ثمار

الموسيقى والحرب في السودان: صوت الشّعب وأداة سلاح المقاومة

مقدمة

تُعد الموسيقى وسيلة ترفيهية وتعبيرية عريقة، تحمل في طياتها الكثير من المعاني والتجارب الإنسانية في السودان، وتكتسب الموسيقى بُعداً إضافيَّاً كأداة تعبيرية وثقافية واجتماعية، خاصةً في أوقات الأزمات والحروب. من خلال استعراض تاريخ الموسيقى السودانية ودورها في الحروب الماضية والحالية؛ يمكننا فهم كيف أصبحت الموسيقى وسيلة لمواجهة الحرب والتعبير عن الهوية الثقافية والمقاومة الشعبية. سنُسلّط الضوء أيضاً على تأثير الحرب الحالية في السودان ودور الموسيقى في هذا السياق، بالإضافة إلى دورها كجزء من هذه الديناميكية.

الموسيقى في تاريخ السودان

تتميَّز الموسيقى السودانية بتنوّعها وغناها، حيث تعكس تعدد الثقافات واللغات في البلاد؛ فمن الدارفوري إلى الطنبور، ومن الكَمَنجة إلى الجاز السوداني، تمتد جذورُ الموسيقى السودانية عميقاً في تاريخ البلاد، فقد كانت دوماً وسيلة للتواصل الاجتماعي والتعبير الفني في السودان، وتطوَّرت عبر الزمن لتكون جزءاً لا يتجزأ من الهوية الثقافية السودانية.

دور الموسيقى في الحروب السودانية

على مرّ العصور شَهِدَ السودان العديد من الحروب الأهلية والصراعات المسلحة، ولعبت الموسيقى دوراً محوريَّاً في توثيق الأحداث ونقل المعاناة والصمود الشعبي أثناء الحرب الأهلية الثانية من 1983 إلى 2005م، واستُخدِمَت الأغاني كوسيلة لنقل القصص الإنسانية والتعبير عن الآمال والطموحات.

الحرب الأهلية الثانية في السودان 1983- 2005م

  • أغاني الدينكا

كانت أغاني قبيلة الدينكا في جنوب السودان –جمهورية جنوب السودان حالياً- أداة رئيسية لتوثيق قصص الحرب ومعاناة الناس. أغنية مثل “جولاي لو” تتحدث عن الفقر والجوع والنزوح، لكنها تحمل أيضاً في طياتها الأمل والعودة إلى الوطن. كانت هذه الأغاني بمثابة السجل الشفهيّ لتاريخ الحرب والوسيلة التي يحتفظ بها الشعب بذاكرته الجمعية.

  • الفنان أحمد المصطفى

ولد في 26 يوليو 1922 الدبيبة وتوفي في 16 مارس 1999م. يُعتبر أحد رواد الموسيقى السودانية، وبدأ مسيرته الفنية في الأربعينيات. تميز بصوته العذب وألحانه المميزة، وقدم العديد من الأغاني الناجحة مثل “سميري” و”يا حليلكم”.

كان لأحمد المصطفى دوراً بارزاً في الغناء الوطني، وكانت أغنياته تُعبّر عن حب الوطن والانتماء، من أبرزها أغنية “أنا سوداني” التي أصبحت رمزاً للوطنية والفخر بالهوية السودانية، وألهمت أغنياته الشعب وعززّت الروح الوطنية، مما جعله شخصية محورية في الفن السوداني. حيث استخدم موسيقاه لتسليط الضوء على قضايا الشعب السوداني ومعاناة الناس تحت وطأة الحرب والفقر.

الموسيقى والحرب الحالية في السودان

مع تجدد الصراع في السودان في السنوات الأخيرة، أصبحت الموسيقى مجدداً وسيلة للتعبير عن المعاناة والمقاومة. بدأت هذه الحرب في أبريل 2023م بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وخلَّفت وراءها آلاف الضحايا والمشردين. في هذا السياق ظهرت العديد من الأغاني التي تُعبّر عن الوضع الراهن في السودان، وتعكس المعاناة اليومية للسودانيين وتدعو إلى الوحدة والسلام.

الأغاني الاحتجاجية الحديثة

في مواجهة الحرب الحالية أصبحت الأغاني الاحتجاجية الحديثة جزءاً لا يتجزأ من النضال الشعبي، تُبرز الألم والمعاناة ولكنها تدعو أيضاً إلى الوحدة والسلام، وتُستخدم هذه الأغاني كأدوات لتحفيز الروح المعنوية وتعزيز الصمود بين السودانيين.

الموسيقى كوسيلة للمقاومة

ليست الموسيقى مجرد وسيلة للتعبير عن المعاناة بل هي أيضاً أداة للمقاومة والصمود في السودان. استُخدمت الموسيقى بشكلٍ فعَّال في تنظيم الحركات الاجتماعية والتظاهرات.

 ثورة ديسمبر 2018م

أثناء ثورة ديسمبر 2018م التي أطاحت بالرئيس عمر البشير، كانت الموسيقى جزءاً أساسيّاً من الاحتجاجات، وأصبحت شعارات للمقاومة. كانت الموسيقى وسيلة لتوحيد الصفوف وتعزيز الروح المعنوية للمتظاهرين ما جعلها عنصراً حيويّاً في نجاح الثورة.

أثناء اعتصام القيادة العامة في السودان في عام 2019م، لعبت الموسيقى دوراً مهمّاً في الاعتصام كجزء من الثورة السودانية، وقدّم الفنانون والموسيقيّون بتواجدهم الكثيف أعمالهم كجزء من الحراك الشعبي.

كانت الموسيقى وسيلة فعالة لنقل الرسائل السياسية والاجتماعية، وكانت الأغاني الثورية والوطنية تُعزف باستمرار لتحفيز المتظاهرين وتعزيز الوحدة بينهم. من بين هذه الأغاني كانت “يا شعباً لهبك ثوريتك” للفنان الراحل محمد وردي. هذه الأغاني وغيرها كانت تحمل رسائل تُعبّر عن الحرية والعدالة والديمقراطية.

شارك الفنانون السودانيون في الاعتصام من خلال الحفلات الموسيقية المباشرة، والأعمال الفنية الجديدة التي تدعم الثورة؛ هؤلاء الفنانين كان لهم دورٌ كبير في إلهام المتظاهرين وتقوية عزيمتهم من خلال الفن والموسيقى. لم تكن الموسيقى مجرد وسيلة ترفيه بل كانت تعبيراً عن الهوية الثقافية للسودان، وتوحيداً لمختلف الفئات الاجتماعية والعرقية حول هدف مشترك.

في ظل الظروف الصعبة للاعتصام كانت الموسيقى توفر نوعاً من الترفيه والتخفيف من التوتر للمعتصمين، مما ساهم في الحفاظ على الروح الإيجابية والمثابرة. كانت الألحان والكلمات تعكس تطلعات الشعب السوداني للحرية والتغيير وتحفزهم على الاستمرار في نضالهم لتحقيق أهدافهم. كانت الموسيقى -باختصار- جزءاً لا يتجزأ من الحراك الثوري في السودان طوال التاريخ، وساهمت في التغيير الاجتماعي والسياسي.

من الأمثلة: “على إيقاع الأنتنوف” في مهرجان تورونتو السينمائي

“على إيقاع الأنتنوف” هو أول فيلم سوداني يعرض في مهرجان تورونتو السينمائي العالمي. أخرجه حجوج كوكا، يوثق معاناة سكان جنوب كردفان والنيل الأزرق تحت القصف والحروب، مع التركيز على تمسكهم بإرثهم الثقافي.

الموسيقى في الفيلم تعكس الهوية والمقاومة؛ حيث تبدأ الأحداث بصوت طائرة الأنتنوف وترمز إلى القصف اليومي. يُظهر الفيلم استخدام الموسيقى والغناء لتحدي الخوف والظروف الصعبة مع مشاهد لصناعة الأدوات الموسيقية التقليدية والحفاظ على التراث الثقافي.

يعكس الفيلم أيضاً التعايش الديني بين المسلمين والمسيحيين ويدحض مزاعم الإسلام السياسي بأن الحرب ضد أعداء الله. يرسل الفيلم رسالة حول الهوية الثقافية والسلام والتعايش، ويؤكد أن التمسك بالقيم الثقافية هو السبيل لبناء وطن عادل ومتنوع.

يعمل حجوج كوكا على تأهيل كوادر سينمائية لنشر ثقافات الهامش، ويعتبر هذا الفيلم خطوة رائدة للأفلام السودانية في المحافل العالمية. ويُعد عملاً وثائقياً بارزاً يستعرض دور الموسيقى في زمن الحرب.

يبرز الفيلم كيف يمكن للموسيقى أن تكون أداة قوية للصمود والتعبير عن الهوية في أوقات الأزمات، ويعرض الأثر النفسي والاجتماعي للموسيقى على الأشخاص الذين يعيشون في مناطق النزاع، وكيف تمكنوا من استخدام الفن كوسيلة لمواجهة التحديات اليومية وقوة الفن في مواجهة الظلم والمعاناة.

تأثير الموسيقى على الثقافة والهوية السودانية

الموسيقى السودانية لا تعكس فقط الواقع الاجتماعي والسياسي بل هي أيضاً جزء من الهوية الثقافية للشعب السوداني. عبّر السودانيّون من خلال الموسيقى عن تراثهم وتاريخهم وحضارتهم السودانية بغناها وتنوعها، وعكسوا التنوع الثقافي واللغوي في البلاد.

 

خاتمة

تظل الموسيقى في السودان أكثر من مجرد وسيلة للترفيه، إنها صوت الشعب وسلاح مقاومته وصموده من خلال الألحان والكلمات. يُعبّر السودانيون عن آلامهم وآمالهم ويواجهون الصعاب بين الأمل والألم، وبروح متجددة في زمن الحرب والسلام تظل الموسيقى رمزاً للهوية والقوة الجماعية للشعب السوداني ووسيلة لتمرير التراث الثقافي من جيل إلى جيل.

مايو 2024م

  • موسيقي وكاتب من السودان

محمد عوض الحاج (MJ)

موسيقي وكاتب من السودان 
زر الذهاب إلى الأعلى