“امرأة من صندل”: أنثروبولوجيا العطر في الثقافة السودانية
المقدمة:
في ديسمبر 2020، دخلت أكلة “الكسكسي” الشهيرة، ضمن قائمة التراث اللامادي لمنظمة الأمم المتحدة للعلم والثقافة (اليونسكو). حيث تم إدراج “المهارات والخبرة والممارسات المتعلقة بإنتاج واستهلاك الكسكس” في قائمة اليونسكو للتراث الثقافي غير المادي، ويعترف هذا الإدراج بالقيمة الاستثنائية للكسكس وللمهارات والخبرة والممارسات المتعلقة بإعداده. جاء هذا القرار بعد أن تقدمت في مارس 2019، كل من الجزائر والمغرب وموريتانيا وتونس، بطلب إلى اليونسكو لإدراج “الكسكسي” على قائمة التراث الثقافي غير المادي للمنظمة.
هذه خطوة عظيمة وهي تعمق مفاهيمنا حول مفردات تراث الشعوب وبالأخص أهمية صون وحماية التراث الثقافي اللامادي. وهي أيضاً ما شجعني أن أسترجع مقالا، كنت قد كتبته ولم ينشر، عن خصوصية العطر في الثقافة السودانية وكل ما يحيط به في صناعته واستعماله والاحتفاء به داخل الثقافة السودانية عبر تاريخها المعروف. كما أن للعطور السودانية وثراءها وتنوعها تأثير كبير على التقارب والترابط والمشاركة بين كثير من الشعوب السودانية لا سيما مجتمعات النساء التي يلعب العطر من خلالها أدورا متنوعة تساهم في تحدي (وقد يقال التماهي مع) الثقافة السائدة وما تفرضه من تقسيمات وأدوار للنوع الاجتماعي، كما يوضح هذا المقال.
ارتكازا على ذلك، أدعو حكومة السودان أن تتقدم بطلب إلى اللجنة الدولية الحكومية لاتفاقية صون التراث الثقافي اللامادّي التابعة لمنظّمة اليونسكو لتسجيل عنصر العطور وأدوات التسجيل السودانية ضمن قائمتها.
مدخل أول:
حفزني على كتابة هذا المقال اهتمامي العام بالتراث السوداني وأهمية توثيقه (بصفتي باحثة أكاديمية متخصصة في علم الأنثروبولوجيا) ، لا سيما في هذا المقام التاريخ الأول للعطور التقليدية في السودان والذي ما انفك يرمي بظلاله على المعاصر، ويتلامس مع الدور الذي لعبه العطر في التاريخ الروحاني والثقافي للإنسانية. وبحسب رأيي، فإن صناعة العطر واستخداماته المتعددة في السودان ما هي إلا انعكاس لتعدد وتداخل الثقافات في هذا البلد، إلا أنها لا تجد الاهتمام الكافي من الباحثات والباحثين مما قد يؤدي إلى اندثار هذه الثقافة البارزة التي توارثتها الأجيال منذ العهد القديم. ربما تساهم أيضاً مثل هذه الدراسات في خلق خطاب موازي يحرر السودان من الصور النمطية السلبية الملازمة له كبلد لا تاريخ ولا ثقافة له، لا يعرف أهله غير الحروب والفقر والمجاعات.
وقد أوحى إلى بكتابة هذا المقال الصديق العزيز دكتور بكري الجاك الأستاذ بجامعة لونج أيلاند الأمريكية. من الواجب التنبيه إلى حقيقة أن هذا المقال لا يستند على مجهود بحثي منظم، وإنما على ملاحظات وقراءات متفرقة، ولذلك فهو لا يتعدى كونه مقالا تقديميا لا يعكس بشكل كامل تاريخ وأهمية العطور وجدلية الموروث الملموس وغير الملموس في السودان، كما فعل مثلاً الباحث والمفكر البارز دكتور حيدر إبراهيم علي في سفره الهام “أنثروبولوجيا الشعر والحجاب منذ أقدم العصور حتى العصر الحاضر”، والذي أثر في كتابة هذا المقال بصورة هامة. أيضاً فقد ساهمت حواراتي مع الصديق العزيز راشد سيد أحمد في تيسير مهمتي للاستشهاد بالتراث والشعر السوداني وأغاني الحقيبة وفك طلاسم ما استعصى على فهمه، وهو ذو علم فياض وخبرة عظيمة في هذا الشأن.
لا شك أن موضوع العطر ودوره الاجتماعي يفتح الباب أمام تفرعات لأسئلة هامة، لذلك أتمنى أن تقوم هذه الكتابة بدور المحفز تجاه هذا المنحى البحثي الهام. ونظراً لضيق الوقت الذي استغرقته كتابة هذا المتن، أعتذر عن قصوري في الوصول لأي كتابات هامة ربما قد تكون أخذت بعين الاعتبار دراسة العطور التقليدية في السودان، لا سيما الكتابات النسائية السودانية.
مدخل ثان:
دائماً ما أبهرني عالم العطور وتوقفت عنده كثيرا مضحية بقدر ليس باليسير من مصروف البيت، وأكاد أزعم أن هذا الحال تتقاسمه معي العديد من النساء السودانيات وغيرهن، وليس سراً أن عطر مثل “شانيل رقم 5 يحتل مكانة خاصة في حياة النساء السودانيات الميسورات ويستهلكنه بشكل راتب، وشانيل رقم 5 هو العطر الشهير الذي تنتجه كوكو شانيل منذ عام 1921، وتشير التقديرات إلى أن هذا العطر تباع منه الآن زجاجة كل 30 ثانية[1].
وبالرغم من أن نشأتي قد كانت بعيدة عن الديار إلا أن “العرق دساس” كما يقولون، ذلك أن “جينات الريحة السودانية” وجدت طريقها إلى منذ الطفولة، تزخر بها الخزانات والأدراج في منزلي، كما أنها تشكل جزءا أصيلا من أمتعة سفري المستمر مضيفة إليها بضع كيلو جرامات متجسدة في قارورات الخمرة السودانية الشهيرة وأكياس البلاستيك المحشوة بأنواع البخور المتنوعة والدلكة العجيبة والقائمة تطول. أما المرأة السودانية الحصيفة التي تنتج العطر ولا تستهلكه فقط مثلي، فهي تحرص أيضاً على اقتناء المواد الخام والأرياح الأجنبية ومحلية الصنع التي تدخل في تجهيز “الخمرة” و”البخور” – مثل عطر “بت السودان ” الذي لا تدخل في صناعته الكحول ويرتبط أيضا بطقوس تعطير جثة المتوفى قبل مواراتها الثرى، وعطر “الصاروخ الباريسي” وعطر “الريف دور”و”الفلير دمور – “كما ينطق السودانيون – وأصلهما في اللغة الفرنسية Fleur d’Amour & Reve d’Or ، وتأتي هذه العطور محفوظة داخل زجاجات غاية في التمييز والتفرد من حيث التصميم وما تمثله في الثقافة الشعبية السودانية. وعلى سبيل المثال فقد أصبح عطر “الفلير دمور” الباريسي مكونا أصيلا داخل العقل الجمعي لدرجة أن مجده الشعراء وصبغوه بصفة التفرد حتى أن الحبيبة التي لا يناظرها بشر أصبحت “الفلير دمور … المسخ الأرياح” – كما تذهب الأغنية السودانية الشهيرة.
ولكن ما الذي يمنح العطر هذه المكانة الفريدة؟
يقول محمد حسين الشيخ في مقالته “رائحة المدينة والإنسان والجنس… ماذا يقول الأنف عن علاقاتنا وأسرارنا؟“، “إن الرائحة هي إحدى العلامات التي نستدل بها على الأشياء، بجانب الشكل واللون والملمس والطعم وغيرها، وتبدو في ذهن البعض أمراً عابراً، ولكن الحقيقي أن للرائحة بصمة لا تقلد، تخزن في الذاكرة، وقد تكون أقوى من بصمة جلد اليد والصوت وغيرها[2]“.
لذلك يرتبط العطر غالبا بالابتهاج والأحداث السعيدة والمشاعر الإيجابية، وللعطر ذاكرة ترتبط بوجوده وتنقلنا عبر مسافات وأزمنة وأحداث من الماضي. وقد أفرد الشعراء للعطور مساحات بارزة في منتوجهم الشعري، وشرعوا في توصيف الحبيب أو الحبيبة بإضفاء صور جمالية مستوحاة من فتنة العطر وأثره الخلاب. فمثلا نجد أن للعطر في شعر نزار قباني دلالة حسية، حيث يقول في إحدى فاطمياته الناطقة بالعشق[3]: “يا ذات الشفتين الممتلئتين كحبتي فاكهة … كم هو استفزازي نوع العطر الذي تضعينه”.
لذلك ليس من المستغرب أن يشكل الجسد مسرحا ماديا ملموسا يرسل من خلاله العطر رسائل لها دلالات محددة متفق عليها داخل السياق الثقافي المحدد، وبدون العطر والرائحة يصبح الجسد باهتا دون هوية، كذلك فإن “المدن والأمكنة أيضاً – كما يقول دوريش –لا يحق لها الوجود دون أن تصحبها هويتها العطرية. يؤكد درويش أن كل مدينة لا تعرف من رائحتها لا يُعوَّل على ذكراها، وأن للمنافي رائحة مشتركة هي رائحة الحنين إلى ما عداها، رائحة تتذكر رائحة أخرى. رائحة متقطعة الأنفاس، عاطفيّة، تقودكم كخارطة سياحية كثيرة الاستعمال إلى رائحة المكان الأول … رائحة المكان هي من أكثر الروائح أصالة وثباتًا وسطوة وديمومة وسحراً وإدهاشاً، حين ينجح المرء فجأة في التقاطها، فإنها ستتجذر فيه، وتستعمر حواسه، وتصبح جزءاً لا يتجزأ من كيانه الوجداني العميق، ويكون من الصعب عليه بعد ذلك الاستغناء عنها أو التنازل عن فداحة حضورها، إذ تغللت في مساماته ولغته وحساسيته وأنفاسه، ويندبغ بها جلده، كما يقول طلال زينل سعيد، في رسالة أدبية بعنوان “نافذة للوجد: حين يخضر العطر”، ويضيف أن تلك الرائحة تستعمر جسد المرء وروحه وجنونه إلى ما شاء الله، وحينها يكون للمكان معنى آخر يخضر فيه العطر خضرة أبدية، مكتظة بالنور، لا تدانيها خضرة، خضرة هي العطر نفسه، وعطر هو الخضرة نفسها”[4].
تنسحب أهمية العطر ودلالته العميقة أيضاً على المكون الثقافي اللغوي، حيث يزخر قاموس اللغة العربية بمرادفات عديدة كلها تعود على لفظة العطر مثل “العبير” و”الشذى” و”الأريج” و”الفواح”، أما القاموس السوداني فقد أدرك كل هذه المفردات وأضاف لمسته الخاصة متجسدة عياناً بياناً في منتوجات عطرية فريدة، تفرد لها الثقافة الشعبية مساحة وافرة وتحتفي بها باعتبارها إرثا ثقافيا ثابتا ومكونا أصيلا من مكونات الهوية السودانية. من ضمن تلك الألفاظ والتي تتجلى بوضوح في الشعر السوداني لفظة “خمرة وتجمع خمر – بضم الخاء” وكذلك “نييد” المشتقة من كلمة “ند”، كما تغنى خليل فرح في رائعته “عم دوره اتدور” قائلاً: “و الشعر مخمر ينضح كله نييد عردب المجمر زي بدر التمام”.[5]
يرى علماء اللغة أن العطر “لا يجسد لغة أو تقنية، بل يعد بمثابة تمثيل رمزي، وتكمن رمزية العطر في قدرته على فتح الباب لاجتياز المسافات، حيث يرمز ما يسمى بالموقف العطري لعالم مرح والعبور إلى حياة جيدة”[6]. والمقصود بذلك هو إبراز الدور الرمزي للعطر والذي يستعاض به عن اللغة، حيث أن العطر يقوم بنفس الوظيفة التي خلقت من أجلها اللغة وهي القدرة على التعبير والتواصل وشحذ الخيال. فنوع العطر وتوقيته يخلق مساحات بين البشر ويرسم على طريقته فئات اجتماعية متباينة.
ليس من الصعب ملاحظة أن دور العطر وأنواعه وما يحمله من دلالات تحتل موقعا راسخاً في كل الثقافات عبر التاريخ الإنساني، حيث تستبطن الذاكرة الجمعية العديد من المعاني والوظائف التي ترتبط ارتباطا مباشرا أو غير مباشر بوجود العطر، سواء كان ذلك على مستوى المجموع أو على المستوي الفردي. على سبيل المثال برز دور العطر خلال أحداث هامة مثل جلسات السحر وطقس الزار (الذي تم منعه في السودان منذ عام 1992) والشعائر الدينية – وذلك من أجل إحلال البركة وطرد الأرواح الشريرة، وكذلك المناسبات الاجتماعية السعيدة مثل الزواج. أما عطر الجسد وإن كان يبدو للوهلة الأولى مسألة ذاتية جدا تنبع من المزاج الشخصي أو الاهتمام بالنظافة والظهور بمظهر مستحب وجذب الانتباه، إلا أنها ترمز أيضاً لسلوك الإنسان ونظرته للعالم. فقد ارتبط العطر بموقع الفرد والصورة التي يحاول أن يقدمها لنفسه في المجتمع. وقد اعتبر الفيلسوف اليوناني سقراط أن الروائح تعكس الانتماء الاجتماعي، والوضع الطبقي، بما يعني أن الرائحة تحمل في طياتها قيمة ودلالة معلوماتية. وقد يستخدم العطر للتعبير عن هوية الفرد العرقية أو الدينية أو الجنسية أو الطبقية (Classen 1992)، وهو بذلك أي العطر يضع الفرد ضمن فئة اجتماعية محددة، يترتب عليها تحديد أشكال التفاعل والعلاقات المتداخلة مع المجتمع المحيط.
“الأذن تعشق قبل العين أحياناً”، يقول الشاعر العربي الكفيف بشار بن برد، ولكن العلم أثبت أن الأنف قد يعشق قبل العين والأذن، كما يقول بيت فيرون، أستاذ علم النفس بجامعة أوترخت الهولندية في كتابه “الرائحة: أبجدية الإغواء الغامضة”، الذي شاركه فيه أكثر من متخصص في مجالات مختلفة.[7] وتعتبر حاسة الشم من الحواس الحيوية الهامة عند الإنسان والحيوان فهي حاسة أساسية تمكن الكائن من إدراك الوجود والتأقلم على العيش فيه، على سبيل المثال تحمي بعض الحيوانات بقاءها بإطلاق رائحة كريهة كوسيلة دفاعية، مستثمرة هذه الحاسة الهامة لدى الآخرين لصدهم وتقليص مكامن الخطر التي قد تصدر منهم، كما أن دعوات التزاوج بين العديد من الحيوانات تتم عن طريق إرسال إشارات على شكل إفراز روائح معينة. كذلك الحال بين البشر، حيث يقول الباحثون أن أنف الإنسان يستطيع التمييز بين أربعة آلاف نوع مختلف من الروائح.
العطر بين الماضي والحاضر
شكل العطر ولا يزال ركنا أساسيا في حياة النساء -على اختلاف مشاربهن وأسباب احتفائهن به ومواقعهن الاجتماعية التي تحدد نوع العطر ومناسبته. إلا أن العطور والروائح الطيبة في الماضي والحاضر، كثيرا ما كونت ملمحا هاما عند الحكام والطبقات الأرستقراطية، الذين يولون اهتماما شديدا لمظهرهم الخارجي وأناقتهم، وهناك العديد من القصص التي تروى عن اهتمام ملكات العصور القديمة بالجمال والعطور مثل الملكة نفرتيتي وحتشبسوت وكليوباترا.
توحي هذه المرويات التاريخية بأن العطر وبجانب دوره الثقافي-الاجتماعي فإن له أبعادا اقتصادية وسياسية. يقال إن الملكة حتشبسوت هي أول من استخدم العطر خارج سياق المعابد والطقوس الدينية والجنائزية وأجساد الموتى، وأرسلت بعثتها الشهيرة إلى بلاد بنت (التي يشار إليها في الإنجيل بـ “خليج العطر أو “Cape Aromatica” والتي عادت محملة بكميات ضخمة من الأبنوس والعاج والأخشاب العطرية والأعشاب التي استعملها الفراعنة في تصنيع العطر. وقد استخدم اليونانيون القدامى عطراً خاصاً لكل جزء من أجزاء الجسد، مثلا يستخدم المردقوش للشعر وعصير التفاح لليدين، كما استعان الرومان بكافة أنواع الزيوت العطرية. كذلك فإن الحضارات السودانية القديمة على تعاقبها – مثل الحضارة النوبية وحضارة كرمة وغيرها – قد اتخذت من موضع السودان الفريد معبرا للتجارة بين شبه الصحاري الأفريقية ومصر القديمة، حيث شملت تلك السلع التجارية موادا ترفيهية لاستهلاك ملوك الفراعنة مثل العاج والذهب والأخشاب النادرة والحيوانات البرية والعبيد والعطور[8].
أما في العصر الحديث فإنه ليس بالعسير التدليل على الأهمية الاقتصادية والسياسية للعطر، فإذا نظرنا نظرة سريعة على صناعة العطور في العالم الحديث والتي تقدر بمليارات الدولارات – نجد أنها تضع بلدا مثل فرنسا في مكانة مميزة، حيث تشتهر العطور الباريسية بجودتها وريادتها لتصنع من فرنسا مركزا أساسيا لطالبي أفخر أنواع العطور في العالم وقبلة للباحثين عن آخر صيحات الموضات العطرية.
المرأة والعطر في الثقافة السودانية
تحتفي ثقافة الوسط السوداني السائدة ومن عاش في كنفها بالعطور أيما احتفاء، وتتوج المرأة على عرش هذه المملكة العطرية رافعة راية عبق الصندل ترفل في عوالمه الساحرة وسودانيتها الخالصة التي لم يمسسها إنس الإنقاذ وزمرتها – ولا جن عرابها الذي انطوى في غياهب الموت. وللصندل مكانة مميزة في صناعة العطور السودانية التقليدية أو ما يطلق عليها في السودان “الريحة” – حيث أنه يشكل حجر الزاوية في أي إنتاج محلي للريحة السودانية وبذلك تستحق المرأة السودانية أن يطلق عليها لقب “امرأة من صندل”.
ربما يشكل هذا الارتباط الوثيق بين المرأة السودانية وعطورها مدخلاً مناسباً لفهم وتحليل سياسة وعلاقات الجندر في المجتمع السوداني. قد يبرز مزيدا من التعمق في دراسة هذه الحالة معاني ودلالات للعطر تفوق قيمته المادية والحسية كونه يشكل عنصرا مهما في منظومة التراث السوداني. ويبقى السؤال عن أهمية ودور العطر في مجتمع محافظ مثل المجتمع السوداني تحكمه الثقافة البطريركية في تنظيم علاقة المرأة بالمجتمع. بمعنى آخر هل يمكن اعتبار تلك الطقوس الزاخرة في تحضير وصناعة واستخدام العطور التقليدية وسيلة للتعبير تتخذها المرأة السودانية لخلق مساحة خاصة تعويضاً عن عزلتها التاريخية وممارسات التهميش والإقصاء الذي عانت منه؟ وإذا صحت هذه الفرضية، فهل يمكن اعتبار العطور بماديتها ورمزيتها وسيلة لمقاومة القمع الذي يستهدف النساء؟ وهل يمكن أن نذهب أبعد من ذلك لاستنباط أن العطر بسحره وإيجابياته ربما شكل سلاحا لثورة المرأة السودانية ضد النظام البطريركي، وضد الاستعمار في السابق، وضد النظم الفاشية والديكتاتوريات التي تعاقبت على البلد؟ وما هي إمكانية العطر في خلق حالة من التضامن والعمل المشترك بين النساء في السودان؟ تبقى الإجابة على هذه الأسئلة محض افتراضات إذا لم يتم اختبارها من خلال عمل بحثي جاد.
حادثني أحد الأصدقاء قائلاً بأن أبدع ما يميز المرأة السودانية هو احتفاؤها بعطرها، وهو احتفاء لم تتخل عنه المرأة السودانية رغم ضنك الحال وضيق ذات اليد. وقد كان الصديق محقاً فبالرغم من الظروف السياسية والاجتماعية شديدة القسوة التي تمر بها البلاد، إلا أن المرأة السودانية وبحسب المتاح لديها، ما انفكت تحتفي بـ “عطر الصندل الفواح” وتحافظ على مكانة العطور وتاريخها الممتد. حيث اهتمت المرأة السودانية بتصنيع عطورها التقليدية، وهي دائما ما تتخذ من أي مناسبة مسرحاً لإثبات مهاراتها وإخلاصها لتراث هذا العبق. تبدع المرأة السودانية وتبتكر طيفا واسعا وحياة ثقافية كاملة محورها العطر السوداني وما يرتبط به من دلالات ومعاني ورموز، والذي ربما لا يوجد له مثيل بأي مكان آخر في العالم. وبعد أن كان طقس “دق الريحة” حدثا عائليا تقوم به النساء الماهرات في الأسرة من الخالات والعمات والحبوبات “الجدات”، ظهرت الآن طبقة من نساء محترفات يتقن صناعة العطور السودانية وأصبحت تلك العطور تباع في المحال التجارية.
ترتبط العطور في السودان غالبا بالأوقات السعيدة، وتصنع خصيصاً في المناسبات الهامه، حيث تجتمع النساء متحلقات في مساحة تخصهن وحدهن فقط حول ما يسمى بطقس “دق الريحة” الذي عادة ما يصاحب مناسبات الزواج والمناسبات السعيدة الأخرى – ويشكل فيه خشب الصندل وزيوته المستخلصة العنصر الأساسي لعزف ملحمة فريدة غنية الألحان على هيئة منتجات يتم استعمالها في تعطير المكان والمقتنيات، يشمل ذلك بخور الصندل الخشب والناعم وبخور الشاف، وأيضاً بخور التيمان الذي يستعمل لطرد الأرواح الشريرة والذي أيضاً ينظر إليه كعلاج فعلا ضد نزلات البرد. وبحسب الثقافة السودانية فإن البيت الذي لا تنبعث منه رائحة البخور، لا يعتبر منزلا مستوفيا لشروط النظافة والجمال. كما أنه من غير المناسب تقليدياً إطلاق نفحات البخور في المناسبات الحزينة مثل بيت العزاء، بالرغم من أن المتوفى يعطر أثناء غسله ببخور الصندل الأصلي وعطر بنت السودان، ولا يحق لزوجة المتوفى التعطر أثناء الحداد على زوجها على الأقل لمدة أربعة أشهر وعشرة أيام، بحسب الثقافة السائدة.
يستعمل البخور كذلك من أجل تعطير جسد المرأة وخزانة ملابسها، بجانب الصندلية والمسك والأنواع الوافرة العدد والجودة من الخمر السودانية مثل خمرة الصندل وخمرة المحلب والمسك والضفرة – وحديثا ظهرت خمرة التفاح والبرتقال والقائمة تطول معلنة أن قدرة المرأة السودانية في هذا المجال ليس لها حد. وهناك أصول متبعة في صناعة الخمرة توارثتها الأجيال، فمثلاً “خُمرة المسك” تتكون من المسك المطحون وعطر الفلير دمور مضافاً إليه الصندلية. وتتمخض جلسات دق الريحة المبهجة هذه أيضاً عن منتجات وافرة تستعمل لتنقية البشرة ونظافة الجسد مثل متطلبات “حفرة الدخان ” (الساونا السودانية المعطرة) والدلكة واللخوخة التي تستعمل لتنظيف وتطهير وتقشير وتعطير البشرة وإضفاء مظهر جمالي عليها بالإضافة للحنة السودانية المميزة.
ويزخر صندوق الأغاني السودانية بالكثير الذي يمجد العطر ابتداء بما تركه شعراء الحقيبة مروا بالغناء الحديث – حيث تغنى الشاعر عبيد عبد الرحمن قائلا “ويفوح نشيدي الفيك زي نفحة الريف دور”. ويطلق على المرأة السودانية التي أنجزت للتو طقوس زينتها وتعطرها بـ “المكبرتة”، التي ذكرها الشاعر خليل فرح في رائعته “فلق الصباح” قائلا “إنتي يا الكبرتوك، البنات فاتوك، في القطار الفات” – والمكبرتة هنا هي “عازة: الاسم المجازي للسودان “، والشاعر هنا يشبه البلد بالعروس المعطرة التي تبدو في أوج زينتها ويحثها على أن تستفيق من سباتها حتى تلحق بركب التقدم مثلما فعلت نظيراتها البنات/البلدان الأخرى.
ولا تكتمل طقوس الزواج في السودان دون توفر واستعمال هذه العطور التقليدية والتي يلعب كل منها دورا محددا متعارف عليه أثناء الاحتفالات المتعددة للعرس السوداني. يبرز هنا من حيث أهمية وجود العطر طقس “الجرتك” الذي يعقب حفل الزفاف الرسمي، حيث يرتدي العروسان ملابس مميزة خاصة بهذا الطقس وتشكل البخور والأرياح البلدية فيه ملمحاً هاماً ويطلق عليها “الفال”، والهدف الأساسي من وراء هذا الاحتفال هو مباركة الزواج على طريقة السلف والحفاظ على الموروث. وغالبا ما تجري طقوس الجرتك في بيت العروس وتستحضر الأغاني الخاصة بهذه المناسبة مثل أغنية “العديل والزين” و”عديلة يا بيضا” – والتي يرد بها مقطع يجسد ارتباط هذه المناسبة بالريحة السودانية وهو: “ريحة المحلب والمجموع ” وغيرها، والتي يمجد فيها العريس الذي استوفى كافة المتطلبات المادية لتجهيزات الزواج بما فيها مستلزمات العطور السودانية. نجد ذلك مثلأ حين يصدح الفنان صلاح بن البادية في أغنية (السيرة) الشهيرة مرددا ” ثلاثة قدور محلبية، ثلاثة قدور صندلية ، أمه (أي أم العريس) قالت شوية وحرمان ما يدخلن عليا” – وهي توحي بأن الأم ما كان منها إلا أن ترد البضاعة التي اشتراها نجلها العريس طالبة منه الزيادة، في إشارة لكرم الأم الفياض وإصرارها على تقديم ما يليق بمكانة الأسرة والظهور بمظهر حسن أمام الأصهار. تقتني العروس هذه البوتقة من الروائح المتنوعة، وتعطي النصائح ممن هن أكبر سناً وأكثر خبرة حول مهارات وأوقات استعمالها خاصة لزوجها، الذي له هو أيضا نصيب من هذه العطور حين تعطره العروس بها كعلامة للمحبة والتدليل. كما أن للأطفال أيضاً نصيب من رحيق العطور هذا خاصة الرضع، الذين تحرص أمهاتم على مسح رؤوسهم بزيت الصندلية النقي، مما يضيف نكهة طيبة تلازم أجسادهم الصغيرة عوضاً عن رائحة لبن الرضاعة.
وبالرغم من إبداع الفنانين والمثقفين السودانيين ووصول الكثير منهم للإقليمية والعالمية، إلا أن الخروج من المحلية طريق صعب دائما ما تخللته عقبات الظرف العام، أما الخمرة السودانية محلية الصنع والدلكة والبخور، فقد كانوا على ما يبدو أوفر حظا في الانتشار خارج السودان. حيث أصبحت تلك المنتجات معروفة بشكل واسع خاصة في البلاد التي يتواجد بها المهاجرون السودانيون بأعداد كبيرة مثل مصر ودول الخليج. وهنا بالإمكان أن نضيف خاصية رمزية أخرى للعطر التقليدي خارج السودان، حيث يتسحضر عبقه صورة الوطن في خيال السودانيين عوضاً عن الغياب، ويعينهم على خلق ما يسمى “بالوطن الافتراضي”.
أما في دول الخليج، فقد ذكرت لي إحدى الصديقات أن المواطنات الخليجيات انفتحن على العطور السودانية حيث يعتقدن بقوته الفاعلة لتعزيز العلاقة مع الزوج. ليس هذا بالمستغرب حيث ترتبط شخصية الإنسان الأسود عند العربي بقدرته الفاعلة على عمل السحر، لذلك ربما كان الاعتقاد السائد في هذا الوسط أن الروائح التي يعدها السودانيون بها سحر يشعل الرغبة والقوة في العلاقة بين الجنسين. كذلك فإنه بالنظر لبعض أنواع العطور والبخور الواردة من الخليج والتي تجد في السودان سوقاً لها، نجد أنها تحمل أسماء لها دلالات حسية مثل “المسني” و “ليلة الخميس – “وهذا يرسخ مفهوم ارتباط الرائحة والعطر كمحفز للنشاطات الحسية في مخيلة البشر.
فانتازيا العطر والجسد في الخيال السوداني
يمتاز الجسد البشري بقدرته على إفراز رائحة طبيعية، تختلف من شخص إلى آخر وتمنح الجسد هويته العطرية الخاصة به. وإذا كنا قد أشرنا للدور الذي يلعبه العطر في تحديد المكانة الاجتماعية للأفراد وتنظيم العلاقات بينهم، إذن يصح لنا أن نتساءل عن متلازمة الرائحة والجسد وقدرتها على صنع فانتازيا محورها الحب والعلاقة بين الجنسين. هل لرائحة الجسد دور في انجذاب المرأة لرجل بعينه أو العكس؟ وهل الاستعانة برائحة الطيب تثير الانجذاب بين الطرفين وتعزز الوصال؟ تقول أساطير الرومان والإغريق، أن حاسة الشم تلعب دوراً حيوياً في هذا المنحى، حتى أن “الزناة من الرجال كان عقابهم قطع الأنف، اعتقاداً بأن ذلك سيثنيهم عن العودة لفعلتهم، بحسب ما ذكر الشاعر الروماني بوبليوس فيرجيليوس، في كتابه الإنيادة … وحتى القرون الوسطى كان الأطباء يعتقدون أن بوسعهم التيقن من عذرية الفتيات بتشمم أنوفهم، واعتقد آخرون أن ما يعتري الأنف من تغيير واضطراب يدل على نشاط جنسي مفرط”[9]. كذلك فإن الصورة النمطية عن الرجل الإريتري الذي يخرج إلى الشارع متعطراً تعطي الانطباع أنه يرغب في ملاقاة النساء.
وإذا كان المجتمع السوداني يضع للعطر مكاناً رئيساً في منظومته الثقافية، فكيف يمكننا فهم النظرة الأيروسية لاستخدامات العطر داخل العقل الجمعي السوداني؟ ما هو موقع جسد المرأة من فانتازيا الجسد والعطر، وهل تعين الفرضيات الناتجة المرأة على تحدي النظرة الدونية الجنسية التي تشيعها الثقافة الذكورية، أم تعمل على ترسيخها؟
دائما ما نصنع المزاح قائلين إن المرأة السودانية هي “خمرة ودخان”. هذه العبارة كما تبدو حمالة أوجه إذا ما فحصناها في مختبر اللغة، فهي تصعد بك في اتجاهين مختلفين، رغم تقارب الهدف وهو متعة الجسد والروح. فهي إما تحملك في حالة من التأمل الرومانسي والغياب عن الواقع لبرهة في حبائل ليلى والمتصوفة الحالمين، أو أن تهوي بك لأرض البطريرك لتفتح الحديث حول النظرة غير المتكافئة التي يوليها المجتمع للمرأة والرجل. وإذا كان محور هذا المقال هو الدور الثقافي والأنثروبولوجي للعطر، إذن فإنه من المناسب تحليل الأدوار المتباينة التي تنشأ نتيجة علاقة العطر بالجسد في المخيلة السودانية، وما هو نصيب المرأة في تلك العلاقة.
واذا كان المتعارف عليه أن وظيفة العطر عند الرجل والمرأة هي قمع أو تحييد رائحة الجسد وإضفاء سحر ومتعة على المساحة التي يتواجد فيها مرتديه، فإن المرأة وجسدها وزينتها وعطرها، دائماً ما تخضع لقيود محكمة تصيغها القوانين المجتمعية من أجل السيطرة على أخلاق وسلوك المرأة وحماية الرجل من الشهوات. وحيث أن حالة التعطر لا يتوفر فيها دليل مادي ملموس، لا توجد قوانين تستطيع الحكومة بموجبها أن تلاحق أو تفرض عقوبات على المرأة التي ترتدي العطر، مثل ما تفعل الحكومة السودانية ضد النساء اللاتي لا يرتدين غطاء للرأس – تحت غطاء القانون الجائر سيء السمعة المسمى بـ “قانون النظام العام”. أما قانون العرف الاجتماعي المعمول به في ثقافة المجتمعات العربوإسلامية، فإنه ينهى المرأة (وليس الرجل) عن التزين والتطييب خارج منزلها أو حال وجود غير المحارم من الرجال به، حيث يعتبر هذا تبرجا يعمل على لفت الانتباه وإثارة الشهوات. فبحسب الحديث الذي رواه أبو موسى الأشعري فإن المرأة التي تتعطر ثم تخرج من بيتها هي في حكم الزانية ” أيما إمرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية”. كذلك فقد نهى عمر بن الخطاب النساء عن التطييب في الأماكن العامة قائلا: “تخرجن متطيبات فيجد الرجال ريحكن، وإنما قلوب الرجال عند أنوفهم”. هنا يتجاوز العطر دوره الجمالي ليصبح أداة إغواء ترسل إشارات للرجل تغويه وتثير شهواته، وهي فكرة لا تنفصل عن النظرة السائدة لجسد المرأة على أنه وعاء وعورة يجب سترها للجنس. يتطابق ذلك مع الخطاب السائد عن العطر في الثقافة السودانية، حيث يخلق العطر حالة فانتازيا محورها جسد المرأة والجنس.
ولا يخفي الرجل السوداني افتتانه بالسحر المنطلق من تلك العطور وخاصة الخمرة. وبالرغم من ذلك فقد نشرت قبل فترة بسيطة بوست معايدة على الفيس بوك به صورة يظهر فيها أنواع عديدة للريحة السودانية اعترافاً وتقديراً مني لجمال الموروث العطري المحلي، وربما كان يداعب خيالي آنذاك فكرة الكتابة عن هذا الموضوع. عقب ذلك نشر أحد الأصدقاء الأعزاء وهو سوداني” بوستا مجاوراً” أعلن فيه عن عدم استساغته لرائحة الخمرة التي تتزين بها كل النساء تقريبا في السودان على مختلف أعمارهن ومواقعهن، وأضاف أنه من غير اللائق أن تكون الخمرة هي أهم ما يميز رائحة الجدة والأم والزوجة معاً، حيث أن ذلك يعمل على الإرباك عند تفسير الإشارة الرمزية المنطلقة من رائحة الخمرة ويجعلها غامضة، ويضع الرجال السودانيين في محل شبهة باعتبارهم قوما يعانون من عقدة أديب.
“عايز أكون أنا عايز أكون تاجر عطور … أسرح وأدور بين الحسان”، يصدح الفنان صلاح ابن البادية في أغنيته الشهيرة متمنياً أن يصبح تاجر يجود على الحسناوات ببضاعته العطرية. حين تغنى صلاح ابن البادية بهذه الأغنية لم يكن يخطر بخياله أن صانع عطور آخر يسرح ويدور ملاحقا الحسان بقصد قتلهن لاستخلاص العطر من أجسادهن! هذا هومحور الرواية واسعة الشهرة “العطر: قصة قاتل”، التي كتبها الروائي الألماني باتريك زوسكيند في عام 1985 والتي أصحبت فيما بعد فيلما سينمائيا انتشر على قطاع واسع. وتدور الرواية حول قصة الفتى جان باتيست غرونوي الذي ترعرع في دار أيتام بعد أن تركته أمه رضيعا تحت طاولة في أحد أسواق السمك في باريس، لينشأ فقيراً ومنبوذاً حتى يرتكب سلسلة جرائم قتل ضحاياها من النساء، ويحاكم بالإعدام ولكن ينجو من العقوبة منقذا العطر حياته. والعطر هنا هو ما حصده جان باتيست على مر حياته مستخلصا من أجساد العذراوات الجميلات صغيرات السن اللاتي قتلن على يده خصيصاً، خلال سعيه المهووس لامتلاك الإكسير المتفرد. يرمي المدلول الفلسفي للرواية إلى أن جان باتيست وبقدرته الإعجازية في حاسة الشم، حيث أن أنفه تستطيع التمييز بين أكثر من عشرة آلاف نوع من الروائح، قد رسم هدفه الوجودي في استخلاص هذا العطر المثالي الذي لا يمكن الحصول عليه في غاية كماله إلا من جسد المرأة الشابة الجميلة.
وقد تم نقد الرواية في العديد من الكتابات النسوية تحفظاً على الرسالة التي قدمتها، والتي بحسب تلك الروايات لم تفعل غير إعادة إنتاج للنظام البطريركي الذي يستخدم أدوات مدروسة جيداً لقمع النساء وتنميطهن ووضعهن في مكانة أدنى. على سبيل المثال تقول الناقدة هيزر أديسون “في رؤية أبوية صادمة لعالم العطور، التي تقوم على نظرية أن أجود أنواع العطور هي تلك التي يتم استخلاصها من أجساد العذراوات، فإن الرواية في سعيها نحو العطر ترسخ مفهوم تشييء (objectification) واستغلال المرأة [10]“.
نلاحظ أن الثقافة العربوإسلامية السائدة حافلة بأقوال عديدة تشبه المرأة بالزهور والعطور مثلا قول “إن النساء رياحين خلقنا لنا … ومن منا لا يشتهي شم الرياحين” وكذلك ” الزهور زي الستات لكل لون معنى ومغزى” التي تغنى بها المطرب المصري الشهير محمد فوزي والذي عارض انخراط شقيقته هدى سلطان في عالم الفن باعتبار أنه وسط مفسد ولا يصح للنساء التواجد به. إذن يرسم العقل الجمعي صورة لجسد المرأة فيها تجسيد للشكل والرائحة الطيبة. ولكن لايخفى التناقض الوارد في النظرة تجاه جسد المرأة من حيث تمجيده باعتباره مبعثا للجمال والطيب وإدانته وتنميطه في ذات الوقت كونه عورة وبالتالي يجب ستره أو امتلاكه وأحياناً قتله إذا تطلب الأمر.
تستخلص المرأة السودانية العطر وتصنعه احتفاء منها بالحياة، ولكن العادات والتقاليد تحاصرها وتفرض عليها قوانين مرسومة تحكم سلوكها عند التعامل مع جسدها وزينتها. وهنا يحضرنا قول ميشيل فوكو إن “الجسد أداة في يد السلطة تراقب بواسطته المجتمع والسلطة”. فمثلاً لا يسمح للفتاة السودانية غير المتزوجة اقتناء الأرياح السودانية التقليدية لما ارتبطت به في الأذهان من أنها حيازة خاصة بالمرأة المتزوجة التي يجب أن تتزين بها فقط لزوجها. كذلك فإن التأكيد المبالغ لدور العطور السودانية وحصر استعماله للمرأة في حجرة نومها، ينتج صورة مختزلة عن المرأة ويجردها من الأهداف العليا لوجودها في الحياة، حيث أن هذه الصورة تركز فقط على جسد المرأة وتقصر دوره على الدور الإنجابي. وبذلك يرتبط العطر ارتباطاً وثيقاً بسياسة الجسد وعلى الأخص جسد المرأة، ويستحضر الانطباعات المتباينة لجسد المرأة ما بين التقديس والتدنيس متجسدا في الإحتفاء والاشتهاء أو التذليل والتحقير لهذا الجسد.
استنادا على ماسبق يصبح من الملح دراسة الحياة العطرية ودلالتها ورموزها الثقافية في المجتمع السوداني تاريخياً وكذلك في سياق المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. هل يشكل العطر ويتموضع في وعي الأجيال الجديدة في نفس الموضع عند الأجيال السابقة؟ وما مدى ثبات أو إمكانية استمرار رمزية وطقوسية استخدام وصناعة العطر السوداني؟ وهل ستؤثر مفاهيم الحداثة والتحرر في تغيير النظرة الرمزية لاستخدامات العطر السوداني؟ تبقى هذه كلها أسئلة تنتظر الإجابة وينبغي إدراجها على قائمة البحث العلمي المهتم بالسودان.
الهوامش:
[1] http://www.huffpostarabi.com/2016/12/02/story_n_13369392.html
[2] https://raseef22.com/life/2018/01/21
[3] فاطمة في ساحة الكونكورد، الأعمال الكاملة، نزاز قباني، 4/205.
[4] [4] [4] https://raseef22.com/life/2018/01/21
[5] عردب = عرديب، المجمر = الذهب اللامع (تستعمل الحمضيات مثل العرديب في جلي الذهب وإعادة بريقه ولمعانه).
[6] Gell, Alfred. 2006. Magic, Perfume, Dream . . . In The Smell Culture Reader, edited by Jim Drobnick, pp. 400–410. New York: Berg. (page 405).
[7] https://raseef22.com/life/2018/01/21
[8] http://africanaromatics.com/sudans-aromatic-culture/
[9] https://raseef22.com/life/2018/01/2
[10] Addison, Heather . The Scent of a Woman: Perfect Misogyny in Perfume: The Story of a Murderer. January 31, 2010