غوايات

إلى القطة التي التهمت زائدتي الدودية

يجدك بخير

لقد كان نهاراً قائظاً، كانت ساعاته تتمدد وتتطاول، على خلاف الساعات بمقدارها الزمني المعهود، كانت تتطاول بقدر ذلك الملل الذي يشغل حيز الزمان ما بين آخر ساعات الدراسة في المدارس وحتى لحظة إعلان انتهاء اليوم الدراسي، ومن تحت الدرج حركت يدي لأتحسّس بطني التي بدأ يدب فيها ألمٌ طفيف، ذكرني ذاك الألم الذي كان قد ألمّ بي قبل أيام، عندما لم تفلح كل المحاولات الطبية الشعبية من مغلي النعاع أو الحلبة، في إيقاف ذلك الألم الذي مزّق معدتي وجعلني أتلوى كمصروع.

بذكريات ذلك الألم، مضافا إليها ثِقَل تلك الدقائق واللحظات داخل الفصل، جمعتُ بعض الشجاعة واستأذنت الأستاذ الذي كان يلقي درساً مملاً، كعادة الدروس الأخيرة نهاية اليوم الدراسي، خرجت مشتكياً ألماً في معدتي، مستئذناً الذهاب إلى المستشفى، وبرفقة زميل لي قصدت أحد المكاتب الإدارية لأطلب (الدفتر الطبي) الذي يوقع عليه طبيب المستشفى بعدما يقوم بفحص الطالب المريض، مُعلّقاً عليه بوصف الحالة الصحية للطالب مع كتابة مدة للراحة؛ إن وجدت.

وصلنا إلى المستشفى أنا والزميل المرافق لي، والألم لم يتطور بل بدأ في الهدوء، وقفنا على مقربة من الطبيبة المناوبة ذلك اليوم في انتظار فرصتي للكشف الطبي، لكن يبدو أن الطلاب الذين كانوا يحتالون الأطباء لكسب بعض أيام الراحة التي تنجيهم من واجب الذهاب للمدرسة، كانوا قد أضروا بفرص المرضى الحقيقيين من الطلاب.

وللحق، أيتها القطة، كنت أنا نفسي أحد أولئك الطلاب الذين لا يفوتون سانحة أن يظفروا بتوقيعٍ طبي ينجيهم من عذاب المدرسة، لكن، للحق أيضاً، لم أذهب ذلك اليوم إلى المستشفى إلا خوفاً من ازدياد الألم وبلوغه تلك الدرجة التي اختبرتها قبل أيام، لكن ما حدث في المستشفى لاحقاً كان خلافاً لما دفعني للذهاب في الأساس.

لم أكن بعد قد استوعبت أن ساعة تقديم شكاويّ الطبية قد حانت، عندما صاحت الطبيبة الشابة موجهةً خطابها إليّ قائلة: “عندك شنو” ومرد جهلي أن أمتاراً كانت تفصل بيني والطبيبة التي فرغت للتو من سماع شكوى المريض الذي أمامي، وكنت آمل أن أقدم لها شكاويّ المرضية، شارحاً ذلك الألم الذي عايشته قبل أيام.

ساعتها أجبت إجابة سريعة ومختصرة، فقد اشتغل شغفي في معرفة ما سيترتب على هذا السؤال السريع غير المبالي، وبثلاثة أحرف فقط أجبت:

–      “مغص”

–      “فلاجيل”.

 كانت تلك إجابة الطبيبة بينما تنكب على دفتر المدرسة وهي تكتب ملاحظاتها من دون حتى أن تسمع تعليقي أو أي إضافة أخرى على توصيتها.

أمهلتها لحظات، قضيتها في صمت أستجمع فيه كل ملامح الغرابة لتصدمها ساعة تمد لي الدفتر المصحوب بروشتة “الفلاجيل” متوقعة مني الانصراف.

وبالفعل لمْ تكلّف نفسها عناء النظر إلى وجهي، حتى اللحظة التي استلمت منها الدفتر ببرود، وبفصاحة صبيانية سألتها إن كان هذا كل الأمر وأن علّي الانصراف، وبعد أن أكدت ذلك، أردفت قائلاً: “إنتي عارفة إنو أنا ممكن أموت من المغص دا؟”.

حينها بدأت الطبيبة في استحضار بعض الثقة الحذرة، منتبهة أن الأمر لن يمر مرور الكرام، بعد أن بدأت تحسّ أن حديثي فيه شيءٌ من المصداقيَّة التي تدفعها لأخذي محمل الجد، لكن في نفس الوقت بدا أنها لم تكن تأمن ألاعيب الطلاب ورغبتهم في تواقيعها الطبية التي تمنحهم الراحة لأيام من جحيم المدرسة، كما يبدو من تعاملها غير المكترث في البدء، والذي يبدو أن الزي المدرسي الذي أرتديه كان محفزاً له.

بعد أن اقتنعت الطبيبة أنني صاحب شكوى مرضية جادة، وفي الأثناء التي كانت الطبيبة تجري فيها الكشف اليدوي الروتيني لمثل هذه الشكاوى الصحية، سردت لها ما مررت به قبل أيام، ذلك الألم الذي كنت أحسّ أنه سكاكين تمرر داخل أحشائي، حينها بدا احتمال التهاب الزائدة الدودية واردا بالنسبة للطبيبةً، كما كان موضع شك وتخوف بالنسبة لي، ورغم أن الألم كان قد بدأ في الخفوت أو تلاشى تماماً، إلا أنني وصفته كأنما أحسّه في تلك الحظة، ويبدو أن ذلك كان قدراً مسطراً كيما تنالي رزقك من زائدتي الدودية التي التهمتيها دون وجه حق، أيتها القطة.

بعد الكشف قررت الطبيبة أن أمكث في المستشفى لأيام، مع التوقف عن الطعام والشراب لمدة يومين على الأقل، لإعادة الكشف واستبعاد أي سببٍ متعلق بطعام تناولته، قالت ذلك بينما تسألني في خبث ألم يكن من الأفضل أن أكتفي بالفلاجيل وأغادر المستشفى لأنني صرت مهدداً بإجراء عملية جراحية.

بعد يومين قضيتهما من دون طعام أو شراب في المستشفى مكتفياً بالمحاليل الوريدية، جاءت ساعة الكشف مرة أخرى، وحضرت الطبيبة برفقة طبيب آخر أقل درجة وظيفية منها فيما يبدو، حيث بدا كأنه طبيب تحت التدريب، ومنذ أن رأيت الطبيب المرافق، ارتجلت سيناريو جديدا للمكيدة التي ساقت إليك زائدتي الدودية على طبق من ذهب، فبينما تقوم الطبيبة بالكشف السريري اليدوي بالضغط في الجزء الأيمن من أسفل البطن، موضع الزائدة الدودية، أشحت وجهي ناحية الطبيب المرافق لها، وبطريقة مصطنعة، كأنما أداري الألم، بينما ينظر الطبيب المرافق إلى وجهي، أجبت على سؤال الطبيب نفياً إذا ما كنت أشعر بأي ألم في الموضع الذي تقوم بالضغط عليه.

–      “مبروك، مافي عملية”. قالت الطبيبة.

وقبل أن أظهر فرحتي، التي يجب أن تبدو للطبيب حقيقية، تدخل الطبيب المرافق وقرر إعادة الكشف، وما أن ضغط على مكان الألم المفترض، حتى تأوهت بألم خفيف، معلناً للجميع أن الطبيبة كادت أن تشخص تشخيصاً طبياً خاطئاً، مسجلاً انتصاري الثاني عليها، ومسترداً بعض كرامتي المَرَضِيّة.

ما هي إلا دقائق حتى كنت طريح السرير في غرفة العمليات عاري الجسد إلا من قطعة قماش صغيرة تستر العورة، في حضور الممرضين والأطباء الذين يتحاومون حولي، في تلك اللحظة بدأ خوف قليل يتسرب إليّ، فقد كنت أعرف بعض المعلومات عن خطر المخدر، وكنت أعلم أن زيادة طفيفة في الجرعة قد تؤدي للوفاة، تذكرت جسدي النحيل الذي لم يزنوه حتى يحددوا جرعة المخدر، كدت في تلك الحظة أن أعلن للطبيبة أنني محض صبي مخادع مغامر، إلا أن إضاءة غرفة العمليات وأجوائها الرسمية، وأجهزتها الطبية التي لا أدري شيئاً عنها عقدت لساني عن أن ينطق بحقيقة المزحة، حدّقت في وجه الممرض الذي كان يحمل حقنة المخدر بابتسامة تعلو وجهه الدائري، وفي هلع أخبرته أني نحيل البنية، وأن عليه أن يتأكد من قياس الجرعة، لم يولني اهتماماً يذكر، كما لم تنزاح الابتسامة من وجهه وهو يقوم بتحضير الحقنة، في تلك اللحظة أحسست كأنما كان هذا الممرض يعرف سري الصغير، وأنه عندما يبتسم يقول لي إن الأمر جدي للغاية، وأن التراجع قد استحال الآن.

بعد أن قام الممرض بإفراغ الحقنة ضمن السائل الوريدي الذي كنت أتلقاه ساعتها، عاد إليّ وفي وجهه الابتسامة تلك، طالباً مني أخذ نفس عميق، أحسست بهواء باردٍ يدخل إلى صدري فنظرت إليه في هلع، كانت الابتسامة ما تزال تعلو وجهه بينما يطلب مني تكرار الأمر مرة أخرى، فعلت ذلك وفي الثالثة شلت أعضائي تماماً واختفى الع، حتى قبل أن أغلق فمي، كما أخبروني بعد أن أفقت، أنني ظللت فاغراً فاهي حتى لحظة خروجي من غرفة العمليات.

عندما أفقت، ظننت أنني أخبرتهم الحقيقة، أثناء حالة الهذيان التي تصاحب حالات التخدير كما يشاع، إلا أنه يبدو أنني ظللت قابضاً على “السر”، ففكرت في سؤال الطبيبة إذا ما كانت الزائدة التي استأصلتها بها أي آثار لالتهاب، لكن خفت أن أهبها نظرةً تقول لي فيها أنها اكتشفت ألاعيبي، فلم أمنحها فرصة الفوز تلك، فتوجهت بنظري إلى أخي الأكبر الذي كان مرافقاً لي لأسأله إن كانت الزائدة التي استخرجوها من جسدي بها آثار التهاب، أجاب أنه لا يعرف، سألته أين هي الآن لألقي عليها نظرة، أجاب قائلاً إن قطة من قطط المستشفى خطفت ثم أكلت زائدتي الدودية، فلماذا فعلتِ ذلك أيتها القطة دون وجه حق، لأعيش في حيرة أبدية، ولا أدري إن كان هناك داعٍ لتلك العملية الجراحية أم لم يكن كل ذلك إلا رزقاً ساقه الله لك طعاماً من بعض جسدي، قبضت مقابلاً شهرين من النعيم والنجاة من المدرسة وجحيمها.

محمد أحمد الفاضل

كاتب وقاص من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى