يُعدُّ عادل القصّاص مِنْ القلائل الذَّين يُعرِّفون أنفسهم ككُتّاب، ويبدو لي أنّ هذه الصِّفة مكتوبةٌ في جواز سفره؛ بإعتبار أنّ الكتابة مهنةٌ تتطلب التفرغ، شأنها شأن أي مهنة. من بين كُتاب العربيِّة قلةٌ منهم؛ هم من توكأ على الكتابة كمهنةٍ وهويِّة سوى عادل القصّاص، والمغربي محمّد برادة.
يُدهشك الكاتب والناقد، عادل القصّاص بذاكرةٍ من حديد، وشبكةٍ واسعة من المعارف، والعلاقات التي يمكن وصفها بالنادرة، إذ يقول القصّاص: إنه رافق أجيال ثقافية – إبداعية سودانية متباينة، لدرجة أنّه لا يستطيع تصنيف جيله بدقة جامعة مانعة (إن صحّت هذه العبارة) ذات الجدّل الكثيف في الوسط الثقافي السُّوداني. وللقصّاص تجربةٌ عريضة بمعنى الكلمة، في سياق التعقيدات التي تربط الثقافي بالسياسي، والاجتماعي أيضا.
تعريف المثقف من سياق التجربة:
سألته عن الجدّل المحموم حول تعريف المثقف؛ وكيف ينظر هو لهذا الجدل. وللقصاص طريقته الخاصة في تصويب الإجابات من مسافات وأزمنة بعيدة، ويحيلك إلى التفاصيل الدقيقة لتجربته التي تشتبك وتتقاطع مع آخرين، لهم بصماتهم أيضاً في المشهد الثقافي والسياسي في السودان.
يبدأ القصاص قصته منذ اللجوء الأبجدي للأطروحات التي تتوسل الإسلام، مِن محمد متولي الشعراوي إلى مصفى محمود، ويرى بأنّ الخلاص الأوليِّ كان عند (سلامة موسى) و(ذكي نجيب محمود).
يتذكر القصاص ذلك بسنوات تمرده الأُولى وهو مازال يافعاً بعد، في المرحلة المتوسطة، وبشغفه الكبير بالرسم والقراءة، وتعدد مصادر هذه المعرفة، موضحاً كيف أنّ إقامته بحي (الحارة السابعة) بمدينة الثورة بأمدرمان، قد هيأت له أفقاً مفتوحاً على الأصدقاء العائلات من مختلف المشارب الإبداعية، في الفن والأدب والموسيقى. ومن ذلك ارتباطه الإجتماعي بمنزل العم شيخ الدين جبريل، حيث يشتغل معظم أبناؤه وبناته؛ بالأدب، المسرح، والموسيقى، والتشكيل واقربائهم أيضاً، من أمثال محمود، وعبد العطيم، وعبد الله، ومريم، أبناء محمد الطيب (وهم/هنَّ) أولاد خالات لزوجتيْ شيخ الدين جبريل، علوية وفاطمة.
يواصل القصاص حديثه بأن المُلفت في سياق تأثره بمثل هذا المنزل وغيره، الروح الديمقراطية، من الكبار نحو الصغار. وأكثر، ربما اجمالاً، حتى أؤلئك من لم يُعرفوا كمبدعين، كانوا يتميّزون بحساسيِّة اجتماعيِّة – ثقافيِّة مختلفة، أي تقدميِّة، في سياقٍ من الأمر والنهي من الأسرة إلى التنظيمات السياسيِّة. مما منحه أيضاً علاقات اجتماعيِّة غنيِّة، تحوّلت إلى ثقافيِّة، وتفرّعت لمصادر أُخرى وشخصيات مثل: أحمد شريف وأحمد المصطفى الحاج.
فالأول بحسب القصاص وبخلاف انه من افضل كتاب القصة القصيرة عندنا على قلة نصوصه المنشورة، فقد أضافت له ملاحظاته النقدية السيَّارة، في القصة، الرواية والمسرح، ما هو نوعي حقا. وتمنى القصاص أن تجد اطروحته النقدية، التي حصل بها على دبلوم المعهد العالي للموسيقى والمسرح طريقها للنشر. والتي كانت عن الواقعية في الدراما الإذاعية لـ حمدنا الله عبد القادر.
أمّا الثاني، مصطفى أحمد الحاج، فكان من أخصب القصّاصين خيالاً، وارتباطاً بالبيئة، واحاطةً باللغة العربية، في النحو والبلاغة مثلا. وكان هو المراجع، المدقق اللغوي الأول لنصوص القصاص، ولم تكن تخلو ملاحظاته من خبرة قصاص مجيد، بل واحالات لقصاصين فذّين، من أمثال عبد السلام حسن عبد السلام، لا سيما رأئعته (عادياً يحدث هذ).
وهنا دعا القصاص محرضاً بعض المترجمين البارعين، كمصطفى آدم، ومجدي النعيم، ونجلاء التوم، وجمال غلاب، لترجمة نصوص قصصية لأحمد شريف، وأحمد المصطفى الحاج، ومحمد عثمان عبد النبي، بشار الكتبي، محمد خلف الله سليمان – وآخرين حتماً، ما يمكن أن يكون ضمن انطولوجيا القصة القصيرة في السودان.
يؤكد القصاص بأنّ هؤلاء ممن رفدوا تكوينه الإبداعي كمبدع – كاتب، ومثل بشار الكُتبي، الذي سيفتح مجاله الإجتماعي الأدبي الإبداعي – الثقافي على مجموعة ما صنفهم الشهيد عبد الخالق محجوب كـ (الجيفاريبن). وهم من سمّوا تنظيمهم طلائع الكادحين الثوار – المتأثر بتجارب حركات التحرر في أميركا الجنوبية، والوسطى، وآسيا. بالإضافة إلى أنّ بشار كان من أفضل من تعرف إليهم في تلك المجموعة، ومنهم الطاهر عبد الرحيم، القابع الآن – ربما من من إحباط – في إحدى ضفاف الشمالية، حيث ينحدر من جهة الشايقية.
يقول القصاص الطاهر كان يحضر اليَّ، أوان عملي في المكتبة المركزية، لجامعة الخرطوم كي أُدخله – بالدس- لقسم الدوريات – حيث كان يعلم هذا الذي أعتبره مثقفاً نموذجياً، متبعاً خطى معاوية نور، مطوراً لها. لاحظت انه يقرأ مجلة اليسار الجديد، بالانجليزية، التي ساعرف لاحقا، ان اول رئيس تحرير، هو الجامايكي البريطاني (إستورات هول)، الذي تصبح بصيرته في قضايا الشتات، والتواصل، والهوية، وقضايا أخرى ذات صلة، مما يوسع ماعون التلقي – التفاعل لديّ.
يمضي القصاص في القبض على تعريف المثقف من خلال تجربته فيقول بأنّ هولاء الجيفاريبن لقد ظُنَّ – بسبب الخفة – أنْ لا علاقة لهم بالتراث الماركسي الكلاسيكي. حيث قرأت (الدولة والثورة)، (أصل العائلة والمكلية الخاصة والدولة)، كتابات المادية التاريخية و(المادية العلمية)، منهم، الى جانب (الإنسان ذو البعد الواحد)، ومنهم سمعت وللدقة: ضرورة الفن لارنست فيشر (قراته لاحقا، في المكتبة المدرسية، عبر استاذ نموذجي).
للقصّاص ذاكرة مشحونة بالحنين والتوق لتوثيق تجارب كتاب ومبدعين كثيرين أثروا في تجربته وفي تعدد معارفه. وينبه إلى أهمية دراسة (الهمباتة) نقديا كظاهرة اجتماعية وثقافية، وعدم الركون لقراءتها القديمة المسطحة، وربطها بقضية العدالة الاجتماعية في السودان، ومقارنتها بسرديات غربية مشابهة، وصلت إلينا عبر الكتابة الناقدة، والفنون والسينما.
يشير هنا القصاص خلال هذه المسيرة متنقلاً من حقبة إلى أخرى، تمتد عبر الأمكنة داخل السودان، وخارجه. تمتد من النيل الأزرق في قرية (الشكّابة) وود نوباوي بأمدرمان، وجامعة الخرطوم التي عمل فيها، والتقى الكثير من الكُتاب وتعرّف على ترجمات مهمة، ودوريات عربية وأجنبية. يقف عند محمد عبد الحي، ويعتبره واحد من القليلين الذين يجب إعادة معرفتهم كشاعر وباحث وناقد ومترجم.
وبذات القدر تمنى القصاص إعادة قرءاة سيرة كل من معاوية نور وادريس جماع، لمِا للتجربتبن من ثراء يحقق ضمنيا المعرفة الحقيقية بالمثقف وحياته ودوره، فتغييب هذه الذاكرة يُعدُّ جريمةً في حقِّ أجيالٍ قادمة، منبهاً إلى أن بعث ذاكرة أمريكا اللاتينية جاء عبر كُتابها ومثقفيها، وكيف أصبحت الآن هاجساً يؤرق مضاجع حداثة الغرب، وتقف نداً لها.
يتوقف القصاص أيضاً طويلاً عند كاتبين وناقدين مهمين، هما محمد خلف، وعبد اللطيف على الفكي، وعند اختلاف رؤيتها لماهو ثقافي، وعند عبد الله بولا الذي نبهه في تاسيس نظرة جديدة لافريقيا السوداء، وعند الشاعر الراحل عادل عبد الرحمن، ويقول استطيع أن أقول إن المثقف هو المتوتر، والمختلف، والمخترق.
في البدء كان الشاعر:
كان محورنا الأول حول الشاعر، من هو، وكيف ينظر لمجمل المشهد الشعري السوداني، حيث يرى القصاص ومن وجهة نظر فلسفية أن الشاعر معيارية، يمكن البناء عليها. إذ يؤمن بأنّ مقولة (في البدء كانت الكلمة) مقصودٌ بها الشاعر. كما يمكن تحديد ماهيِّة الشاعر نفسه.
وأرجع القصاص مفاهيم الشِّعريّة لمجمل حقول الإبداع، في التشكيل والتأليف الموسيقى، والكتابة الروائية، ليقول: بالمقابل فإن الكثير من الشعراء في الحقب الشعرية سيجدون نفسهم خارج ماعون هذا التعريف الفلسفي. وبشجاعة متناهية يخرج عادل القصاص أسماء وتجارب من دائرة الجذب والتأثير في تاريخ الشعر السوداني. كما احتفى من خلال حديثه بتجارب شعرية عظيمة بحد وصفه لشعراء سودانيين من مختلف الحقب، منذ التيجاني سعيد مرورا بمحمد المهدي المجذوب، والنور عثمان أبكر، وبآخرين حتى جيل اليوم.
تطرق القصاص لعدد من القضايا المهمة المرتبطة بالعملية الإبداعية في شتى ضروبها، في الشعر والغناء والتشكيل، ويشير في هذا الصدد إلى أنّه قد أثار غضب وحنق الكتيرين بسبب جهره بوجهة نظره وأرائه الصريحة المبذولة على مستوى الندوات أو الميديا الجديدة، مما سبب له حرجاً، لكنه يؤمن في قرارة نفسه بأهمية ربط القيم الإنسانية بالإبداعي والجمالي، وأنه لا يجامل في ذلك. وتحسر القصاص على كثير من الشطط، والتجارب الميتة، كما وصفها، بأن تأخذ حيزاً وجودياً داخل المشهد الثقافي السوداني، برافعة الشلة، أو(البروبغاندا) المضللة، تجارب تحتاج للتحقق من كونها، والبحث في جديتها بحسب حديثه.
المشهد الروائي:
وحول المشهد الروائي السوداني يرى القصاص بأنه ومن خلال القليل من الإصدارات التي طالعها، يستطيع القول :ليس هنالك اختراق يمكن الإشارة اليه، ومبينا بأن كتابة الرواية يجب أن تأتي من عصارة التجربة، وهذا لايعني بالضرورة أن هنالك إشراقات على قلتها.
يقول القصاص بأنّ أيُّ حديثٍ عن الرواية السودانية لايجب أن يمر دون ذكر الطيب صالح، واصفاً إيّاه بالرجل البسيط والزاهد والشجاع في نفس الوقت. فالطيب صالح بحسب القصاص (لو كان يستظل بشجرة مؤسسة أو جماعة، أو حزب على الأقل لنال جائزة نوبل للأدب).
كما تناول القصاص تجربة المرحوم القاص عيسى الحلو، الذي ورث محرر ثقافي بصير، كعبد القدوس الخاتم، في شقيها الإبداعي والصحفي، فتجربة الحلو السردية غنية في لغتها وأسلوبها، كما يمتلك رؤية عظيمة في حبك الشخوص والصور والأمكنة، مشيراً إلى أن الحلو رغم قلة عمله خارج المكتب، بيد أن الديناميكية التي يتمتع بها خلقت منه رائدا ومدرسة في فنون الصحافة الثقافية.
كما تطرق لتجربة بشرى الفاضل القصصية، ويقول (بشرى الفاضل بالنسبة لي من أعظم كتاب القصة على مستوى العالم، وإحدى البلورات العظيمة، في السرديات العظمى لدينا)، حيث هذا إبداع سوداني، يقابله، في الضفة المتوهجة: ابراهيم الكاشف، الذي كان من ضمن مدينة المهدية، التي ضمت اليها، جزافا، (الثورات). يضيف القصاص (أنا هنا اتحدث عن المسام، عن الروائح، عبر الحارات، بما فيها السابعة، وفي الحارة السادسة، كان صاحب الفن – قبل (الكوارع)، محمد أحمد عوض).
ويرى القصاص أنه من غير المنصف أن لا نقول: هذا قول حتى اللحظة ينتمي لـ (الوفاء الاجتماعي).
ونبه القصاص كتاب الرواية إلى مصادر سودانية غنية في الغناء والموسيقي، وفي التراث المادي السوداني، في رموز في ما يسمى بـ (غنا البنات). وكم كان يمنى أن يقابل (حواء الطقطاقة).
ويعود القصاص للمكان ودوره في تكوين المثقف، ويذكر حي العباسية، وهو مصدر مبكر، حيث إحدى جداته، كانت تقطن هناك. وهي الوحيدة التي رآها تربي البط، اسمها آمنة، وبنتها الممرضة في ذلك الوقت، وتمردهما واختلافهما عن السائد، مما يُصنف في الذهنيِّة الشعبية المسلمة بنعوت ساقطة. ويقول سعيت أن أقابل زيدان ابراهيم – ومثما كنت قابلت الجابري، قبل أن يجمعني عمر الطيب الدوش، بالجابري فهذه علاقات الإجتماع والعلاقات المدهشة بناسها – أنا ابنٌ نجيبٌ للتوتر، وسأظل. هذا هو العنوان. في أمكنتها وطبيعة ثقافاتها، يعود القصاص لمعرفته بمحمد خلف، وعبد اللطيف علي الفكي. وفي هذا السياق كانت معرفته بهما من أفضل ما احاله، ليس مباشرة لادوارد سعيد، ثم فيصل دراج، وليس بمعزل عن شاعرمثل سيد أحمد علي، فكل ذلك مصادره الملهمة والمغذية للعمل الإبداعي السردي عنده.
الحرب
سؤال الحرب فرض نفسه بشكل طبيعي، ففي أي حوار أو مقابلة في الوقت الحالي، الذي تندلع فيه الحرب في السودان، وفي الخرطوم. يجد السؤال طريقه. بيد أن سؤال الحرب للمبدع، ولكتاب الشتات، يأتي مختلفا والإجابة عليه كذلك.
كعادته يعود القصاص بذاكرته لحقب زمنية ماضية في أسمرا، العاصمة الإريترية، حيث خاض القصّاص تجربة العمل بجانب الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق. ولسنا هنا في هذا الحوار بصدد نبش تفاصيل هذه التجربة، لكن القصاص يقول، في لقاء جمعني بأكاديميين وسياسيين سودانيين حول القضايا المصيرية السودانية، تنبأت فيها بمقتل قرنق وفق معطيات كانت واضحة للذين يعرفون تقاطعات السياسة الدولية، وفقدان ميزان القوى في تلك المرحلة، حين انهار الاتحاد السوفيتي، وفقدت الاشتراكية حواضنها الأفريقية، كان آخرها نظام منقيستو هيلا مريام. وأن الغرب لن يسمح بأي بعث جديد أو إشراقة جديدة بمثلها مشروع الراحل جون قرنق (السودان الجديد). وبذات فقدان ميزان القوى داخل بنية الحركة الشعبية بعد مقتل قرنق تنبأت بانفصال الجنوب، ومنذ بداية الألفينيات كنت اتخوف من حرب الخرطوم، فكل إشاراتها وظروفها كانت تتمظهر أمام عيون الجميع، واقتربت اكثر إبان فترة حكم الإسلاميين، حيث طغى خطاب المليشيات على الخطاب السياسي.
يقول القصاص: أشعر بالحزن العميق، والقلق، يتضاعف هذا الحزن على سودانيِّ الشتات الذين باتوا معلقين بالداخل، ومشاعرهم تتوزع بين الخرطوم ومدن النزوح الداخلي، ودول الجوار، إحساس مؤلم وقاتل. ويتخوف القصاص من تداعياتها وعنفها وإطالة أمدها في ظل واقع إقليمي ودولي معقد، وغياب الخطاب السياسي الوطني، وإن كان خجولا.