ثمار

مزيداً من الهندسة يا بورخيس

إذا قلتُ المُحالَ رفعتُ صوتي
وإن قُلتُ اليقينَ أطلتُ همسي

-أبو العلاء المعري

ومقابلة المستحيل باليقين بديعة، فالمألوف أن يقابله الممكن، وبيت المعري هذا يشير إلى أن كل ما هو حادث حقا في الحاضر أو الماضي أو المستقبل أمر يقيني، أي عقلاني وخاضع لمنطق كلّيّ، ولذا يحاول في شعره ورسائله النثرية أن يعقلن ماضي التراث العربي والإسلامي[i]، باستبعاد المرويات والأقوال غير المقبولة عند العقل، فصوته الهامس والمتضائل عبر الألاعيب اللفظية والمجازات والاستطرادات هو الغالب في أعماله، بينما علو المحال نادر وشحيح. وعلى النقيض يقف بورخيس، فعنده، أي في سياق الفنتازيا، يُمنح المستحيل شيئا من صِفاتِ الممكن، أو العكس يُمنح الممكن شيئا من صفات المستحيل، والأمران سيان.
إن العمى في القرن الرابع الهجري ليس مشابها للعمى في القرن العشرين الميلادي، فالأخير يجيء بعد اختراع الكاميرا وشيوع الفنون البصرية، أي أنه عمىً مضاعف للوهلة الأولى، لكن الأمر غيرُ ذلك.
في كتابه (الكاتب وأشباحه) يحول إرنستو ساباتو، في عشر صفحات، فضائلَ بورخيس إلى نقائص، ينقم عليه صرامته في الأسلوب، ودقته في اللغة، وعنايته بالشكل القصصي، حد أن تحمل بعض قصصه أشكالا هندسية، أو تتخذ من مذاهب الفلسفة والمنطق منطلقا لبناء عالم خيالي. ببساطة يصفه بتبلد الشعور إزاء الحاضر الأرجنتيني، وفي عبارة مفرطة في الكليشيه يتخيله حبيسا في برج عاجي -وما أبراج العاج؟ لماذا ليس منزل أستريون؟ لتكون سخرية بورخيسية من بورخيس –
كان الأدب العربي القديم شعرا ونثرا، محظوظا لمروره عبر عمى المعري، وعلى آداب العالم كله وفلسفاته ونظرياته الرياضية والهندسية، أن تكون ممتنة لأنها اختُبِرت وفُحِصَت في ذهن أعمى آخر، هو بورخيس[ii].
كلا الكاتبين كانت أعمالهما الأدبية عن الأدب، ففي الستين من عمره، سيتخيل المعري رحلة إلى العالم الأخروي، وهناك سيحيل المجاز إلى رماد، عبر مقابلة مجازات الأقدمين في الحس -ذوقا وشما وإبصارا ولمسا وسمعا- بنعيمٍ متخيل، فيبطل عندها السحر، كما سليمان لما سئم فهم منطق الطير، وألاعيب الجِن والشياطين، وتوجيه الريح يمينا أو شمالا، فقال: لا جديد تحت الشمس.
تنبني قصة (الموت والبوصلة)[iii] التي يحيل إليها ساباتو في نقده لبورخيس، على تناظرات هندسية ورياضية، فالمجرم والمحقق يحملان الاسم ذاته، وإن كانا بلغتين مختلفتين، فكليهما يسمى (الأحمر) وهو لون منسي في ذاكرة الأعمى بورخيس، وحاضر في ذاكرة المعري.
يستدرج المجرمُ المحققَ، رغبة منه في الانتقام من حدث قديم، مستغلا ولع المحقق بالحقائق العقلانية والهندسية، فيخطط لسلسلة من الجرائم المتقنة، والتي تتم في أربعة أشهر متتالية، تحدث الجريمة الأولى مصادفة، أما الثانية فعقابا على تلك المصادفة، بينما لا تحدث الثالثة، فيما تكون الرابعة والأخيرة هي جريمة قتل المحقق نفسه.
عبر نسق رياضي قائم على التناظر في الأزمنة والأمكنة، تحدث الجرائم في نفس اليوم من الشهور الأربعة المتتالية، يخمن المحقق موقع الجريمة الرابعة ويذهب إليه، إلى قصرٍ معماره مشيد على التناظر والتقابل، وهو ما يريده بالضبط المجرم ليقضي عليه هناك، وهذا الازدواج يشير خفية لكون المحقق والمجرم هما شخص واحد.
إن جريمة هندسية كهذه تزعج ساباتو، لأنها وإن كانت قائمة على دافع نفسي، تتخذ نسقا غير قابل للتحقق في الواقع، والواقع المحتشد بالفوضى والمعاناة وانتفاء المعنى هو ما يهرب منه بورخيس كما يزعم إرنستو.
في رثائه لصديقه أبو حمزة الفقيه، يشيد أبو العلاء المعري قصيدة قائمة على التناقضات والتقابل في المعنى وعلى جمعِ لحظات لا تجتمع لتضادها، فالقصيدة تبتدئ بسكونٍ أبديّ مهيب، تتبدد فيه الأصوات وتفقد دلالاتها، ففي البيت الأول لا جدوى من البكاء أو الترنم، ثم هما شبيهان في البيت الثاني، وبعدها متمثلان في صوت حمامة تهدل، ولا يَبينُ إن كان هديلها بكاءً أم غناءً، وهذا الانتقال من اليقين المجرد بانعدام الجدوى القائم على فقدانِ الأصوات لأثرها عزاءً أو بعثا للأحزان إلى الشك والتردد في تمييز الأصوات، شبيه بحال النفسِ عند الاكتئاب، ففيه يشمل الذهن سكونٌ عميم، ويشعر المرء بأنه خالد، لا نتيجة للشعور بيأس مطبق بأن هذه الحال لن تنقضي، وإنما لمشابهة السكون العميم للأبد. ينتقل بعدها الشاعر لمنظر فسيح مليء بالقبور، متسائلا: أين قبور الأقدمين؟ محيلًا الأرضَ لجسد بشري لا يصِحُ المشي عليه بِخُيلاء، وجامعا بين لحظتين متناقضين: حياته وموته، فجسده نفسه سيصير أديما للأرض، وهذه القبور حملت في جوفها نقائض على تطاول الزمان، ودفن فيها رجال يحملون قيما متناقضة، حد أن القبور نفسها تضحك من هذه المفارقة. والجميع يعلم مشابهة معاني وصور هذه القصيدة لمعانٍ قالها المتنبي في مراثيه، ولكن هذا التشابه يشمل تبديلا وقلباً لتلك الصور والمعاني، فالمتنبي حين يصور سيرنا على الأرض كونه مشيا على رؤوس الأوائل، فهو هنا يعني سير التاريخ وصراع الأجيال المحتم، أما المعري ففي أبده لا داعٍ للقتال، إن أبياته هذه أيضا تحث على انعدام الحركة وتنتهي إلى السكون. يحل بعدها الليل. وصور القصيدة مشمولة بلونين لا غير: الأبيض والأسود. وسكونها يذكرني بسكون الصور في فيلم فرنسي في ستينيات القرن الماضي، فيلم يدعى Le jetee[iv]، وهو يحكي أيضا حالا ذهنية ونفسية شبيهة بحال قائل هذه القصيدة. يبصرُ الشاعرُ النجوم، فيصيبه التفكر فيها بالإرهاق، الكون غير مبالٍ بمعاناة البشر، ومستمر في المضي غير عابئ بهم، يذكرنا قوله: تعبٌ هي الحياة، بسلفه المتنبي والذي يفتتح إحدى قصائده بالتبرم من الزمن الكوني فيقول:
حتامَ نحنُ نُساري النجمَ في الظُلَمِ، وما سُراهُ على خُفٍ ولا قدمِ
مرهِقٌ هو الأبد، وللتحرر من سطوته يرضى الشاعر بالخضوع لزمنٍ ديني، زمن يحمل غاية لهذا الوجود البشري، فيقول إن الناس خُلقوا للبقاء لا الفناء، وذلك سيكون في الآخرة. يجد في هذا اليقين شيئاً من العزاء، ليعود من التأمل المحض لمصيبته الماثلة، ويستعيد شعوره بزمنه الحاضر، والحمائم التي كان صوتها غير مجدٍ ولا بين في بداية القصيدة، يطلب منها الآن أن تساعده على البكاء، وبعد البكاء تجيء مآثر الصديق المفتقد ومناقبه، وتنقضي القصيدة بأبيات في الحكمة المتشائمة:
بانَ أمْرُ الإلَهِ واختَلَفَ النّاسُ
فَداعٍ إلى ضَلالٍ وَهَادِ
والّذي حارَتِ البَرِيّةُ فِيهِ
حَيَوَانٌ مُسْتَحْدَثٌ مِن جَمادِ
واللّبيبُ اللّبيبُ مَنْ لَيسَ يَغْترُ
بِكُوْنٍ مَصيرُهُ للفَسادِ

 

الهوامش:

[i] يلتقي ابن القارح في جحيم المعري بتأبط شرا، فيسأله عن أبيات تنسب إليه يزعم فيها أنه كان ينكح الغيلان في الجاهلية، فيرد تأبط شرا مستنكرا حدوث ذلك: “لقد كنَّا في الجاهليَّة نتقوَّل ونتخرَّض، فما جاءك عنَّا ممّا ينكره المعقول فإنّه من الأكاذيب، والعالم كله على سجية واحدة، فالذي شاهده معد بن عدنان كالذي شاهد نُضاضة ولد آدم، والنُضاضة آخر ولد الرجل”

[ii] عندي محبة خاصة وخالصة للأدباء العميان؛ منذ بشار بن برد مرورا بالمعري وحتى آخر عين مطفئة تتخذ اللغة والمخيلة حيلة للإبصار، فقد بدأت أو أنني أحب أن أذكر بدايتي لفعل القراءة بإبصار أيام طه حسين في غرفة شبه مظلمة. أما بورخيس فقد لقيته صدفة وتحولت كتاباته عندي الى كتب مقدسة: في البدء تلك الدهشة والافتتان بالغموض واللا فهم ومن ثم العودة المستمرة والإحالة الدائمة إليه؛ بمضي الزمن أدركت أنه كان مقدرا لي أن أقرأه كأن -وفي هذا سذاجة لكنها مبررة لدي- كتبه اختارتني. ففي زمن الفرجة والاستعراض هذا والسلطة شبه المطلقة للصورة وسطوتها على الذكرى والحلم وخلودها الزائف يصير لمفهوم العمى موضع مركزي في وعي الفرد: العمى لا كعجز عن الرؤية فقط ولكن أيضا كعدم مقدرة على تحويل المرئي والمدرك مباشرة الى مفهوم، عن فقدان الإدراكات المباشرة لمعانيها وصلاتها وتحولات الواقع. هذه ومعان أخرى هي مفاهيم جوهرية وموضوعات مكررة لدى بورخيس. لطه حسين عزاء ساخر لعماه، قال إن المبصرين ليسوا أقل عمى منا لأن العالم غير متحقق بالنسبة لهم؛ أي أنهم يستخدمونه ولا يدركونه، كان هذا في سياق حديثه عن اختراع العربة أظن، وفي عالم كهذا لن ينقذنا سوى أولئك الذين تلاشى واقعهم وأعادوا اكتشاف إدراكاتهم وتشكيلها ببطء ومنحوا الزمان والمكان أبعادا جديدة. هللويا؛ إننا نبصر مرة أخرى.

[iii]  في العادة لا يحب البشر أن تروى لهم حبكة رواية أو فيلم، إنهم يألفون القصص المعيشة، ويفضلونها على تلك التي بوسعهم أن يطلعوا عليها لوحدهم -الآن تقاس عظمة العمل القصصي باستحالة اقتباسه وروايته، بالعجز عن نقله بطريقة أخرى عدا القراءة المباشرة- إن الإسناد والإحالة إلى صورة أو كتاب وأزمنتهما ممل وبلا جدوى إن قورن بحكاية مشهودة أو مسموعة، وربما ستحدث لهم ذات يوم. وإعادة حكْي ما هو مدون أمر ليس بالسهل، إنك تحاول ألاّ تنسى تفصيلة تفسد الحبكة، وتخشى أن تقدم تفسيرا خاطئا، والأهم أنك تحاول أن تبعث في خيال القارئ صورا لا تقل عن تلك التي صاغها الكاتب بإتقان واستخدم من أجل ذلك تصاريف وبنى معينة للجمل والزمن الذي تحيل إليه. ففي نهاية الأمر في القصة أكثر من مجرد الحبكة.

[iv] فيلم فرنسي قصير مكون من صور ساكنة وصوت يروي أحداث القصة، التي تجري في باريس بعد حرب متخيلة، صدر في العام 1962، للمخرج كريس مارك.

مأمون الجاك

كاتب من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى