ثمار

جدلية المركز والهامش هذا ليس ما عليها فحسب

فرغت يوم أمس مشاهدا معروضات قديمة على يوتيوب فإذا بي أتفاجأ بعنوان معروض لمجموعة الإحياء والتجديد يحمل اسم (نقد وتحليل أطروحات الهوية في السودان-جدلية المركز والهامش- مقدمها مقداد الهجان) شاهدت الفيديو بأكمله وبإمعان وتبين لي أنه يتحدث عن بعض من الجدلية ويتحدث عنها بعجالة أو ربما يريد من هذا الطرح تبيان أشياء بعينها وتشكيل تصورات للمستمعين والمشاهدين على ضوء حنكة سياسية وهو يذكر أيضا أنه قد تبناها شق من حزب المؤتمر السوداني وشق به لم يتبنها بعد وهلم من حيل الخطاب السياسي في السودان.

أما ما يعنيني بشدة إثارته لبعض النقاط في الجدلية قائلا من ضمن النقاط التي أثارها: إن جدلية المركز والهامش لها ثلاث فرضيات متمثلة في الثقافة المحلية (المسيحية) والثقافة العربية الإسلامية والثقافة الغربية، وبالتالي على الرغم من الخطأ الذي وقع به في عرض الفرضيات لم يفندها البتة ولم يحاول النقد بها ولو بقليل فضلا عن ذلك وهو يقول لماذا الثقافة المسيحية هي الأصيلة أو المحلية فبالإمكان أن تكون العربية الإسلامية هي المحلية دونما يصدع بأي حجج على قوله[1].

فمباشرة يواصل الهجان خطابه مثيرا التعبيرات الفيزيائية التي صدع بها دكتور أبكر آدم إسماعيل الحمل، الإشعاع والتوصيل معبرا عنها مقداد الهجان بأنها فيزيائية[2]. حتى واصل في خطابه مثيرا أن الجدل بطبيعته مستمر لا يمكن هدمه فلماذا القول بهدم جدلية المركز والهامش يا دعاة الجدلية؟ [3]. فبنهاية خطابه يقول ماذا تقدمون يا دعاة التحليل الثقافي من حلول، هل منظور الوحدة في التنوع الذي يستخدمه أي شخص يريد الخروج من ورطة إشكال الهوية ويضيف الهجان أيضا أننا في مدارس التحليل الثقافي صدعنا بحل جديد وصفه بالسودانوعروبية[4].

  مع كامل الود والاحترام لهذا الشخص فيما أثاره باعتبار أن هذه هي طبيعة الفضاءات السياسية، الفكرية والمعرفية التي تبدو من خلالها النقاشات الحججية الصرفة حتى مطاف الإقناع، وبالتالي بدءا بماهية الجدلية بشكل عام هي عبارة عن منهج تحليلي ضمن مناهج التحليل الثقافي الذي تعود جذور نشأته بالسبعينيات ابتداءً بالإنجليز في بريطانيا إلى أن بلغ ذروته في أمريكا بواسطة فلاسفة نيرين تحت مسمى عريض لهم بفلاسفة الدراسات الثقافية ومنهم كريزويل، روبرت وشيلز، جونسون… فمن خلال انتصار هذه الدراسات الثقافية في الميادين السياسية والفكرية بدأت مدارس في السودان تتبنى هذه الدراسات وعلى رأسها تنظيم مؤتمر الطلاب المستقلين وهو الذي خرج مفكر هذه الجدلية –د. أبكر آدم إسماعيل محللا بهذه الجدلية إشكال الهوية في السودان باستخدام ثلاث فرضيات وهي التعدد الثقافي والتفاوت التاريخي لهذه المجتمعات والثانية سطو مجموعة من هذه المجموعات على رصيفاتها بفعل السلطة والأخيرة وجود حقل الكلية المتمثل في الدولة الحديثة التي أتى بها المستعمر ومن هذا أصبح الجدل بين مركز إسلاموعروبي وهامش زنجي، مسيحي وعموم باقي الثقافات في السودان وبالتالي استمرارية الصراع حتى الآن وهذه النقطة الأولى التي أثارها الهجان المتعلقة بفرضيات الجدلية[1]. فمواصلة لما أثاره في النقطة الثانية التي يتحدث بها عن استخدام دكتور أبكر للعبارات الفيزيائية فنعم ما في ذلك شك بصدد حجة عدم الخلط المعرفي بين العلوم الطبيعية من جانب والإنسانية والاجتماعية من جانب آخر كما يفيدنا بذلك المشروع الغرامشوي إزاء خلط المراكسة بينهم فيما يخص قوانين الجدل الهيغلي أو المادية الجدلية بالواقع الاجتماعي والعلوم الاجتماعية التي تدرس هذا الأخير، فليس د. أبكر خلط هذا بذاك فحسب، وإنما استخدم هذه العبارات من الباب الاستعاري اللفظي وليس الاصطلاح (الفلسفي) وقام د. أبكر هذا في هامش الصفحة 22 بتبيان هذا الأمر تجنبا لسوء الفهم للقراء والفاحصين[2]. فمواصلة للنقطة الثالثة التي أثارها مقداد الهجان المتعلقة باستمرارية الجدل وليس انقطاعه فهو يتساءل كيفما يتم الهدم؟ وأنا سوف أجيب بنعم فيما يخص استمرار الجدل وليس انقطاعه وهذا يعود لمفهوم الجدل عينه أنه الديالوك أي الحوار والتفاعل المستمر ولكن تسمية هذا المنهج بالجدلية هو ينتمي لسياق التحليل وليس التركيب بالتعبير الكانطوي، بمعنى السياق المجرد وليس العملي بالتعبير الأرسطي وفي هذا المنحى يفيدنا كلود ليفي ستراوس بأن الجدل فلسفيا تحليلي وليس العكس، وبالتالي في وصف د. أبكر للواقع العملي بأنه جدلي وأن صراع المركز والهامش يجب أن يهدم (بضم الياء)، هو يقصد في الوقت عينه هد معايير الجدل القديمة وليس هدم الجدل بمعناه الفلسفي الصرف وعلى ضوء هذا يقول د. أبكر آدم إسماعيل في جدلية المركز والهامش- الصفحة 16 الجدل هو قانون الصراع الذي ينشأ بين المتناقضات نتيجة لوجودها داخل حقل كلية يشترط تواجدها وتطورها داخله. حيث لا يمكن حل هذا التناقض إلا بتغيير يحدث بين الطرفين، لإيجاد علاقات جديدة تستوفي شروط الوجود داخل حقل الكلية لتتكون وحدات جديدة تدخل تلقائيا في علاقة جدلية جديدة التطور وهكذا.. بمعنى آخر ما يقصده د. أبكر هدم المعايير القديمة المعايير الإسلاموعروبية التي يكمن اصطلاحها في مشروع المفكر المغربي د. محمد عابد الجابري في سلسة نقد العقل العربي تكوين العقل.. بنية العقل.. العقل الأخلاقي.. والعقل السياسي العربي بدراسة متقدمة يتحدث في سياق تحليلي عن النظم المعرفية للعقل العربي المتمثلة في البيان والبرهان والعرفان وسياقا تركيبيا عن المحددات والتجليات للعقل العربي بثلاثية العقيدة، القبيلة والغنيمة. وبالتالي سوف يستمر الجدل كما تحدثنا قبلا ولكن بمعايير جديدة لأن الدولة بمعناها الحديث هي مركزية بطبيعتها حتى وإن لم تكن تحمل معها المعايير سالفة الذكر[3]. وفي آخر حديث الهجان يتساءل عن حلولنا لإشكال الهوية ويقول هل الوحدة في التنوع؟ ثم يضيف بقوله إننا نتبنى السودانوعروبية!

عفوا الأخ في مجموعة الإحياء والتجديد مقداد الهجان خطاب الهوية الذي ينادي بالسودانوعروبية هو خطاب تم تبنيه بواسطة تيار عروبي بجامعة الخرطوم وكان على رأسه البروفيسور عبدالله علي إبراهيم منادين بسودانوعروبية الهوية في السودان وقتما نادت من قبلهم تيارات تنادي بخطاب العروبة وآخر بخطاب الأفريقانية وآخر أيضا بخطاب أفروعروبي، وقتها كانت مدرسة مؤتمر الطلاب المستقلين في بداية النشأة وتنادي بالتحليل قبل الحل أي تحليل إشكال الهوية ومن الحل فشرع وقتذاك د. محمد جلال أحمد هاشم الصديق في مؤتمر الطلاب المستقلين برؤية تحليلية ومشروع جديد يخاطب جذور الأزمة في السودان ابتداءً ببحثه ولو بأوراق في مركز الدراسات والبحوث الأفريقية والآسيوية فلم يحظ إلا بورقة واحدة تنقذ موقف سودانيين اغتربوا عن هويتهم في سبيل الثروة والسلطة.

وبعد كل هذا ربما قد لا أكون أوفيت بما كل ما تجيب به دراسات مشروع السودان الجديد سأجيب بالإيجاب فيما يخص تساؤل الوحدة في التنوع، متبنين هذا المنظور مستغنين عن منظور بوتقة الانصهار الذي سلب السودانيين هويتهم بفعل سياسات الأسلمة والاستعراب من الاستعمار التركي المصري وقبله منذ التركية الأولى كما يصفها ألكساندر التي أتى بها السلطان سليم الثاني بلاد النوبة.

 

7-فبراير 2021-الأبيض

زر الذهاب إلى الأعلى