محض غريبين لا يملكان أي ذكريات مشتركة يمكن على أساسها بناء علاقة أخوية مستقرة، لم يكن يتذكر شيئا غير أنه كان ينعتها بالقبيحة وأمه تضحك وتخبره بلطف لا يناسب الموقف لا تفعل ذلك، لم يكن يحب ذكرياته السيئة هذه ولم يفكر أن يعتذر منها، لطالما عاشا مفترقين لا يجمع بينهما شيء غير سقف منزل واحد .
أصبحت تعيش في البيت كخادمة تعمل بصمت من غير أن تفتح فمها بكلمة كأن صوتها ثوب من حرير لا تريد أن تريه لمن لا تحب. تطبخ، تكنس، تحضر حاجيات البقالة ثم تعود بهدوء إلى غرفتها المليئة بالقطط، لم يتساءل أحد كم عدد القطط الموجودة داخل تلك الغرفة، فلم يكن أحد يسمع صوتا صادرا من غرفتها الهادئة كضريح.
ثم جاء يوم لم تخرج فيه من غرفتها لتغلي الحليب وتعمل شاي لبن مع الزلابية كما اعتادت أن تفعل، ولم تخرج من البيت بهدوء لتحضر اللحم والخضار والفول، افتقدوها لكن تطوع أخوها الأصغر بمساعدة والدته بعمل الأشياء التي اعتادت أخته أن تقوم بها، كانا هو وأمه يضحكان معا ويمزحان إلا أن كليهما يحملان هم هذه الفتاة التي كبرت ولم تحقق نجاحا في حياتها، لم تجد رجلا يحبها ولا وظيفة تحقق بها ذاتها غير أنها تخدمهما هي وابنها المدلل.
” لو كنت عارف إنو ضربي ليها حا يخليها كده ما كان ضربتها وعاملتها بالأسلوب الكعب ده”
” ما عندك ذنب ولا يد أصلا هو طبعها كده، كرهت المدرسة وبتكره تتكلم مع زول”
صمتا يقينا منهما أنه قد فات الأوان لتغيير شيء، أو إصلاح أي عطب، قررا ألا يطرقا بابها ليسألا عن أحوالها، فهي منذ سنوات تأكل وحدها وتطعم معها قططها الأليفة. في البداية كان السبب أن رائحتها أصبحت تشبه رائحة القطط وأن ملابسها تكون مغطاة بالوبر، فكانا يعافانها ويخافان أن يمدا أيديهما في طعام مدت إليه يدها التي تحمل وتداعب بها القطط، لكن مع مرور الوقت بدا كأنها اختارت بنفسها أن تأكل وحدها وأن تعتزلهم أكثر .
أراد أخوها أن يعرف هل تكرهه، هل هي حزينة، هل لا زالت تحبه، مر أسبوع لم ير فيه أخته تخرج من غرفتها وتقوم بأعمال المنزل، وحين يقترب من غرفتها ليطرق الباب يشعر بالخوف أن يرى وجهها، لقد اكتشف أنه يحبها ويخاف عليها، وهو الآن يخاف أن يشعر بالألم بسبب هذا الحب، سيرى وجه أخته المحبوبة بعد مرور وقت طويل من تجاهلها عمدا، سيرى أنفها الأفطس والخال الكبير المشعر على خدها الأيمن، سيتحدث مع امرأة أسرفت التزام الصمت حتى نسيت الكلام .
مر شهر كامل لم ير فيها أخته، وحين يقرر أن يمكث في المطبخ عساها تدخل لتأخذ بعض الطعام لها ولقططها لا تأتي وظن أن أخته لا تأتي لأنها تعلم بأنه ينتظرها وأنها لا تريد أن تتحدث معه، أحيانا يجد في المطبخ عددا كبيرا من قططها الضخمة التي يبدو أن عمرها أكثر من عقدين، فيترك المطبخ لهذه القطط وصاحبتها المعتزلة .
بعد أيام بدأت القطط تخرج من نافذة غرفتها لتملأ المنزل مواء وتقضي حاجتها في كل مكان، هو يعلم أن أخته لم تكن تسمح لحيواناتها بالخروج خارج الغرفة، كما أن بعض هذه القطط لم يكن يعرف أن العالم أكبر من جدران غرفة صغيرة مكدسة بأبناء جلدته، كما أن صوت شجار القطط يشبه صوت شجار العفاريت. طرق الباب وناداها وهو يشعر كأنه أصبح طفلا فجأة، طفل بريء كانت تحب تقبيل خديه.
” أختي افتحي الباب”
لكنها لم ترد عليه غير أنه كان يسمع مواء قطط يبدو كتحريض على فتح الباب بالقوة، دفع الباب بكتفه فكان صوت تحطمه هائلا.
رأى فوق الفراش قططا تنظر إليه بفضول ثم تخفض رأسها لتلعق بلطف هيكلا عظميا عاريا من اللحم.