السودان: انقلاب أخير أم ديكتاتوريةٌ جديدة؟
عدة منعطفات مرّت بها الثورة السودانيَّة منذ سقوط البشير في أبريل 2019، بدءاً بفضّ اعتصام القيادة العامّة، مروراً بتجربة شراكة العسكر والمدنيين، ثم انقلاب قائد الجيش رئيس اللجنة الأمنيَّة لنظام البشير الفريق أول عبدالفتاح البرهان على حلفائه المدنيين من قوى إعلان الحريَّة والتغيير، وصولاً إلى صعود الكيانات والأجسام الثوريَّة التي تسعى إلى تأسيس حكم ديمقراطي مدني بعيداً عن النادي السياسي القديم في السودان، أبرزها «لجان المقاومة في السودان»، المستندة على قواعدها في الأحياء والقرى والأرياف، التي ظلت منذ سقوط البشير، تعمل على تَمتِين بنيتها التنظيميَّة والنظريَّة المُنَاهِضة للانقلابات والحكم العسكري، من خلال مؤتمراتها القاعديَّة.
ومن خلال هذا الاستطلاع، نستعرض آراء عدد من الصحفيين وناشطي العمل السياسي والنقابي في السودان، حول الرؤى التي تسهم في الوصول إلى حكم مدني ديمقراطي، في ظل تعدد الجبهات والتحالفات السياسيَّة وحركة المد والجزر بينها، في محاولة لقراءة المشهد الذي ينشط فيه فاعلون كثر سواء أفي معسكر قائد الجيش وقواته وحلفائه في حركات الكفاح المسلحة وعناصر النظام السابق، أم في معسكر القوى المناهضة له، جذرية كانت أم باحثة عن تسوية ما، من دون أن ننسى الكيانات التي تقف على مسافات متفاوتة من المعسكرين مثل الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال بقيادة عبدالعزيز الحلو، وحركة جيش تحرير السودان بقيادة عبدالواحد محمد النور. كما يطرح الاستطلاع تساؤلاً حول ما يتم تداوله عن إمكانية توحيد المواثيق السياسيَّة في ميثاق واحد يُمثّل كل لجان المقاومة في السودان.
* بين التوحيد والتحجيم
يرى أحمد عصمت الناطق الرسمي باسم لجان مقاومة ولاية الخرطوم، أن المواثيق التي صدرت من لجان المقاومة «تعد أهم حدث في تاريخ السودان»، وذلك لكونها أسهمت في خلق القرار السياسي من أرياف ومدن السودان بشكل منفرد ومستقل، بعيداً عن مركزة القرار السياسي والاقتصادي، كما كان يحدث في الماضي، وأشار عصمت إلى أن عمليَّة توحيد المواثيق تمضي في اتجاه إنجاز تلك الوحدة، رغم العقبات التي تواجههم، وأبرزها التعطيل غير المباشر من قبل النخب السياسيَّة، ومحاولتها التأثير على المواثيق الصادرة، والحد من دمجها في ميثاق واحد يمثل السودان.
فيما تذهب الصحفيَّة رؤى عربي، إلى أن الصراع السياسي في هذه المرحلة سيُبنى على اختراق لجان المقاومة ومحاوله تحييدها، وفي حال عدم القدرة على ذلك، ستعمل الجهات المهادنة للعسكر في السودان، على تفكيك وتدمير لجان المقاومة احتذاء بنموذج التكتلات المرحليَّة كما حدث في تجمع المهنيين، وقوى الحريَّة والتغيير، لذلك فهي ترى أن توحيد لجان المقاومة يتم من خلال خلق مواثيق تجمع الناس، وإعلان سياسي واحد جامع، فيه الحد الأدنى والحد الأعلى من المطالب الجذريَّة التي قامت من أجلها ثورة ديسمبر المجيدة.
* فرز واصطفاف
في سياق آخر، يقول المهندس محمد محمود، المهتم بالعمل النقابي في السودان، إن «الثورة السودانيَّة أثبتت عمقها بما نراه من استمراريَّة وديمومة وإصرار من قبل الجماهير لأكثر من ثلاث سنوات»، منوهاً إلى أن من طبيعة الثورات أن تحدث فيها عمليات فرز وإعادة اصطفاف بين القوى الاجتماعيَّة المختلفة المتصارعة في المشهد، وأضاف موضحاً: «مثلاً شراكة الدم التي استمرت لعامين بين قوى الحريَّة والتغيير وطغمة جنرالات اللجنة الأمنيَّة لنظام الجبهة الإسلاميَّة القوميَّة شكلت عمليَّة فرز، اصطفت فيها قوى تريد الحفاظ على النظام وجهاز الدولة القديم، في مقابل القوى الثوريَّة القاعديَّة الحيَّة، لقطع الطريق على الثورة، وأتى انقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢٢ ليخلق حالة فرز جديدة، فهو من جانب تعبير عن أزمة قوى الشراكة وصراعها حول مواقع الطفيليين الجدد، مقابل القدامى المتحكمين في الموارد ونهبها، ومن جانب آخر هو تأكيد جديد على أزمة وانتهاء صلاحيَّة ومشروعيَّة النظام وجهاز الدولة القديم، وعقم مشروعه السياسي».
ويواصل: «التقطت القوى الثوريَّة القاعديَّة زمام المبادرة، وأضحت أكثر وعياً بمشروعها الثوري، فانطلقت في عمليَّة ديمقراطيَّة شعبيَّة قاعديَّة لإنتاج مواثيقها، وتشكيل قيادتها النابعة من وسطها، فهي أصبحت ترفض أن تكون رافعة تستخدمها النخب الانتهازيَّة للوصول لكراسي السلطة ثم التنكر لها ولمصالحها وأهدافها وغاياتها، حيث قدمت بعض مواثيق القوى الثوريَّة القاعديَّة نماذج جديدة لكيفيَّة بناء سلطة الشعب من القاعدة إلى أعلى، دون اللجوء لطرائق ومكائد النخب المتكررة منذ ١٩٥٦، كما قدمت رؤى أكثر وضوحاً حول نقل سلطات الدولة المركزيَّة إلى القواعد من أجل إتاحة مساحات أوسع للجماهير للممارسة الديمقراطيَّة والتحكم في الموارد وتوجيهها لتنمية المجتمعات المحليَّة».
وأضاف محمود: «كل ذلك ينبع من الرفض والقطيعة مع الطبيعة الاستخراجيَّة التي وسمت الدولة السودانيَّة الموروثة من المستعمر واقتصادها، أي أن سؤال استقلال القرار السياسي والاقتصادي السوداني أصبح قضيَّة مركزيَّة للقوى الثوريَّة القاعديَّة الحيَّة».
ويؤكد محمود أن الطريق ما زال طويلاً في سبيل التوحد حول ميثاق ثوري قاعدي جامع، وبناء التحالف الثوري القاعدي العريض بين القوى الاجتماعيَّة صاحبة المصلحة في التغيير، ولكنه ليس بعيد المنال، ويوضح ذلك بالقول: «أعتقد أن أكبر العقبات التي تجابه القوى الثوريَّة الحيَّة هي ضعف التنظيم وتراجعه في مناطق الإنتاج والعمل، كما أن التقدم الذي حدث في جبهة تنظيم القوى القاعديَّة في الريف ما زال غير كاف، والمرجو هو اهتمام القوى الثوريَّة بدفع وتعضيد وتشجيع تنظيم العاملين بأجر في كل مواقعهم والمجتمعات الريفيَّة بوتيرة أعلى وأسرع وأكثر تماسكاً في مقبل الأيام، فهذه هي القوى التي ستلعب الدور الأعظم لترجيح توازن القوى لمصلحة الثورة والتغيير الجذري في السودان، ودون ذلك ستظل قوى الثورة المضادة قادرة على التحكم في المشهد».
* قطع الطريق أمام المجلس العسكري
الكاتب والصحفي عبدالرحيم حمد النيل، يقول إن تاريخ السودان «هو تاريخ المجازر بامتياز، هو تاريخ الانقلابات الناجحة والفاشلة مجازاً بالطبع، فما من انقلاب عسكري على نظام ديمقراطي يمكن أن يوصف بالناجح أبداً».
ويذهب حمد النيل إلى أن كافة الأنظمة العسكريَّة السابقة في السودان «لجأت إلى التسويات والمصالحات بغرض تكتيكي محض، وليس لمصلحة عامة، فهي لا تريد إعادة الحق إلى أهله، فنميري ارتكب مجزرة الجزيرة أبا وأقام المصالحة الوطنيَّة ليتهرب من دفع الثمن، البشير ارتكب مجزرة سبتمبر وأطلق حوار الوثبة، مجلس برهان وحميدتي ارتكب مجزرة فض الاعتصام ليتهرب من العدالة، وسرعان ما تنصل من التسوية نفسها وقام بانقلاب ٢٥ أكتوبر».
لكن عبد الرحيم يرى أن شعار اللاءات الثلاث الذي أطلقته لجان المقاومة «يقطع طريق المجلس العسكري للإفلات من العقاب هذه المرة؛ وهذا هو الطريق الصحيح للمُضي إلى المستقبل: العدالة.
* ازالة وإزاحة كل مخلفات السودان القديم
من كاودا تحدث إلينا رئيس لجنة الاعلام والثقافة بمجلس التحرير القومي- الحركة الشعبية لتحرير السودان چاتيقو اموجا دلمان، الذي أوضح رؤية حركته بقوله: «نحن في الحركة الشعبية لتحرير السودان ننظر إلى الحراك الثوري للشعب السوداني باعتباره امتداداً طبيعياً لتراكمات الكفاح الثوري المسلح الذي انطلق منذ العام ١٩٨٣، بغرض إزالة وإزاحة كل مخلفات السودان القديم وتجفيف كل الامتيازات التاريخية للصفوة البورجوازية والقوى الرجعية التي ورثت الحكم والثروة من المستعمر الأبيض، وعززت وضعها الاقتصادي في السابق عن طريق تجارة الرق، وكذلك نعمل على إنهاء وإلى الأبد عهد الطغمة العسكرية التي تدفع بها الأحزاب إلى سدة الحكم كلما عجزت هذه الأحزاب من مواجهة استحقاقات الديمقراطية».
ويصف دلمان الحراك الذي ينتظم المشهد السياسي بالقول: «الحراك الثوري الحالي هو جزء من هذه الثورة المستمرة التي ستصل حتماً إلى نهاياتها بتغيير بنية الحكم وإعادة هيكلة المؤسسة العسكرية وإصلاح المنظومة الأمنية وتأسيس الدولة السودانية على أسس جديدة وعقد اجتماعي قائم على مبادئ فوق الدستور، وكل ذلك يتم بعد مخاطبة جذور الأزمة السودانية، ومعالجة تداعياتها وآثارها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والمحاسبة التاريخية لمرتكبي الجرائم».
وأضاف دلمان بأن انقلاب ٢٥ أكتوبر فشل باعتراف الانقلابيين أنفسهم، مؤكداً أن «السودان لن يعود كما كان في السابق وكل الظواهر غير الديمقراطية ستزول حتماً بفعل الحراك الثوري المستمر ووعي الشعب السوداني»، وشدد على أن «الانقلاب ميز الصفوف وكشف زيف مدعي الثورة، والشارع الآن حدد أعداءه الحقيقيين والمحتملين وكذلك أصدقاءه الحقيقيين والمحتملين».
وحول سؤالنا حول المواثيق الصادرة من لجان المقاومة ذكر دلمان: «نحن في الحركة الشعبية ندعم لجان المقاومة باعتبارها فصيلاً ثورياً تقدمياً منحازاً إلى قضايا الجماهير ومنسجماً مع تطلعاته وصادقاً في الدفاع عن آماله ومؤمناً بحتمية التغيير والنصر الأكيد، لذا فإن وحدة اللجان الفكرية وتأسيس ميثاق واحد لها، أمر ندعمه ونراه ضرورياً لمواجهة تحديات المرحلة القادمة».
وفي السياق، ذكر وزير الصناعة الأسبق في فترة الحكومة الانتقالية مدني عباس مدني أن «السمات الواضحة في تعدد الجيوش وكذلك التعدد في المعسكر المنادي بالتحول الديمقراطي، التي تعد من أكبر المشاكل التي تؤدي إلى عدم القدرة على خلق إطار تنسيقي يؤدي إلى إسقاط السلطة العسكرية».
ويواصل: «رغم اتفاق السودانيين العام على الوصول إلى قوى مقاومة للانقلاب، ولكن هناك صعوبة في ذلك بسبب غياب الثقة، نتيجة تجربة السنوات الماضية، التي حدث فيها إخفاق سياسي وتنفيذي أسهم في إضعاف ثقة لجان المقاومة في مجمل النادي السياسي السوداني، وأداء النخب السياسية خلال الفترة الانتقالية، وتحميلها المسؤولية بأنها أحد الأسباب في حدوث الانقلاب العسكري».
*إجراءات بناء الثقة
وأوضح مدني أن هناك إجراءات يمكن أن تسهم في توحيد الشارع المقاوم للانقلاب، وأولها «في حال بناء تحالف سياسي يجب أن يتم الأخذ بالاعتبار كشرط أساسي كافة مواثيق لجان المقاومة، التي على اختلافاتها حملت سمات أساسية تتعلق بوجود المؤسسة العسكرية في الحكم، وقضايا الانتقال الديمقراطي، والتأسيس، فهذه تعد أولى خطوات بناء الثقة، لأن العملية التي تم بها بناء المواثيق عملية كبيرة ومهمة، ويجب عدم الاستخفاف بها، وما أتت به من قيم، مع التأكيد كذلك على أهمية الحكم المحلي وكيفية الاستفادة من المشاركة الكبيرة من المجموعات القاعدية التي تسهم في تكوين مجلس تشريعي يُعبر عن الوجود الثوري في الشارع السوداني».
* توحيد مواثيق لجان المقاومة
وحول توحيد المواثيق، ذكر مدني: «أهم الأسباب التي تعمل على تعويق توحيد مواثيق لجان المقاومة، هو انتقال الصراع السياسي إلى داخلها عبر الكوادر الحزبية للتنظيمات والأحزاب السياسية، وهذه مسألة خطيرة يجب التعامل معها بحذر، وذلك لأن لجان المقاومة حالياً تمثل الجهة الوحيدة التي تنازل الانقلابيين، لذا يجب أن تبتعد كافة القوى السياسية من محاولة السيطرة على اللجان، حتى لا تكرر ما حدث في تجمع المهنيين السودانيين على سبيل المثال، بالانقسام على أسس سياسية، لذا فإن إبعاد اللجان عن مسألة الاستقطاب السياسي سيساعد في عملية توحيد مواثيق لجان المقاومة».
* حراك لا يهدأ
لقي ما لا يقل عن 116 شخصاً مصرعهم وأُصيب أكثر من خمسة آلاف ويُعتقل المئات في كل تظاهرة أو «مليونيَّة» يتعرضون للتعذيب والاغتصاب والاتهامات الجنائيَّة وفقاً لإحصاءات منظمة حاضرين ولجنة أطباء السودان المركزية منذ انقلاب 25 أكتوبر، وعلى الرغم من ذلك لايزال السودانيون يواصلون الحراك الجماهيري ضد سلطة قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، فيما يعبر عن رغبة قوية في التغيير الكلي والسعي لبناء دولة مدنيَّة تنادي بها شعارات المتظاهرين بلا كلل.