غوايات

ذَاكِرة الرِّيفْ “1”

وَافقت قبل أيام قلائِل  ذِكرى رحِيل محمد الحسَّن سِالم حِميد التاسِعة ، غَيبه الرَّدَى كعادتِه ، يأخُذ الأحِبه الطَّيبِين دُونَما إنذَار  كما وصفه محمد أحمد الحِبيب في أبياتِه : “يَموتو الطَّيبِين ويفِضلو في هذا الزَّمان أرزالو ”  ، غَاب حِميد جَسداً وبقيت رُوحه ، غَاب دُونما أن تشبه قصائِده الأخِيرة قَصائِد الرَاحِلين – إذ -إختلَطت فِيها الطُمأنِينة بالحُب في مُرَّكب شِعري فَرِيد .

تَّعدد مُهندِسو مِعمَارية الشِّعر العَامِي المنظُوم بلَهجة مُعينة ، و التي يُعد حِميد أحد مُهندِسيهَا ؛لكِنه تَفرَّد بنهجٍ خَاص وخالِص ، مُتسمٍ بأداء دَلالي فَرِيد  ، مُستَصحِباً مَعه الصور المَشهدِية المُتجرِدة رَمزياً -أساساً لبِنائِه الشِّعري – فهو الشاعِر والمُغنِي والقَاص والمُخرِج السِينيمَائي في آن واحِد .

سَّطر حِميد من خِلال أشعَاره العَدِيد من المَلاحِم ، إمتَزج فيها العاطِفي بالسِياسِي وإزدَوج فِيها السَّرد المَدِيني بمَلاحِم الرِّيف وحِقوله الحَصاد . تَميزت عينُ يَنبُوع سَرد  حِميد و شِعره الحِكائِي بالصَّفاء و النَّقاء ، كما تَرك مسَاحة لِلمُتلقِي بطرحِه للاستِفهامَات -بشِقيها التَّقريرِي والإنكَاري -صَانِعاً بذلِك مسَاحةً فَنية تُمكِن المُتلقِي من المُشاركَة برِيشة خَياله في رَسم اللوحة الشِعرِية الفَنية  و ذلك بالإجَابة على الإستِفهامَات التي تَّخلَلت النصُوصْ .

عِندما تَقرأُ حِميد و تَّستحضِره في أشعَاره فإنك تَّقع بَين مِطرقَة جَزالَة و بَساطَّة المُفردَة و سِندَان قُوتِها و تَأثِيرهَا و وَقعِها في النَفس ، قَصائِده بَسِيطة الكَلمة مُعبرة المَدلول ، قَوية المَعنى مُمتَلئه تكادُ تفِيض عِنفُوانا .

شِعرُ حِميد حَافل بالعِبر والدروسِ و الحِكم ، إنتَقاها من حَياته وظُروفِها المُحِيطة ، فَجرُ ضَميره وجُزافِيته كَما شَّجر الصَّبار في الصَحارى والغفَاري ، صَابِراً صَامِداً مُنتصِراً؛ بالرُّغم مِن فَحِيح زَحف أجهزة السُلطة الصَّحراوِي تِجاهه ، هي بجَبروتِها وهو بمَنتُوجِه الأدَبِي ، نَازل رُصَاص وسِياط عَذابِهم بصَدرٍ عَار و وَجه لَم يُساوِمْ قَطْ .

إحتَلت جَدلِية الصِراع بِين شَّرعِية أهل السُلطَة والسُلطَان حَيزاً خَاصاً من مَنتُوجِه ، دَّعاه إلى ذَلك إيثَارُ الذَّات في سبيل النُطق بقَضايا الكُدَّاح ، غَاب حِميد ولم يترِكْ فِينا وَرِيثَا . إرتَكز مشرُوعه الشِّعري على ركائِز كَثيرة سنستَقطِع مِنها القَليل على سبِيل المِثال لا الحَصر : اللَّه،الوَطن،الغَلابة و المَحبوبة ، إستَقطع لكُل احدٍ مِنهُم مسَاحة مُنفرِدة في قَصائِده .

كَان الوطنُ لدى حِميد هو السُودان ، جنوباً وشَمالاً شَرقاً وغَرباً، السُودَان بتعدُدِ قبائِله ولهجَاتِها ولُغاتها المُختلفة وطقوسِها كذلك ، خَرج بالمُفردَّة من لَهجة العَشيرة وحيزِها الى رحَاب سَماوات الوَطن ، نابِذاً لبَطش الحربِ و دَاعياً للحُبِ والسِلمِ والتسامُح ، مُؤمِناً بأنَّ ما مِن أُمة نَهضَت بإرث غَيرِ الذي يخُصهَا  و الشَاهِد أن جُلَ الدول – التي نَهضَت – نَهضت عِندما تمسكَت بثقَافاتِها وإرثَّها الحضَاري في كَافه الاصعِدة الحَياتِية . قَصائِد حِميد  في هذا الصَّدد كُثُر مِنها : ” سِت الدار ،بِت العَرب النُوبية، مَنادِيل من كَفن المسِيح ،غِنيوة على الهَامِش، سُوقني مَعاك يا حمام، ما طَال في بحَرك في مِي  ” .

أما الدِّين فإستَخدم حِميد في شِعره بَصره وبصِيرته وفِطرته وسَرِيرته السَّليمة ، في هدُوء شَديد وبشِعر بسِيط – غَير مشحُون رِياء -دَاعِياً للمَكارِم ، حَاثَاً على الفضِيلة، زَاهِداً في الدُنيا ومتَاعِها ،نابِذاً إستِغلال الدِين في كَسبِ قُلوب البُسَطاء ، كذلك أيضاً أسلَمة خِطاب السُلطة بتكفِير من حَق لهُم ومن لم يحِقْ لهُم ؛ بتنصِيب اي شَخص نفسه كسُلطة فَوقِية تُوجَد لديه قوائِم أعمال البَشر ، يُكفِر من يَشاء ويُزهِق رُوح من يَشاء ويُحلِل ما يَشاء ويُحرِّم ما يَشاء ، حسبمَا تَهوى نفُسه و تسِير مصالِحه الدُنيوِية- فُقهَاء السُلطان ومن غَيرهم -أما الدِّين فَبرِئ منهم بَراءة الذِئب من دمِ يُوسُف ابن يعقُوب ، الدِّين حاله من الفَردانِية ، عَلاقة بين الانسان وربه ، كُلٌ يَعبد اللَّه و يتقَرب اليه ليسَ بالضرُورة ظَاهِرا ، فالله ولِيُ السرائِر  ويعلمُ ما تُخفِي الصِّدور ، إستخدَم حِميد كلماتِه ناقِداً ومُنتقِداً إياهُم ، فعندما حاقَت بهم الهزِيمة و النَدامَة نازَلوه بتِرسَانة الدَّولة ونظامها البِطرياركِي  مُمعِنين في إثباتِ خَواءهم و فَراغ جوفِهم و أفئدتِهم إذ هي أجوفُ من فؤادِ ام مُوسى _نِظام الحَركة الاسلامِية أعنِي والإسلام مِنها بَرئ _والغُبن كبِير والأمرُ جَلل والكَلمات قلائِل ، وفي هذا تَجئ قصائِده :” الحِسين و الضو وجَهجه التَّساب  والجَابرية  ” شَاهِدهً على ما قَدمه في هذا المَنحى .

أما الغَلابة فعَبر عنهُم بلِسان حَاله ومَقالِه و لم تَخلُ قصِيدة قَطْ من قصائِدة مِنهُم  /مِنا/ مِني/ مِنكُم/ مِنكُنَّ ،فهو شاعِر العامة في المقَام الاولِ والاخِير ، كانُوا /كُنا /كُنتنَّ / هَمه الشاغِل ، هذه الفئة وكُل من إندرَج تحتَ جُلبابِها عُمالاً ، زُراعاً أم طُلاباً كانوا وغَيرهم  ، كَتب فيهم وسَّطر الملاحِم كما بَرع فِيها ، ومِنها مِثالاً لا حَصرا : ” عم عَبد الرحيم ، يا اُمنا،سِت الدار ، بِسم السَّلام نَبدأ ، بِنيات الجَرف، قاسِم أمين ”  وهُنَّ كُثُر .

أما سيِدات البِلاد  _السَادِرات في غيهِنَّ لَطافَهً وتَجبُرا _ فأفردَ لَهُنَّ مسَاحة خاصَة و كَناهُنَّ برموز خَاصة على سبِيل المِثال منها   ” النَخلة ”  بقرِينةِ العَظمة  و علو المَكانة في كُلِّ ، فهي الجَدة والاُم والزَّوجَة و المَحبوبَة و الاُخت ، يَجئُ الغَّزل مُتخلِلاً قصائِدة عَادة لكنه أفرَد له مسَاحات خاصَة ايضاً مِنها :” طَّيبة ، حوش الرَّبيع، الخَدير الشَّال وبدَّع  ، مصابِيح السَما التَامنة وطَشِيش ” .

عُموماً ، حِميد لم يكُنْ شاعِراً فَقط ، و إنمَا مَشروعاً إنسانِياً كامِل الدَّسمِ ، بحث عن المَعنى وقِيمه الوُجود  من خِلال قَصائِدة ، كما أثرَى سَاحة الادبِ  عن طريقِ مُفردتِه الفرِيدة وجَزالة كلِماتِه ،كان الرَّاحِل بسِيط الشَّخص ، قَوِيُ الشَّخصية و صَاحِ الضَّمِير ، والحَديثُ ذُو شُجُون.

مَارِس ، 2021م، الخرطُوم .

محمد الحسَّن الهَامُوش

كاتب من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى