حاتم الكناني: لا تثقلوا الشعر بالدرس*
كثيراً ما يدلف الشعراء إلى عوالم روح الحياة، إلى التابوهات البشرية. يطوف الشاعر بجسد العالم، كدماءٍ دافئة، كرعشة بعافية القصيدة، لعوالم هامدة ومتسطحة، يستكشف شعرية الحياة، ويصنع فضاءات واسعة المدارك، يروضها بدأب أنْ تتشتت، بجمالية اللغة المتماسكة، يطوف عبرها، فيخلق لوحةً موسيقية للحياة، بإيقاعٍ مُتَّزن، كمشدٍّ بسيط وغامض، تُكثِّفه مشاهد بيكاسو التصويرية.
الشاعر حاتم الكناني، يؤسس مع غيره، لشعرية دامغة تسترسل، وتحاول – عبر اللغة – لا أن تفسر العالم، ولكن؛ ربما لتعكس صورةً أكثر وضوحاً لمعالمه.
– في ما مضى، ربما كان الشاعر يمثل مرآة لما حولهِ، وتُعبِّرُ لغتُه عن الناس في محيطه، بعكس ما يحدث في وقتنا الراهن، فبأي مناص يوجه حاتم معجمه؟
أنا مرآتي؛ أكتب لأن لا شيء يحتوي هذا الفراغ الهائل الذي يحيط العالم بنظرته، أعيد الصرخة الأولى بالكتابة أو بجملة نبعت من لحظة الخواء الكامن بصندوق الاحتمالات. العالم أكثر من أن تحتمله حياة واحدة، والحياة أقصر من لمحة في عين الوجود، ولهذا أراني أكتب بوعيٍ شعريٍّ لا يخلو من أسئلة ما وراء الحياة، هكذا ظننتُ دائماً، تعلمين هذه الحياة قصيرة جداً، ويجب أن لا نحس بذلك لكي نعيش، وأنا أعتقد دائماً أن سؤال الحياة، وما وراءها، ظل ملتحماً بغايات الشعر، ومتشكلاً في الصراخ إزاء ضعفنا أمام المعرفة الكاملة بهذا العالم ومصيره/ مصيرنا. حينما يكتب شاعرٌ فإن لذلك – كما أعتقد – والاعتقاد وهم تبريري نصنعه أيضاً لأغراض العيش – أقول حينما يكتب شاعر قصيدة – فلنقل عمر الدوش مثلاً – فإن لذلك صدىً كونياً، لكني حين أكتب أعني نفسي، وربما أصاب ذلك أناساً مذهولين بالحياة.
وحين نرى بعين أخرى أكثر تفحُّصاً تاريخ الشعر – هذا إن كان له تاريخ واضح – سنجد أن الشعراء من أزمانٍ وأمكنةٍ مُختلفة هم في حقيقتهم إخوة، إخوة في الألم المشترك لحقيقة وجودنا في عالم فرض علينا أن نكتشف ناموسه، وأن نواجه مصير الإنسان ككل؛ ولذلك فإن الشعر، ولو بدا لنا منشغلاً باليومي والراهن، فإن كل شذرة منه تنبض بالسؤال المُتحيِّر: “ما الذي جاء بنا إلى هنا؟ وإلى أين نحن ذاهبون؟
وضع النداءات في كتابك وردة آدم، لكُلٍّ آلهة بوفق ما يقتضي النص، ما سر استجدائك المتواصل في تفاصيل الكتاب؟
أرى الشعر حالة من الرجاء المتواصل لأن ينفتح أفق المعرفة المُظلم في وجه هذا العمى المُسمَّى الأبد. أراني دائماً في حاجة لاكتشاف علائق لم يُنفَضْ عنها غبار الصمت، وأحدس أن أول أداة لغوية ابتكرها الإنسان النداء؛ ليخرج من عقله – تلك الغرفة الصغيرة المعزولة – لينفذ إلى غرف الآخرين، ولذلك أعتقد أننا – بني البشر – في حاجة دائماً لفضاء الاتصال الكامل بالكون ومعارفه، ولا يحدث ذلك إلا بهدم الجدران بين الغرف المجازية لعقل كُلٍّ مِنَّا، ولذا ربما كان الحُبُّ ضرورة لفهم العالم.
داخل كل وردة روح لجسد مختلف، وقوة داخلية غامضة، كيف تدير هذا التواتر المنتظم في بيئة شائكة وبها حيوات مختلفة؟
حين تتكثف العاطفة تصير مجازاً، أو بقولٍ آخر فإنها – العاطفة – تهتك عرى المنطق لتضع منطقها الخاص، وأنا أبحث عن ما يوصلني لهذه الكثافة والمنطق المُفارق، وهنا في العالم ما يجعلك في حالة برزخية. نعم أعني الموسيقى، هل تذَّوقتِ سَكْرَتَها يا فاتن؟ الموسيقى مُنقذتي من شوك الحياة، ولها أهتبل اللحظات، وهي التي تُرتِّب جسدي وروحي كلاً واحداً.فأن تكون عائشاً وأنت تعمل اثنتي عشرة ساعة في اليوم، وتقضي ساعات في الوصول إلى العمل من المنزل، فهذا لا محالة مهلك للروح والجسد، لذلك أستعين بالموسيقى على اليوم.
في ظل مغايرة النمط، ولونية التجديد، لشعر الحداثة التي اتسعت للكلمة الشعرية – نثراً – ما الرؤية التي يتبناها حاتم الشاعر؟
ليس هناك مدرسة، لا تثقلوا الشعر بالدرس. كل ما هناك أن الشعر خروجٌ أصلاً عن نمط تواصلٍ مباشرٍ ونفعي إلى أسلوب تواصل فريد يمكن أن نسميه روحياً؛ هذا الخروج موجود في أعتى الكلاسيكيات الشعرية.
يزداد العالم شعرية كلما عرف الإنسان أكثر، لأن الشعر – في تقديري – هو تلك الهوة السحيقة بين الجهل والمعرفة، والشعر أصلاً نظرةٌ ضد الذوق العام، إنه يرمي إلى خصوصية الذوق نفسها. والشعر روح ناقدة أيضاً، بالمعنى الذي يجعله حاملاً لمشعل بشارة المستقبل الأفضل للبشرية، وهو موقظ الانتباه لشعرية الحياة، وشعرية علائقها المنسية.
هل الشعر لديك هو قضية، وانتماء داخل الإطار الثقافي الحر؟
نعم.. ودائماً.. ولولا الإيمان بذلك لما كتبت.
يرى البعض، أن من إسباغ الهيبة في الوسط الثقافي، وإعلان الأنا، الركض وراء الجوائز الأدبية ظناً بأنها إضافة لقيمة العمل الأدبي، فما تأثير ذلك على المشهد الثقافي؟
ربما نجحت الجائزة في الرواية، أو القصة القصيرة، وأثرت مشهدنا الثقافي المُتهدِّم والمضطرب، ولكن ما جدواها للشعر؟ ليس هناك جائزة أكبر من أن تُقرَأ. والجوائز وسائل أرى أنها تفتقد جدواها الآن، خاصة بالنسبة للشعر الذي نشهد خروجاته على كل معيار. ما يُكتب من شعر الآن لا تحيط به جائزة، ولا تستطيع أن تمخر في عبابه العظيم.
في ظل وسط لا يميز بين الغث والسمين الشعري الراهن، ويحكمه التلميع الإعلامي والمحسوبية، ألم يكن من المغامرة إصدار (وردة آدم)، ومجموعتك الأولى (الينابيع تغسل أوزارها يديك)؟ أيعد هذا انتصاراً؟
يحدث أن يُحرق الشاعر نصوصه، أو يتخلص منها ليبدأ من جديد. يحدث أن ينشر أيضاً لكي يتخلص منها. النشر (بين دفتي كتاب) نهاية، وكذلك فهو بداية جديدة، وعملية تدخل في صميم المعالجة الكتابية، هذا إذا ما عددنا الكتابة عملية احترافية وجادة؛ إذن فلا بد من مواجهة سوق الشعر (الكاسد)، وهل حقيقة هو كاسد؟ في ظروف استثنائية مثل التي نعيشها في السودان يصعب الحكم بالكساد. لديَّ تجربة في نشر مجموعة أولى قبل أكثر من ثلاث سنوات (الينابيع تغسل أوزارها بيديك)، وفرحتُ جداً بالقليلات والقليلين حين رأيتهم بالصدفة والمجموعة بين أيديهم، كما فرحت بوصول الكتاب إلى رفوف سوق الكتاب الراجع بـ(حوش البقر). لعل هناك من يقتطف الكتب من هناك بسعر أقل وتقع بين يديه المجموعة فيستحسن شراءها. على العموم، سعيدٌ بتلك القلة النادرة من القُرَّاء. صدور المجموعة الثانية (وردة آدم) كان بعون ودعم من منتدى مشافهة النص الشعري، وعن طريق دار المصورات ضمن فكرة طموحة لنشر الأعمال الشعرية يتولى زمامها القائمون على المنتدى. وبالنسبة لي فإنني أُفضّل أن لا يتحمَّل الكاتب تكلفة الكتاب المادية (كفاية إنو بيكتب)، لكن بالنسبة لصدور (وردة آدم) ومن قبلها (رصيف طويل للنسيان) و(طير غير مجنح) للأصمعي باشري والمغيرة حسين، وأولى إصدارات المنتدى (وأختصر الرياح بزهرة أولى) للشاعر خالد عبد الله؛ فإنها نُشِرَتْ بدعم ذاتي من المنتدى كما ذكرت. ليس في الأمر انتصارٌ أو خسارة، كل ما في الأمر أنني أحرقت القصائد بين دفتي كتاب
أمن الجيّد أن يتلبس الشاعر كل ما يكتبه ويصبح ناقد ذاته، لدرجة اتحاده مع ما يكتبه؟
الأفضل أن نقول إن هنالك حساسية تتطور لدى الشاعر بالممارسة الكتابية. النقد حالة إبداعية ولها أشراطها النوعية. وعموماً فالحالة اللانسقية التي تصاحب الشعر تجعل من الصعب على من يكتب أن ينقد ما كتبه؛ فالكتابة تدريب للحساسية، وعلينا أن نوسع خبراتنا فقط.
هل تعتقد أن قصيدة النثر تلبي حاجة الشعر لدى جيل لم يتجاوز الأجناس التقليدية؟ وهل تراكيب النص النثري، تجعلها عصية على بعض الأذهان؟ وما هو الطريق الذي يقود للتشريح الأمثل للتعامل معها، وإحالتها ذهنياً؟
أنا مشغول بكل اختراق يتم في بنية الشعر وشكله، الآن ومع هذا الانفجار الشعري ستجدين الأشكال القديمة والجديدة تتداخل، وهناك تجارب لا تتوقف على شكل واحد، وقد تُحدِثُ اختراقاتٍ شعريةً عظمى في شكلٍ قديم، أو حتى في شعر كلاسيكي.
ما يتخلق الآن في الشعر أكبر من صراع الأشكال الوهمي نفسه. سنرى كيف ينفذ الشعر إلى أدق الدقائق اليومية ليصنع منها جسداً أسطورياً. فهناك من الشعر ما يعيد اكتشاف البساطة في تراكيب موحية بعمق فني عظيم، وهناك ما يكهرب اللغة ويوتر الدلالة، وكل الخيارات الشكلية مفتوحة ومُتاحة لكل شاعر. ولكِ أن تكتبي على النسق العمودي أو التفعيلي أو قصيدة النثر. مع أن هذه مسميات أورطتنا كثيراً ولعقود وجعلت من كل شكلٍ مدرسةً، ما عقَّدَ كثيراً من النظر إلى الشِّعر. أكرر – بمناسبة المدارس الشعرية – أنه لا توجد مدرسة شعرية. هناك فقط شعرٌ أو لا شعر.
والمسألة ليست في التراكيب ولكنها في الحساسية، قارئ الشعر اليوم مُدرَّب، واعٍ، وباحث علاقات، سواء كان من مشجعي – وأعني هنا كلمة التشجيع بدلالتها الكُرَوية – الشعر العمودي أو الحر؛ إنه يستطيع أن يكتشف الشعر في كل ذرَّة رخام الحياة. وباختصار: قارئ الشعر اليوم هو قارئ المستقبل.
عن وردة الحياة.
الوردة ضد العنف، وضد ما يكتنف الحياة من تكلُّف
وصناعة باردة، الوردة سماءٌ منبعُها الأرض.
تقول الوردة:
من يسقي نهري؟
الصدفة أمُّ كل شيء
وضعتني هنا
وسافرت إلى اللاشيء
الذي يسكن خلف الوجود الهائم في الترحال،
الصدفة أمي،
تركتني بينكم هنا يا رجال الحديقة الحائرين،
فغنوا أسراري،
غنوني في أعينكم الهائلة،
غنوا حقيقتي
قبل أن تذبل في أيديكم
قبل أن أخلق مرة أخرى في زوايا الزمن.
* نشر هذا الحوار في المرة الأولى بمجلة جيل جديد الإلكترونية، وننشره هنا في مجلة البعيد بإذن من المحررة.