غوايات

زمّلوني دثّروني

كانت السماء صافية كقلادة والدها المنفي، صوت مترو الأنفاق يؤرقها وكل تلك الوجوه الحزينة. سيدات جميلات بلا وجه وبلا خارطة. طفلٌ يصرخ من الجوع. بائعات وبائعون يتجولون في الانحاء. كان صمته رهيباً ولكن ضجة دواخله تمنعه من التركيز فتراه سارحاً في عوالم الهوى والغناء والشعر والرقص. صوت جده مازال يناديه كل ساعة. سمع تلك الآيات [وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4)].
كان جده يحبه حباً جما؛ يتجولان ليلاً ونهاراً في تلك الحارة الضيقة. جلسا تحت شجرة باكية وقال له جده: أوصيك يا بني بالصدق والكرامة، فمن عاش بدونهما تذوق طعم الذل والندامة.
أما هي فكانت ترقب وجوه الركاب بدقةٍ؛ كلٌ سارح في عوالمه. كانت تحبه حبا جما بعد أن كبرت على الفقدان. لم تكُ تعي حقيقة الموت. كان الموت هو الكابوس الذي يلاحقها في كل خطوة. بعد سنوات من السفر والغربة والتدخين والرقص والعمل والبكاء والضحك.
لماذا يبدو الماضي صعباً، دائماً؟ لماذا الحاضر مفعم بالحكايا والرغبات؟!
لماذا يساورنا الاكتئاب ونفقد كل شيء في جزء من الثانية. الساعات تمر كأنها سكاكين تطعن قلوبنا كل لحظة. لماذا نحن هنا وهناك.
أيتها المجدلية اسالك بكل اسمٍ هو لكِ
أسألكِ بعيسى المسيح
صليتُ مثله الالاف المرات ولم تفارقني الخطايا. بكيتُ مثل يعقوب وكنت أعيش في بئر يوسف آلاف السنين..
أنا العذراء في وسط الخراب
أنا المكنون والسطحي والمتسوِّل
غنيةٌ هي الحياة وأنا الفقيرة إليها

نزوة الشعر تراودني كل ليلة مع أني فقدت الحقيبة وأوراقي القديمة وشهادة الميلاد.
القهوة كل يوم تأتي بطعم السواد.
تبرأ الوجود من أفعالي فأنا الخطايا وأنا المبروكة.

يا حسين أتيتُ اليكَ اشكو هواني يا حسين، أذّنتُ بصوتٍ قوي ومبحوح في آن واحد.. قرأتُ مريم ويوسف وسمعتك عندما جاوبت سؤالي، كان صوتكَ يقولها لي: اذهبي في أمان الضياع.. اذهبي إلى الأشواك والأشواق، الحبُ أمامكِ ومن خلفك.
صليتُ وحيدةً وذهبتُ إلى عالم الأصوات. ثم كانت المذبحة التي قطعت كل اوردتي وشراييني، ملأت عيناي الدموع حين رأيت أبي وقت ذلك النزيف والدماء تلطخني وجسدي ذاكرة الأنين.
قالها بدموع وصمت وهو يرتدي جلبابه الأبيض وعمامته: لا تأتي الآن صغيرتي لم يحن الوقت. عرفت حينها أن للموت وقت وصوت وأن القيامة حق وأن المستقيم أعوج الظل كسيح.
كنت اقتات من فتات الذاكرة ومازالت الأصوات تناديني: توقفي هنا.. توقفي هنا لا تعبري ذلك النفق إنها نهاية الطريق.
صحوتُ من أحلامي وأنا ملطخة بالدماء.. دماء الخطيئة.
سمعت صوت أبي يناديني: ابنتي.. ابنتي لا تخافي، ستسامحينني حين تكبري وتتعلمي الغفران
من هم هؤلاء.. من هم العابرين، لماذا كل هذا الاغتراب والشكوى.. لم يعد للطعام نكهة الفجر..
الله أكبر.. الله أكبر
لا إله الا الله
كان الآذان عميقاً وكانت حقيبتي معلقة على باب المدرسة.. وكان الحارس يرقب ظلي.. اظهر واختفي.
أيتها المجدلية
أسألك بكل اسم هو لكِ
أسألك بجمال عيسى
يا يعقوب
أسألكَ بمحبة يوسف..
وغدر اخوته وليس الذئاب
سجود طويل وصلاة.. ثم بعدها صرخت وحدي وسط الضباب
زمّلوني دثّروني
زمّلوني دثّروني
إنني عارية، غارقة في الدماء وأعواد الثقاب. دفنت أحلامي ويوسف في الصحراء، وكان غزالٌ بريٌ واحةَ قلبي في تلك الصحراء القاحلة.
وضعت أحمر الشفاه وناديته:
يا غزال
أغثني أغثني
أين مرآتي يا غزال
كان وجهي ليس لي، وجسدي ليس لي، وكل التجاعيد ليست لي، فيا تري من أنا..
خرجت من رحم الماضي إلى الحاضر وكانت النهاية كما البداية.
تذكرتُ قول المعلم: من ينشد العدالة يجب أن يقصدها بأيدٍ نظيفة
نظرت إلى ثوبي ملطخ بالدماء
إني مسَّني الضرُ أغثني
أيتها المجدلية..
أيتها العذراء..
أناجيكِ بجمال المسيح
فكي عني القيود
دعيني أحلِّق في عوالم الحرية
دون أن أشم رائحة الموت
أحبكِ يا مجدلية
خذيني إليك
زمّلوني دثّروني

ايمان الصاوي

كاتبة من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى