ثمار

ضدَّ عقاربِ السَّاعة

فتحتُ عينيَّ دفعةً واحدةً. دون تلك المقدِّماتِ المعتادةِ الَّتي تسبقُ الاستيقاظ. أكملتُ ستَّةَ أسابيعَ حتَّى الآن منذ أن فارقتُ تلك الهُنَيهاتِ من التَّناوُم والاسترخاء قُبَيلَ الصَّحوِ الكامل. ومع لحظةِ صحوي، تُداهمُني تلك المرارةُ الكثيفةُ في حلقي. شهرٌ ونصفٌ منذ اختطفه الموتُ منِّي في ذلك الحادث المشؤوم وأنا أتلقَّى الخبرَ بكاملِ فجيعتِه كلَّ صباح، وأمتلئُ بذاتِ المفاجأة، ذاتِ الذُّعر، وذاتِ المرارةِ في حلقي، لأقومَ بعدها متثاقِلةً لممارَسةِ حياةٍ يوميَّةٍ ثقيلةٍ وماسخة. كيف فعل “وليد” ذلك؟! كيف حمل معه الحياةَ ورحل؟! كنتُ دائماً أصفه بأنَّه أجملُ ما حدثَ في حياتي، لم أُدركْ قبلَ رحيلِه بأنَّه كان حياتي كلَّها. يا إلهي كم أشتاقُ إليه! أرفعُ هاتفي وأنظرُ إلى صورتِه على خلفيَّة الشَّاشة. أُحِبُّ هذه الصُّورة. أنا من التقطَها له، متَّكئاً على ساقِ شجرةٍ بجوار المبنى الَّذي يقعُ فيه مكتبُ المحاماة الَّذي أعملُ فيه. مربوعُ القامة، لكنَّ كتفَيْهِ العريضتَيْنِ يُعطيانَه طولًا إضافيَّاً، وقد لوَّحتِ الشَّمسُ سُمرتَه بمزيدٍ من السُّمرة. أراه وسيماً. أُحِبُّ ملامحَه الواضحةَ وتلك النُّدبةَ في منتصفِ حاجبِه كدليلٍ دائمٍ على طفولةٍ شقيَّة؛ بيد أنِّي أُحِبُّ أكثرَ، ميلانَ رأسهِ إلى الخلف عندما يضحك عالياً على نُكتةٍ حكاها بنفسِه، كما يفعلُ الآن في هذه اللَّحظة، لحظةِ التقاطي للصُّورة. لم تكنْ تلك ضحكتَهُ الوحيدة، له عدَّةُ ضحكاتٍ أخرى، وله أصواتٌ مختلفةٌ أيضاً. بعضُها يخصُّني وحدي؛ وحدي أملك امتيازَ سماعِها. تتسلَّل إلى أُذني كوشوشةِ ريحٍ خافتةٍ ثمَّ تنسدلُ على كتفي فيقشعرُّ لها قلبي قبل جسدي.

 أُمسِكُ بهاتفي وأُراسلُه. في الحقيقة لم أكفَّ أبداً عن مُراسَلتِه. كانت هذه هي طريقتي في إِرواء شوقي إليه. لم يتركوا لي طريقةً أخرى. أحتاجُ أن أذكُرَهُ في أحاديثي بشكلٍ اعتياديٍّ كما كنتُ أفعلُ دائماً، لكنَّهم لا يتركونني، كلُّما ذكرتُ اسمَهُ ألقموني متعجِّلين ذلك الحَجَر: “رحمه الله”. أعلَمُ صدقَ دعواهم له بالرَّحمة، غير أنِّي لا أعلَمُ لِمَ أُحِسُّها كتذكيرٍ مُشفِق، بأنَّه لم يعُد هنا. أيظنُّونني أنسى؟! أم أنَّهم فقط بدأوا ببناء ذلك الجدار بيني وبينه. جدار: “لا تجوزُ عليه إلَّا الرَّحمة”. ألا يجوزُ لي أن أتذكَّرَ شيئاً مُبهِجاً فعلناهُ معاً فأضحك؟! أو شيئاً مُزعِجاً مرَّ بنا فأغضب؟! ألا يجوز لي أن أشتاقَهُ كلَّه .. أن أستعيدَ ملمَسَ ذقنِه الحليقِ وأتدثَّرُ بذكراه ليلاً؟!

دفنتُ وجهيَ في بعض الأعمالِ الورقيَّةِ طيلةَ النَّهارِ وتشاغلتُ بمشاهدة التِّلفاز طيلةَ المساء، مُحاوِلةً أن أُبعِدَ تلك الفكرةَ عن رأسي، فكرةَ الاتِّصال بها، الاتِّصال بذلك الطَّيفِ البعيدِ الَّذي طالما أرَّقني في الفترةِ الأولى من علاقتي به.

حزمتُ أمري أخيراً وفعلتُها. أجريتُ الاتِّصال. لم يكنْ من الصَّعب الحُصُولُ على رقمِ هاتفِها المحمول؛ فهاتفتُها صباحاً؛ بعد إلقاء التَّحيَّة، سألتُها في تردُّد:

“مُنى”؟

ردَّتْ:

“نعم ‘مُنى”.. مَن معي؟”

 أجَبتُ: “هيفاء”.

لحظاتٌ من الصَّمتِ ثمَّ تساءلتْ بخُفُوت:

“هيفاء”؟

وبعدها بعدَّةِ ثوانٍ.:

 “وليد”؟

خفقَ قلبي بقوَّة. هي تَعلمُ عنِّي إذاً، مَن أخبرَها؟ هل هو “وليد”؟ تساؤلاتٌ عِدَّةٌ مرَّت بذهني تجاوزتُها سريعاً وأجَبتُ:

 “نعم، “وليد”.. هل يُمكِنُنا أن نلتقي”؟

 قلتُها بسرعة.

أجابت بعد بُرهةٍ بدتْ لي كوقتٍ طويل:

“بالتَّأكيد، لا مُشكلة”.

 كانت مكالمةً سريعةً لم تستغرقْ سوى دقائقَ معدودةٍ، اتَّفقنا خلالها على موعدِ ومكانِ اللِّقاء. اختَرتُ أنا المكان، ذلك المقهى الفلكلوريُّ على أطراف المدينة، بينما تركتُ لها خيارَ تحديدِ الوقت.. بعد يومين، بدايات الظَّهيرة كانت تُناسبها حيثُ ستَذهبُ بعدها لإقلال أطفالِها من المدرسة.

لماذا أُريدُ أن ألتقي بها؟ هل ستُصدِّقُني هي أم هل سيُصدِّقُني أيُّ أحدٍ إنْ قلتُ إنَّ شوقي له هو دافعي الوحيد؟.

لم أستطِعْ أبداً التَّفكيرَ في “مُنى”، حبيبةِ “وليد” السَّابقة، كمجرَّد قصَّةِ حبٍّ قديمةٍ، انتهت، فقد كانت حبيبةَ الصِّبا وبواكيرِ الشَّباب. استمرَّت علاقتُه بها ستَّ سنواتٍ، العامُ الأخيرُ من المرحلة الثَّانويَّة بالإضافة إلى سنواتِ الجامعة كاملةً؛ ومَن يَعلَمُ كم من الزَّمن سكَنَتْ قبلَ ذلك قلبَه! فقد كانت ابنةَ الجيرانِ ورفيقةَ الطُّفولةِ الَّتي تعلَّم قلبُه الحُبَّ على يدَيها، لكنَّها رغم كلِّ ذلك رضختْ بعد التَّخرُّج مباشرةً لرغبةِ والدَيْها في الاقتران بطَبيبٍ شَابٍّ كان عائداً للتَّوِّ من بريطانيا بعد أن أكملَ تخصُّصَه فيها. مستقبلٌ واعدٌ لا يُمكِن مقارنتُهُ مع وضع “وليد” في ذلك الوقت، وهو يشقُّ طريقَهُ بصُعُوبةٍ في ظلِّ دولةٍ لا تَرحمُ مَن يُعارِضُها وتُغلِقُ الأبوابَ في وَجهِه أينما ذهب. كان انتماءُ “وليد” السِّياسيُّ وتبعاتُهُ، أمراً لا يُخفى على أحد. ربَّما لهذا السَّبب لم يُعارِضْ قرارَها كثيراً وانسحب من حياتها بهُدُوء، رغم أنَّه كما أخبرني، احتاج إلى النَّأي بنفسِه عن مجتمع الجامعة والأصدقاء المشترَكين بينهما وكلِّ ما مِن شأنِه أن يُحيلَ إلى سيرتها لمدَّة عامٍ كاملٍ بعدها. كان الطَّبيعيُّ، بالنِّسبة لي، أن يكونَ ناقِماً عليها بشكلٍ أو بآخَر، أو أن تكونَ قد صغُرَت أمام عينَيْه بسبب اختيارِها المبنيِّ على أُسُسٍ مادِّيَّةٍ بشكلٍ بالغِ الوُضُوح، عدا أنَّ الأشياء ليست دائماً كما يجب أن تكونَ عليه.

حكى لي عنها أوَّلَ مرَّةٍ قبلَ بدءِ علاقتِنا. في تلك المرحلة الَّتي يتبادلُ فيها العشَّاقُ حكاياهم السَّابقةَ كنوعٍ من إعلان ثقةِ ورفعِ رايةِ استسلامٍ ما لموجةِ عشقٍ ضاربةٍ في طريقها إليهم. تلك المرحلةُ الَّتي تُشبِه إنارةَ المصابيحِ الخافتةِ، ونثرَ الوُرُودِ على المداخل. المرحلةُ الرَّقيقةُ، القلِقةُ، المليئةُ بالخوفِ واللَّهفةِ معاً، والَّتي تسبقُ البوحَ العاطفيَّ الصَّريح. أظنُّنا بدأنا بهذه المرحلة مباشرةً إذ لا يَحضُرُني أنَّني عشتُ معهُ صداقةً مجرَّدةً أبداً منذ تعارَفنا عندما أنشأ إلى جانب مجموعةٍ من زملائه شركةً هندسيَّةً صغيرةً واستعانوا بمكتبِ المحاماةِ الَّذي التحقتُ به حديثاً من أجل الإجراءاتِ القانونيَّةِ لتسجيل الشَّركة وكنتُ أنا مِن ضمن الفريق المكلَّف بهذه المَهمَّة. تقارَبنا بسرعةٍ مُذهِلة؛ ومع ذلك، لم نُفارِقْ تلك المرحلةِ من العلاقة بسهولة. ظللنا عالقَيْن فيها لِمَا يُقارِبُ العام. لا أعلمُ ما السَّبب في ذلك على وجه التَّحديد، ربَّما كان يَكمُنُ فيَّ أنا. علِمتُ منذ البداية بأنَّني أُحبُّه، لكنِّي حرصتُ على التَّيقُّن من مشاعرهِ نحوي، فقد أخذني قلبي سابقاً في دُرُوبٍ مُبهَمةٍ ومن وقتِها لم أعُدْ طيِّعةً له.

عندما حكى لي عنها، كان كلامُه في حقِّها إيجابيَّاً بطريقةٍ أوجعتني. أدَرتُ دفَّة الحديثِ إلى وِجهةٍ أخرى بسرعة ثمَّ حاولتُ تجنُّبَه بعدها لعدَّة أيَّام. لم يسمحْ لي كبريائي ولا طبيعةُ علاقتنا في ذلك الوقت بمُعاتبته على مدحِها أمامي. غير أنَّني كذلك لم أستطعِ التَّعاملَ معه بشكلٍ طبيعي، لذا آثرتُ تجنُّبَهُ متحجِّجةً ببعض الأعمال المتراكِمة، لكن أعتقدُ بأنَّه فهِمَ دافعي الحقيقي.. أعتقدُ ذلك، لأنَّني إنسانةٌ مكشوفةٌ للغاية، وتلك هيَ نقطةُ ضعفي وقوَّتي في آن. يُسارِعُ لساني لنقلِ ما يَجولُ في عقلي؛ وإنْ لم يفعل، فإنَّ ملامحَ وجهي واشيةٌ فصيحة. رغم تجنُّبي له، فقد تواجَدَ حولي بكثافةٍ وإلحاحٍ في الأيَّام الَّتي تلت هذا الحديث. يُبادرني بمكالَمةٍ يزعمُ أنَّها خاطئةٌ ولست أنا المقصودةَ بها؛ ومع ذلك، تستمِرُّ طويلاً. يلجأُ إليَّ في استشارةٍ قانونيَّةٍ مهمَّةٍ لا تَحتمِلُ التَّأجيل ثمَّ في اليوم الَّذي بعده يجدُ نفسَه قريباً من مكانِ عملي، فيُفكِّرُ أنْ يمرَّ عليَّ بشكلٍ عابر، وهكذا… يفتعلُ كلَّ هذه الأسبابِ والمصادفاتِ على نحوٍ جدِّي، وهو يعلمُ تماماً بأنَّها مكشوفةٌ أمامي. كأنَّه بطريقةٍ ما يقفُ بيني وبين هواجسي. يَمنعُها من الانفراد بي، يحميني منها. كأنَّه يعمل على تذكيري بـ”وليد” الَّذي أُحِبُّ وليس “وليد” الَّذي أعتبُ الآن عليه. كان عذباً في تواجُدِه إلى حدِّ أنَّه لم يتركْ لي خياراً سوى تجاوُزِ غضبي والعودةِ بسُهُولةٍ إلى تقارُبِنا الكثيف. لكن يبدو أنَّني ما زلتُ منزعجةً بسبب كلماتِه في حقِّها، دون أدنى مُراعاةٍ لمشاعرى. يبدو ذلك، لأنَّني الآن أشعُرُ بضيقٍ شديدٍ من مجرَّد تذكُّرِ الأمر. لكن، ما بالي أتذكَّرُ هذا الحديث الآن! ليس هذا وقتَه ولم يعُدْ يَهُم.

في الحقيقة، لم نأتِ على ذكرِها مرَّةً أخرى طيلةَ علاقتنا. في البدايات، كنتُ ما زلتُ قلِقةً وكثيراً ما أرَّقتني خاطرةُ أنَّه لولا تخلِّيها عنه، لربَّما كانا ما يزالان معاً حتَّى الآن، ولربَّما كان ذلك هو الوضعُ المثاليُّ بالنِّسبة له، لو أنَّ الأمرَ بيده. تخطُرُ لي هذه الفكرةُ وتملؤني رغبةٌ جارحةٌ في رؤيتِها ومعرفةِ المزيدِ عنها، ولم يكن ذلك بالصَّعب مع كلِّ هذه الحيواتِ والتَّفاصيلِ الشَّخصيَّةِ الَّتي جُنَّ النَّاسُ بعَرضِها على الأسافير. على أنَّني سُرعانَ ما نسيتُ الأمرَ وانطفأتْ تلك الرَّغبةُ في داخلي. حُضُورهُ الدَّافئُ والمستمِرُّ لم يتركا فراغاً لها.

 أمسكتُ بنفسي وأنا أتأنَّقُ للقائها، تطلَّعتُ إلى نفسي في المرآةِ بعدَ طولِ غياب. هالني ما فعلتْه بي الأسابيعُ الماضية؛ كأنَّني شخصٌ آخَر. لم أعُدْ تلك القَمحيَّة ذاتَ الملامحِ الدَّقيقة. يُناديني بوردتِه البَرِّيَّة. يقول بأنَّني أُماثلُ الوُرُودَ في كلِّ شيءٍ حتَّى في سرعةِ تفتُّحي وذُبُولي. أتذكَّرُ كلامَه هذا الآن وأنا أنظرُ إلى وجهي المُنهَكِ وعينيَّ الغائرتَيْن؛ تُرى ماذا ستقولُ لنفسِها عندما تراني؟! ما الَّذي أعجب “وليد” في هذه النَّاحِلة الشَّاحِبة!. نفضتُّ الفكرةَ عن رأسي سريعاً. كيف يُمكِنُ لها.. كيف يُمكِنُ لي.. كيف يُمكِنُ لنا أن نكونَ بهذه السَّطحيَّةِ في ظلِّ الغياب المُرِّ لـ”وليد”؟!

وصلتُ قبلَها ببضعِ دقائقَ، تقدَّمتْ نحوي ببطء، أراها للمرَّةِ الأولى، جمالٌ لا تُخطِئه العين. وجهٌ مستدير، عينانِ واسعتانِ، بِشرةٌ ذهبيَّةٌ وشَعرٌ فاحم. تبادلنا بعضَ عباراتِ المجامَلةِ ونحن نتصافح. قليلٌ من الصَّمت قطعتْهُ النَّادلةُ وهي تستفسِرُ عن طلباتِنا. توحَّد طلبُ كلتينا في كوبَيْ قهوة. استجمعتُ بعدها شجاعتي وقلتُ:

 “لا بدَّ أنَّكِ تتسائلين عن سبب رغبتي في لقائك”.

 قالت: “نعم بالتَّأكيد، لكن أرجو أوَّلاً أن تتقبَّلي تعازييَّ الحارَّة.. قلبي معكِ”.

 أشعرني لطفُها بشيءٍ من الرَّاحة، شكرتُها، ثمَّ قلت:

“أُريدُكِ أن تحكي لي عن “وليد”.

 ردَّتْ مندهشةً:

“ما الَّذي ترغبينَ في معرفتهِ عنه؟ هل تظُنِّينَ بأنَّه كان يُخفِي عنكِ شيئاً”؟

“كلَّا كلَّا! الأمرُ ليس كذلك”.

 تذيَّلَ نفيُ ذاك بزفرةٍ حارَّة منِّي قبل أن أستطردَ:

 “في الحقيقةِ، أنا لا أبحثُ عمَّا كان يُخفِيه حتَّى وإنْ كان لديه منه، بل على العكس، أبحثُ عمَّا يَعرِفُه الجميع.. أعني جميعَ المُقرَّبين، وقد كنتِ منهم بالطَّبع. تلك التَّفاصيلُ اليوميَّةُ الصَّغيرةُ الَّتي تُعطي أحدَهم الحقَّ في أن يقولَ بثقة: “هذا التَّصرُّف لا يُشبِهُ ’وليد‘، أو لم يكن ’وليد‘ ليقولَ ذلك”. تلك المعرفة اللَّصيقة الَّتي تتراكمُ عبرَ السَّنواتِ عمَّا يُحِبُّه ويكرهُه، عمَّا يُثيرُ حنقَهُ أو يدفعُه إلى الضَّحك، عن نَزَقِه ومغامراتِه في بداياتِ الشَّباب، عن مشاعرِه بعد خُرُوجِه من المُعتقَل، عن حزنِه عند وفاةِ والدِه. تجارِبُ ضخمةٌ مرَّت به ولم أكنْ موجودةً بعدُ في حياتِه. أخذَهُ الموتُ منِّي سريعاً قبل أن أتشبَّعَ بحضورِه. نزعَه منِّي ونحن ما زلنا نستكتشفُ بعضَنا. لي معه ذكرياتي الخاصَّةُ بالتَّأكيد وممتلئةٌ أنا بتجرِبتي معه، لكنَّني الآن أحتاجُ إلى المزيد.. أحتاجُ إلى ما يُهدِّؤني قليلاً، أحتاجُ إلى زُوَادةٍ ما أُواجِه بها هذا الفراغَ العظيم”.

 ناولتني منديلاً ورقيَّاً، وضعتْ يدَها على كتفي وشدَّت عليه برفق، أدركتُ حينها أنَّ الدُّموع كانت تنهمرُ من عينيَّ.

“لا بأسَ! لقد فهمتُكِ الآن”.

قالتها بحنُوٍ ثمَّ أردفتْ مبتسمةً:

 “ما رأيُكِ أن نبدأَ بتوتُّرِه الشَّديد وتحوُّلِه إلى شخصيَّةٍ أخرى في فترةِ الامتحانات؟”.

 مضت ساعتانِ تخلَّلتهما ابتساماتٌ كثيرةٌ وضحكاتٌ عديدةٌ وقليلٌ من الوُجُوم. تداعت حكايانا وامتزجَ الأُنسُ بيننا وانساب. ساعتانِ كاملتانِ من عُمُرِ الأبدِ هُزِمَ فيهما الموتُ ووقفَ الحزنُ حائراً عند الزَّاوية.

توقَّف الحديثُ بيننا بشكلٍ تدريجي. غطَّتْ وجهَها بيدَيْها وانخرطت في بكاءٍ صامت. لم أعرِفْ ما الَّذي عليَّ فعلُه أو قولُه. ألجمتني المفاجأة. تمالكتْ نفسَها سريعاً وقالت:

 “أرجو ألَّا تفهمي بكائي بشكلٍ خاطئٍ، ما بيني وبين “وليد” انتهى منذ أمدٍ بعيدٍ ومضى كلٌّ منَّا في حياةٍ مختلفة، لكنَّنا أحياناً نتسلَّل إلى حدائقِ قلوبِنا الخلفيَّةِ كي نحتملَ جفافَ حياتِنا الماثلة. بعضُنا يفعل ذلك دون وعيٍ ويُتوهَّم وجودَ مشاعرَ قديمةٍ تجاهَ أحدِهِم، وقد فعلتُها أنا بوعيٍ لبُرهةٍ من الزَّمان.. علمتُ بالطَّبع أنَّ عليَّ التَّوقُّفَ عن ذلك، حالما عرَفتُ عنكِ في لقاءِ الدُّفعةِ السَّنويِّ قبل عامين”.

 تدافعتِ الذِّكرياتُ إلى رأسي. أتذكَّرُ جيِّداً ذهاب “وليد” إلى ذلك اللِّقاء، لكن لم نكُنْ أنا وهو قد تصارحنا بالحُبِّ بعدُ في ذلك الحين. كيف علِمَتْ عنِّي في ذلك اليوم؟ أرَدتُ سؤالَها، عدا أن شغلني عن ذلك شعورٌ بالإشفاق تسلَّل إلى قلبي وأنا أنظرُ إلى بقايا الدُّمُوع في عينيها. سألتُها متردِّدةً:

 “هل سأكونُ متطفِّلةً إنْ سألتُكِ عن حال زواجِك؟”.

 هزَّت رأسَها بالنَّفي وقالت:

“لم يكنْ هكذا في البداية. تحت إلحاحِ أمِّي وأبي وإرضاءً لهما وافقتُ على إعطاء نفسي فرصةً معه والتَّعرُّفَ إليه. كنتُ وحيدتَهما وكانت لديهما كثيرٌ من الأحلام المتعلِّقةِ بي. أعترفُ بأنَّه قادني إلى عوالمَ جديدةٍ لم أزُرْها من قبلُ، أُخِذتُ به سريعاً. فارقُ العمرِ والتَّجرِبةِ وحِنكتُه مع النِّساء، لعبوا دوراً كبيراً في التَّأثير عليَّ، وإنْ كنتُ أتذكَّرُ الآن بوُضُوح أنَّني في غَمرةِ انشغالي بالتَّعرُّف على عالمِه، لم أنتبِهْ إلى أنَّه لم يُكلِّف نفسَهُ بتاتاً عناءَ محاولةِ دخولِ عالمي أو فهمِه. تزوَّجنا سريعاً كما كسا بعدها الجفافُ زواجَنا سريعاً أيضاً، لا سيَّما مع غياب تلك المصاعبِ الحياتيَّةِ الَّتي تخلقُ نوعاً من التَّضامن داخلَ الأسرةِ وتُعطي العلاقةَ متانةً زائفة. مصاعبُ على شاكلة ضيقِ الحالِ أو المرضِ أو ما شابه. عندما تغيبُ هذه النَّوعيَّةُ من صعوباتِ الحياة، فإنَّ عدمَ الانسجامِ يطفو إلى السَّطحِ بسرعةٍ ويُصبِحُ شديدَ الوُضُوح”.

سألتُها مواسيَةً:

“هل ما بينكم عصيٌّ على الحل؟”

 هزَّت كتفَيها:

“لا أعلمُ.. الأمرُ فقط أنَّه ينظرُ إليَّ ولا يراني، يَسمعُني ولا ينصتُ إليَّ، حتَّى في علاقتنا الخاصَّة (وأعتذرُ عن إشراككِ في هذا الأمر). قلتُ له ذاتَ مرَّةٍ، وهو يهُمُّ بالابتعاد: “في المرَّةِ القادمة بعد أن تنتهي، ضعْ لي مئةَ دولارٍ تحتَ الوسادة”.

 “وما الَّذي تنوينَ فعلَه؟” سألتُها بدون تفكير. ارتسمَ على وجهها تعبيرُ مَن لم يخطُرْ ببالهِ هذا السُّؤالُ من قبل. ردَّتْ بشكلٍ دفاعي:

“وهل الأمرُ يَخصُّني وحدي! أشعُرُ أحياناً بأنَّني جزءٌ صغيرٌ من وحدةٍ تضُمُّ عشرةَ أشخاصٍ على الأقل: طفلاي، أسرتي وأسرته، وأصدقاءُ مقرَّبون لنا”.

وجدتُ نفسي أُردِّدُ بصوتٍ عالٍ ما قاله لي “وليد” عنها: “تكادُ تكون خاليَةً من العُيُوب لولا ذلك الشُّرطيُّ الَّذي يَسكُنُ عقلَها”.

 انتبهتُ إلى نفسي، إذ رأيتُ شيئاً كالصَّدمة على وجهها. سارعتُ بالاعتذار:

“آسفة.. هكذا وصفَكِ “وليد” عندما حكى لي عنكِ أوَّلَ مرَّة”.

 “هل قال هذا عنِّي حقَّاً؟”

لمعت عيناها:

“يا إلهي! أتذكُرُ أنَّه كان يقولُ لي شيئاً بهذا المعنى بالفعل؛ لكن، كأنَّني أسمعُ هذا الكلامَ الآن للمرَّةِ الأولى”.

 لحظاتٌ من الصَّمتِ مرَّت، ثمَّ نظرتْ إلى ساعتها بقلق. يبدو أنَّ موعدَ التقاط أطفالِها قد حان، وأنَّ لقاءَنا قد أوشك على الانتهاء. غمغمتُ متسائلةً:

 “قلتِ بأنَّكِ سمعتِ عنِّي في لقاء الدُّفعة السَّنوي؟”

أومأتْ برأسِها موافقةً وقالت بشُرُود:

 “فهمتُ من مُمازَحة بعض أصدقائه له بأنَّه يعيشُ قصَّةَ حُب. عندما أُتيحت لي الفرصةُ قبلَ نهايةِ ذلك اللِّقاء، طلبتُ منه أن يحكيَ لي عنكِ، ما حدث حقَّاً أنَّه حكى عن نفسِه. أخبرني باسمِكِ فقط، ثمَّ حكى عن نفسِه. قال فيما معناه إنَّه وقع في الحبِّ على نحوٍ مفاجئ دون انتظارٍ أو بحثٍ أو قوالبَ مُسبَقةٍ تنتظرُ مَن يملؤها، وأنَّ ما حدث له شيءٌ جديدٌ عليه. شيءٌ أشبهُ بالتقاءِ الأرواحِ. كان ممتنَّاً للغاية كونَهُ صادفَ هذا النَّوعَ من الحُبِّ في حياتِه في وقتٍ مناسب، في وقتٍ هو قادرٌ فيه على أن يَهَبَهُ روحَه دون قيدٍ، دون حذرٍ أو خوف”.

 سردتْ علىَّ ذلك بكلِّ بساطة. منحتني هذه الكلماتِ وهي تتأهَّبُ للانصراف كأنَّها تُثرثرُ بشيءٍ عادي.

 قلتُ لها بما يُشبِه الاعتذارَ وأنا أُودِّعها:

“ليتَهُ كان بوُسعنا أن نكونَ صديقتَيْن! لكن، كلَّما التقت عيناي بعينيكِ، تشاركنا ذكراهُ سويَّاً وأُريدُ لها أن تكونَ خالصةً لي وحدي”.

 “أتفهَّمُ ذلك”

 قالتها بدماثةٍ ثمَّ أردفت:

“أنا أيضاً أحتاجُ إلى بداياتٍ جديدة، وبِكِ قبسُ من “وليد” أخشى أن يُذكِّرَني أحياناً بما أوَدُّ ترْكَهُ ورائي”.

تعانقنا كصديقتَيْنِ قديمتَيْنِ، إحداهما مُقبِلةً على سَفَرٍ طويل. خُيِّل إليّ وأنا أراها تبتعد، أنَّ ظهرَها أكثرُ استقامةً وخطواتِها أكثرُ نشاطاً.

أشرتُ إلى النَّادلة بيديْ أطلبُ مزيداً من القهوة، أتت بها إليَّ سريعاً. وها أنا الآن أجلسُ على مقعدِيَ الخشبيِّ في هذا المقهى العتيق، ورائحةَ النَّدِّ تفوحُ في المكان. أرتشفُ قهوتي على مهل، آمنةً مطمئنَّة. عنفوانٌ كُلِّيٌّ يملؤني وكونٌ بأكملِه يُضيءُ في قلبي.

سارَّة سِرُّ الخَتِم

كاتبة من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى