الفاشية فينا كلنا في رؤوسنا وسلوكنا اليومي، الفاشية التي جعلتنا نعشق السلطة، وأن نرغب في كل ما هو يهيمن ويستغلنا
كيف يمتنع المرء عن أن يكون فاشياً، خاصةً عندما يعتقد في كونه مُقاتلاً ثورياً؟
هذا المقال الذي نقدم ترجمته هنا، يمثل المقدمة التي كتبها الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو لكتاب (ضد-أوديب) والذي يمثِّل هو وصنوه الآخر (ألف هضبة)؛ الأجزاء المكوِّنة لما أسماه مؤلفاه الفرنسيان: (الفيلسوف جيل دولوز، والمحلل النفساني فيليكس غوتاري) بـ(الرأسمالية والشيزوفرينيا).
بموضعته للكتاب في حاضره التاريخي، يؤرخ فوكو للكتاب وللحاضر فيما أسماه بتاريخ الحاضر، أي (سؤال الآن). سؤال الفرد والمجتمع (مسألة الحرية)، السؤال التقليدى لكل فلسفة سياسية. (ضد-أوديب، كان بأسره كتاباً في الفلسفة السياسية)، هذا ما قاله دولوز. المفهوم المركزي الذي قامت عليه هذه الفلسفة السياسية هو مفهوم الرغبة؛ الرغبة بمعناها الأسبينوزي، الرغبة ليست الفَّاقة، ليست العَوَز، هي فعاليَّةٌ ونشاطٌ إيجابيّ، إستجابةٌ إثباتيةٌ للحياة، أَوَلَيسَ الإنسان رغبة!، كما أخبر سبينوزا؟.
حاولت الفرويدية سجن هذه الرغبة فى مسرح الأسرة، في ثالوث (الأب، الأم والإبن)؛ في عقدة أوديب، جاعلةً الإخصاء شعارها من أجل تثبيت أركان النظام السائد أي الحضارة الرأسمالية وجاعلةً من أريكةِ المحللِ النفسيّ المكان الذي تُقمَعُ فيه الرغبة بمبدأ الواقع. كيف يتم تحرير الرغبة؟، أجاب دولوز وغوتاري، بـ (الأنفتاح الكليّ لها)، بتخلُّل دفقاتها لكل المجال الإجتماعي. من هنا محاولتهما تفادي التشخيص الفرويدي القمعي للفرد، ومن هنا هما (ضد – أوديب)، بذا استبدالهما للتحليل النفسي بالتحليل الفصامي، والفصامي مريض الشيزوفرينيا هو المقابل للرأسمالية في هذا التحليل. يميز هذا التحليل بين نزعتين تجاه النظام الرأسمالي: نزعة بارانويا رجعية توحيديَّة، تردُّ الظواهر الجزيئيَّة إلى النظام الكليّ (التمثيل)، ونزعة شيزوفرينيَّة ثوريَّة تفهمُ الجزئيّ بما هو جزئيّ (السياسات الذريِّة، الثورة الجزيئية)، دون الإرتداد إلى الكليَّات، والتي هي دائماً وأبداً فاشية. المفاهيم المستخدمة في هذا التحليل هي: الإستقطاب والتجاور والإنفصال، وليس التراتب التجزيئيّ والهرمي، بعبارةٍ أخرى: (المحايثة وليس التعالي). من هنا دعوتهما لممارسة سياسية ثورية على النقيض من التقليد الماركسي، والذي يؤسس لمفهوم الثورة من حيث هو حصيلة واعية وقاصدة لنضال البروليتاريا عبر توجيهات حزب ثوري متراتب عمودياً. ألا يحاكي هذا نَفْس المفهوم التراتبي للدولة التي يحارب ضدها؟، ينادي المؤلفان بالإبتعاد عن هذا المفهوم للسياسة. وبتأثيرهما وتأثرهما بثورة وأحداث 1968م، كان من الضروريّ قول هذا الذي انتظره الكثيرون، لكن من كان غير الرائي ليأتي ويقوله، إنسان عصره، (نحن نعيش عصر دولوز)، هذا ما قاله فوكو، لذلك وضع مبادئ الكتاب الجوهرية في الصيغة الأمريِّة: حرِّر، نمِّي، لا…إلخ؛ الصيغة الأخلاقيةُ المستوجبةُ الإصغاء لما يقوله من ادَّعى الرؤيا. فما الذى يراه الرائي، وما الشيء الذي يدعونا لنشاركه إياه؟. هذا ما لايسعنا قوله هنا. لأن الشمس دائماً فى الخارج. [المترجم]
أثناء السنوات 1945-1965م (أشير إلي أوربا)، كانت هنالك طريقةٌ ما للتفكير المنضبط، أسلوبٌ ما للخطاب السياسيّ، أخلاقياتٌ ما للمثقف. على المرء أن يوائم مصطلحاته مع ماركس، وأن لا يشرُدَ بأحلامه بعيداً عن فرويد. كما كان عليه أن يعالج أنساق العلامة الدال باحترامٍ كبير. هذي كانت المتطلبات الثلاثة، والتي جعلت من هذا الإنشغال الغريب بالكتابة والكلام مقياساً للحقيقة حول الإنسان وعصره.
بعدها جاءت السنوات الخمس الوجيزة، المتحمِّسة، المُبتَهِجَة، المُبهَمَة. عند بواباتِ عالمنا كانت فيتنام، بالطَّبع، الصدمةُ الأولى الأهم للقوى الموجودة. ولكن هنا، داخل أسوارنا، ما الذي كان يجري بالضبط؟، مزجٌ للسياسات الثورية والضدّ-قمعية؟، حربٌ تمَّ خوضها على جبهتين: ضدَّ الإستغلال الإجتماعي والكبت النفسي؟، موجةَ ليبيدو ملطَّفة بالصراع الطبقي؟ ربما. على أيّ حال، هذا هو المألوف، تأويلٌ مزدوجٌ ذلك الذي قادَ الدَّعوى للأحداث في تلك السنوات. الحلمُ الذي غطَّى، بسحره، على الأجزاء الحالمة من أوربا بين الحرب العالمية الأولى والفاشية ألمانيا وليم رايش، وفرنسا السرياليين عاد وأضرَمَ النار في الحقيقة الواقعية نفسها: ماركس وفرويد في الضّوء المتوهج ذاته.
ولكن هل كان ذلك ما حدث فعلاً؟ هل تمت استعادة المشروع اليوتوبي للثلاثينات، على مستوى الممارسة التاريخية هذه المرَّة؟ أو أن ما حدث كان على النقيض، أي حركة نحو نضالٍ سياسيٍّ ليست مطابقةً للنموذجِ الذي فَرَضَهُ التقليد الماركسي؟؛ نحو تجربةٍ وتقنيةٍ للرغبةِ ليست فرويدية؟، بالفعل إنتصبت الرَّاياتُ القديمةُ، لكن القتال، إنتقل وانتشر، ضَمِنَ مناطقاً جديدة.
يعرض كتاب (ضد-أوديب) أولاً المناطق التي تغطَّت، لكنه يقوم بأكثر من ذلك؛ هو لايهدرُ زمناً في تكذيبِ الأصنامِ القديمة، وإن كان لديه قَدْرٌ من الهزل مع فرويد. والأكثر أنه يدعونا إلي الذهاب بعيداً.
سيكون من الخطأ قراءة (ضد-أوديب) كمرجع نظريّ جديد (أنت تعرف، أن أغلب النظريات المبشِّرة، والتي كثيراً ما أخبرونا بأنها: “هي ما تأتي لتقول كل شئ”، والتي هي شمولية ومطمئِنَّة بصورةٍ مطلقة، وأنها ما نحتاج له بشدةٍ في عصر التشتيت والتخصصية هذا، والذي أختفى فيه الأمل). لاينبغي توقع (فلسفة) وسط الفيض الإستثنائي للأفكار الجديدة والمفاهيم المدهشة: (ضد-أوديب) ليس هيجل مُضاءاً. أظن أن أفضل طريقة لقراءة (ضد-أوديب) هو قراءته كـ(فنّ)، في المعنى المنقول عبر مصطلح (فن شهواني) على سبيل المثال. مستنداً على الأفكار التي تبدو تجريدية في مظهرها للتعدديات، الدَفقات، التركيبات والتفرعات، التحليل لعلاقة الرغبة بالحقيقة الواقعية، و بـ(آلة) الرأسمالية، أثمر إجاباتٍ لإسئلةٍ حيّة، أسئلةٌ أقل إهتماماً بـ(لماذا) هذا أو ذاك، من إهتمامها بـ(كيف) يسير ويعمل. كيف يمكن للمرء إدخال الرغبة ضمنَ الفكر، ضمن الخطاب، ضمن الفعل؟، كيف يمكن، بل ويجب للرغبة، أن تنشر قواها داخل الحقل السياسيّ وتنمو بكثافةٍ أكثر في عمليات قلبِ النظامِ المستقرّ؟ **ars theoretica , ars erotica , ars politica
بذا؛ فهنالك ثلاثُ أعداءٍ تصدى لهم (ضد-أوديب)؛ ثلاث أعداء ليست لهم نفس القوَّة، يمثلون درجاتٍ مختلفةٍ من التَّهديد، قاتَلَهُم الكتاب في طرق مختلفة:
• الزهدُ السياسي، المقاتلون البؤساء، إرهابيو النظرية، الذين سيحفظون بقاء النظام المحض للسياسة والخطاب السياسي. بيراقراطيو الثورة، والموظفون المدنيون للحقيقة.
• تقنيو الرغبة، المثيرين للشفقة- المحللون النفسانيون، وسيمولوجيو كل علامةٍ وعَرَضٍ مَرَضيّ- الذين سيختزلون كل تعدديةٍ إلى القانون الثنائي للبنية والعوز.
• أخيراً، وليس آخراً، العدوّ الأهم، الخصم الإستراتيجي هو الفاشية (رغم أن معارضة ضد – أوديب للآخرين أكثر من التزام تكتيكي). ليس فقط الفاشية التاريخية، فاشية هتلر وموسليني والتي كانت قادرةً على أن تحرِّك وتستخدم رغبةَ الجماهير بفعالية بل أيضاً الفاشيةُ فينا كلنا، في رؤوسنا وسلوكنا اليوميّ، الفاشيةُ التي جعلتنا نعشقُ السلطة، وأن نرغب في كل ما هو يهيمن ويستغلنا.
سأقول أن ضد – أوديب (ربما يغفرُ لي المؤلِّفَين) هو كتاب لقواعد الأخلاق، الكتاب الأول للأخلاق، والذي كُتب في فرنسا منذ زمن طويل (ربما هذا مايفسِّر لماذا كان نجاحه غير محدود بشريحة للقراءة الخاصة: أن تكون ضد- أوديبيّ أصبح نمط حياة، طريقة للتفكير، والحياة). كيف يمتنع المرء من أن يكون فاشياً، حتى وخاصةً عندما يعتقد في كونه مقاتلاً ثورياً؟، كيف نحرر أحاديثنا وأفعالنا، قلوبنا ولذائذنا، من الفاشية؟، كيف نستخرج الفاشيةُ المنقوعةُ في سلوكنا؟، قام الأخلاقيون المسيحيون بطرد آثار الجسد الساكن عميقاً داخل الروح. دولوز وغوتاري، بدورهم، لاحقوا الآثار المُستهان بها للفاشية في الجسد. وبإعطاء ثناءٍ مُعتدلٍ للقديس فرانسيس دوسال*، يمكن القول أن ضد – أوديب هو (مقدمة لحياةٍ لافاشية).
فنّ الحياة هذا مضادٌّ لكل أشكال الفاشية، ماهو حاضرٌ أو على وشك، يحمل معه عدداً من المبادئ الجوهرية، والتي سأحاول تلخيصها تالياً، إن كنت سأجعل من هذا الكتاب العظيم موجزاً أو مرشداً للحياة اليومية:
– حرِّر الفعل السياسي من البارانويا الشاملة والتوحيدية.
– نمِّي وطوِّر فعل، فكر ورغبات، بالإستقطاب والتجاور والإنفصال، وليس بالتراتب التجزيئي والهرمي.
– إسحب الولاء من الفئات القديمة للسلب (قانون؛ حدّ، خِصَاء، عَوَز، لا اكتمال)، والتي عدَّهَا الفكر الغربيّ لفترةٍ طويلةٍ مقدسةً كشكلٍ للسلطةِ أو مدخلٍ للحقيقةِ الواقعية. فضِّل ما هو إيجابي ومتعدد، الإختلاف على المماثلة، الدفقات على الإتحادات، التراكيب المُتحركة على النسق. آمِن بأنَّ ما هو مُنتِج ليس المقيم، بل المُرتحِل.
– لا تظن أنَّه لتكون مُقاتلاً، ينبغي عليك أن تكون بائساً، حتى وإن كان الشيء الذي تقاتله شنيعاً. وهذا لأن ارتباط الرغبة بالحقيقة الواقعية هو ما يملِّك القدرة الثورية، وليس بتقهقرها ضمن أشكال التمثيل.
– لاتستخدم الفكر لتُعطي لممارسة سياسيَّةٍ ما قيمةً في الحقيقة، ولاتستخدم الفعل السياسي لتجريم فكرٍ ما، كما لو أنَّه تأمُّلٌ محض؛ خطٌّ للفكر. بل استخدم ممارسة السياسة كمُكثِّف للفكر، والتحليل كمُكثِّرٍ لأشكالٍ وحقولٍ لتَدَخُّلِ الفعل السياسيّ.
– لاتطلب من السياسة أن تُنشئ حقوقَ الفرد كما عرَّفتها الفلسفة، الفرد هو مُنتَج من قِبل السُلطة. ما نحتاجه هو (كسرُ ما يَتَفرْدَن)، عبر وسائل المُضاعفة، الزحزحة، والتراكيب المتنوعة. لايجب للجماعة أن تكون رباطاً عضوياً يوحِّدُ أفراداً متراتبين، بل مِرجَلاً مُثابراً لكسر الفردنة.
– لاتقع في هوى السُلطة.
من الممكن القول أن اهتمام دولوز وغوتاري بالسلطة قليل جداً، كونهم حاولوا تحييد تأثيراتها المُرتبطة بخطابهم الخاص. من هنا الألعاب والفخاخ المبثوثة عبر الكتاب جاعلةً ترجتمهُ عملاً باهراً ومتعةً حقيقية. لكن هذه ليست الفخاخ المألوفة للبلاغة (إنجازُ السلطةِ الأخير)، والتي تغوي القاريء دون أن يكون مُدركاً للمناورة، والتي تكسَبه لصالحها نهائياً ضد إرادته. الفخاخ في ضد-أوديب من النوع الُفكاهي- عديدٌ من الدعوات تجعل المرء يقهقه مُغادراً مكانه، يترك النص ويقفل الباب وراءه بعنف. كثيراً ما يقود الكتاب المرء للتفكير في كونه ليس إلا مَرَحَاً وألعاباً، بينما شيءٌ ما مهمٌّ يحدُث، شيءٌ جادٌّ لأقصى حدّ: تصيُّدٌ لكل أنواعِ الفاشية، من الأنواع الهائلةِ التي تحيطُ بنا وتسحقنا، إلى النوع الصغير، والذي يؤسِّسُ الصرامةَ المُستبدَّة لحياتنا اليومية.
الهوامش:
* فرانسيس دوسال راهب وأسقف جنيف في القرن السابع عشر، عُرفَ بمؤلِّفه مُقدمة لحياة ورعة.
** وردت في الأصل باللاتينية وتعني حسب ترتيبها في النص، فن نظري، فن شهواني، فن سياسي.