غوايات

كأسا أخرى أيها الساقي

مقدمة للمجموعة القصصية : (مامدوت، ما يمكن حدوثه) للكاتب ياسين المك

كأسًا أخرى أيها الساقي

وَكَأسٍ شَرِبتُ عَلى لَذَّة

وَأُخرى تَداوَيتُ مِنها بِها

لِكَي يَعلَمَ الناسُ أَنّي اِمرُؤ

أَتَيتُ المَعيشَةَ مِن بابِها

-الأعشى

إن كنا مثلَ أعشى قيس، نشربُ كأسَ حواسنا بالتذاذٍ عميمٍ وبالغ، قطرةً فقطرة، ولحظةً فلحظة؛ ثم نتداوى منها بالخيال؛ فإن هذه المجموعة القصصية لـ يس المك جديرة بأن تكون كأسنا الأخرى، المُسكِرة والموقظة في آن.

يغمرنا شعورٌ هائلٌ بالجسدِ وحضوره ساعةَ قراءتنا لهذه القصص؛ ففيها نلتقي بالجسد، والوعي به منذ تخلقهِ في الأرحام، ولحظاتُ إدراكه الأولى وتعرفه على العالم، ومسراتهِ وتحليقه في الحب، وآلامه حين يصبحُ عبئًا لا يحتمل، في سطوعه وتورده لما يتحد بالطبيعة ويكون جزءًا منها وامتدادًا لها، وفي بلبلةِ حواسه وتشوشها إثر اتصاله بالوسائط الحديثة، ثم في مواته وتلاشيه.

هذه إذن دعوةٌ لإعادة اكتشاف الجسد واستبداله؛ لملاحظة الأثر الذي تحدثه بنا تجاربٌ بعينها واختراعات. أجسادٌ عديدة، أو جسدٌ واحد، هو جسد مامدوت -الشخصية الرئيسة في غالب العمل- يكون مختبرًا لشتى الانفعالات والأحاسيس في العالمِ ممكن الحدوث والمقترح من قبل المؤلف.

ينقسم العمل إلى ثلاثة فصول، يُستهل كل منها بمقطعٍ حواري مبهمٍ ورمزي ويختتم برسالة لابنة متخيلة، ويتضمن كل فصلٍ تسعَ قصص تُكوِن مزاجه الخاص؛ فالفصلُ الأول يحوي في مجمله قصصًا ذات طابع واقعي، حكايا إنسانية، فيما تسود الغرابة ولحظات التحول العجيبة على نصوص الثاني، أما الفصل الثالث فوسمته أربعة قصص تحاول فحص علاقتنا بالصورة والعوالم الافتراضية بميسمها.

تشتغل مجموعة ” مامدوت ، ما يمكن حدوثه” على موضوعاتٍ بعينها تتعدد طرق مقاربتها، فالعالم المزدوج والمنقسم إلى ثنائيات متصارعة كـ”الوعي/الجسد” نجده في حالاتٍ كالعلاقة الجدلية بين الكاتب وشخوصه الخيالية في قصة “المطرود”، ففيها يطرح سؤال من هو الأحق بالحكي؟ المؤلف أم الشخصية الخيالية؟ وتصطرع وجهات نظرهما في حركة تراجعية تنتهي بأن تقتل الشخصية كاتبها. الميتا سرد يمثل أيضًا في قصص أخرى مثل”ميرا” و “الرجل النادر المنعزل”، أي في المنطقة المبهمة والغامضة التي تصل الواقع بالخيال، في محاولة البحث عن الإلهام في شخصٍ آخر، مغاير للكاتب، يشاركه حياته وتجاربه لكنه ينفرد بفعل الكتابة.

 وتتجلى الثنائية في حالات نفسية وذهنية كالفصام والاستيهام في “الخروج من الغرفة” و “كلمة وحرف” و “ماوراء الذهول”.

محاولة الإحاطة بالموت، بتلك اللحظة العصية على الإدراك جاءت في عدة نصوص: في الرسالتين الأولى والثالثة، و “بلدة الحصان”، ولم يتم تعريفه كنهاية وغياب تام للوعي ولكن كاستمرارٍ وتحولٍ لشكل آخر من أشكال الحياة.

التجريب والابتكار تمثل في الموضوعات والعوالم المتخيلة المألوفة والمقتحمة من قبل حدث عجيب، فتذويت الأشياء وأجزاء معينة من الجسد ومنحها صوتًا ووعيًا، أي في إرباك مركزية الوعي والسرد، يقابلنا في قصص كـ”روتي: الضرس الثالث”، “البوال” وفيها تروي القصة محفظة نقود.

القصص التي حاولت تتبع وفحص علاقتنا بالصورة والعوالم الافتراضية وليدة التكنولوجيا هي الأكثر فرادةً وطموحًا، ففيها نلتقي بشخصياتٍ برغائب مستغربة، غريبة عن المكان، على وشك أن تفقد عقلها، مهووسة بالتكنولوجيا وصرعى للصورة ، ففي “السيد فَك” نرى لحظات مستهلكة وفانية في عوالم الوسائط الحديثة، خاضعة لرتابتها وتكرارها، بينما يحاول بطل “الليالي السبع” التحرر من قيد التقنية إثر غيابها المفاجئ، أما “سجان اللحظات: جانب آخر للفوتوغراف” فتمثل نهاية من أسرته التصاوير، ففيها يحبس مامدوت اللحظات وينتهي بأن يصير حبيسًا لها، غير قادرٍ على إزاحة عينيه عن الصورة، تمتصه نظرةً فنظرةً حتى يستحيل تمثالاً/صورة، وينتهي قتيلًا لها. تذكرنا هذه القصة بأخرى لبورخيس “ذاكرة فونيس الحية” وفيها ينتهي البطل إلى ذات المصير، وإن كان السبب أنه صريع ذاكرته الحية، التي لا تغفل شيئا بينما صاحبنا هذا صريع الصورة.

كُتِبت نصوص هذه المجموعة في فترات متباعدة امتدت لخمس أو ست سنوات، ومثل كل منها توثيقًا وتدوينًا لتغيرات طالت نظرة مؤلفها للوعي والوجود، ويمكن للقارئ أن يلاحظ تلك التحولات في مواضعها، سواء ما تعلق منها بموضوعات السرد أو بشكله وكيفيته. هذه القصص وإن لم تخضع في ترتيبها وعرضها لنظام زمني يعنى بتاريخ كتابتها، إلا أن هنالك وحدة وتصور شامل يضمانها، سواء تعلقت تلك الوحدة بشخصية مامدوت كما أسلفنا، أو بالموضوعات المطروقة في كل فصل، أو حتى تلك الخاصة بالصلة بين رمزية الغلاف (الذي استلهم المؤلف تصميمه من متتالية فيبوناتشي، مرة في واجهته ومرة في خلفيته بشكل أكبر ومقلوب) والأمثولة المحكية في بداية الكتاب ونهايته، فتلك الأمثولة هي أصدق تعبير ووصف لتجربة قراءة كتابات يس المك، حيث تحاكي جسرًا يقودنا لبلاد الأعاجيب، ودوامةً لا تنتهي تتقاذفنا وتلقي بنا إلى عالم أكثر جِدة ووعيٍ به أدقّ حِدة.

 ماذا؛ هل علي أن أصمت؟ فلتشربوا إذن.

زر الذهاب إلى الأعلى