يجزل الكتاب الشعري، الصادر عن دار باركود للعام 2024، العديد من المفاتيح القرائية التي تعين على ارتياد النصوص الشعرية، وتحري داني إلمعاتها وحوافزها الجمالية. حيث يُرسل الغلاف، كواجهة واشية للمتن، الإشارة الأولى لعين وحس ووعي القاريء. وذلك عبر علاماته اللغوية والأيقونية المشعة بمضامين النصوص ومضمراتها. وتأتي لوحة الغلاف مُتراسلة مع دلالة العنوان؛ إذ تلوح كدفقة تبدو كجناح مكسو بجهشة اللون والضوء. حيث تكتمل بالتحالف اللغوي والبصري العتبة الاستهلالية الأولى التي تُشكل مادة التوقع وتُهيئ القاريء لاستقبال النصوص، بل وتٌحرك موسوعته للمشاركة في إعمارها دلالياً، ومحاورتها وملء فراغاتها المحتملة.
ولقد كان بالإمكان أن يُسهم الإخراج الطباعي في تعمير الفضاء البصري للنصوص، وتصعيد فيوضها الدلالية والتأثيرية، وذلك باستثمار المصاحبات التشكيلية الداخلية لتكون حفية بقصود المتن، ومشعة بظلال معاني حقله الدلالي المركزي المبذول عبر التكرار المنتج لمفردات: “أجنحة/ طيور/ ريش/ تحليق”. وما تتيحه بالتالي من إمكانية التمدد الإبداعي من بلاغة اللفظ الى بلاغة الأيقونة البصرية المصاحبة. باعتبار أن البُعد البصري جزء لا ينفصم عن بنية النصوص، ويساهم في تعميق معانيها، والدفع بها إلى أقصى طاقاتها الفنية والانفعالية. هذا بالإضافة لأهمية تجويد المراجعة والضبط اللغوي لتأخذ النصوص تمامها.
ونعود لعتبة الإهداء، كواحدة من أرسخ التقاليد الأدبية، التي تنفتح بدورها على أفق النص الدلالي والمضموني. ويأخذنا الإهداء الكثيف الوضيء إلى بهاء معارج زرياب أزهري ومرقاه الشاهق، وروحه الطليقة التي نفضت مذلة الجسد ورفلت في هالات الحضور الجليل. كما يطوف الإهداء متبتلاً بمقام نازك “رفيقة الأهوال والمحبة”.
والجدير بالملاحظة أن صدور المجموعة الشعرية في هذا التوقيت الحرج يأتي في حد ذاته كجزء ساطع من سجل نضالٍ مديد، وكمقاومة جمالية جاسرة، وصرخة صادحة ضد التقتيل والتخريب والتغييب والإمحاء. وهي تٌسدد رميتها وتٌرسل عدستها المقتحمة الرصادة المحمولة على صهوة الأجنحة لتجوس متوغلة في أرجاء أوجاع الحرب الراهنة، وتحدق في تفاصيلها الطرية وجراحها الفاغرة الغائرة، لتنطق شعراً بأحوالها وأهوالها من داخل اللحظة الحية المٌعاشة.وهي لا تكاد تكف عن تفقد إنسانها ومكانها؛ ما هدمته الحمم، وما تركه المغدورين خلفهم: “أبواب بيوتهم المثقلة بالحنين” التي “تقف مثل شاهد أرقته الفجيعة”. ولا تتردد في أن تكاشف مهانات الاضطرار، وتنزع الغطاء عن قساوات الحرب وبذاءاتها وأوزارها. وتدحض أخدوعاتها وأضاليلها، بل وتجرجر مسخها الزنيم المأفون لتريه هول دمامته وبؤسه في لمع دمع طفلة أوسعتها الحرب رعباً وجوعاً وتشرداً وخذلاناً.
ويلفتنا تواتر مفردة ” أجنحة” إلى دورها البارز كنقطة ارتكاز دلالي، وكشفرة أسلوبية تشع بطاقاتها الإشارية والإيحائية، حيث تتناثر وامضة عبر العناوين: أجنحة عابرة للأزمان، التحليق بلا أجنحة، أجنحة موازية وحكايات مُجنحة. كما تتوامض عبر المتون الشعرية وهي تلوّح بمعاني الانعتاق والانطلاق والإرادة والتجدد. مُستدعية نزوع أبو ذكرى الملحوظ للفضاءات: و”سماوات الطيور النازحة”، ومتراسلة مع متعة الدهشة عند الدوش: ” عصافير نبتت جنحات.. وطارت للغيوم بيها”. وهو الذي يجتمع مع عفيف بآصرة الحس والروح، وحقول الخبرات الإبداعية والرؤيوية المتلاقحة التي تترامى سخية بين المسرح والدراما والشعر.
وهو مما يتلامح في المزاج الحكائي والطبيعة الدرامية للنصوص الشعرية التي تتميز بحيويتها وعافية مخيالها، ومشهديتها الحية المجسمة التي ترسمها ضربات فرشاة الشعر الحصيفة: “شجرة نيم ظامئة”، ” مزيرة مهشمة الأزيار” و”حفيف أمواج النيل الأزرق”، و”جروف الخضروات الطازجة”، و”الوردة التي فاجأها الندى”. وحتى ” روائح البخور المنعشة” و” الرعود الهادرة”، و” زخة مطر” و”دوامات الغبار التي تهب فجأة”. وتتوالى مساردها التي تترى عابقة بترياق الحكايا والمساورات والخواطر. أو تأتي أحياناً كتأملات والتفاتات، أو كذكريات واستدعاءات. وهي تحاور كامل الأفق الإنساني باستمداداتها وبذخها الرمزي، وجرياناتها التحتبة، وكفاءتها التعبيرية المزخرة بالإحالات الثقافية والاجتماعية والبيئية. دون أن نغفل عن فتنة منحوتاتها اللغوية، واكتنازها الدلالي، وارتكاباتها الجمالية الجريئة المتجاوزة لأسيجة الاحتراز.
وهكذا، فلا عجب في أنها تُوشم النصوص الشعرية بمزاجها الحكائي، ورؤاها الدرامية النزاعة للقص، وتداعيها الحر، وتوتراتها وتنوع مشاهدها وشخوصها، وخلفياتها الزمانية والمكانية. بل وقد تكمل نصابها أحياناُ بعنصر المونولوج أو الحوار كما في نص “الدخان يتصاعد مثل أفاعٍ سامة”، ” اسمها نادية”، و”مانون تبيع زهورها الحمراء”. حيث يتجلى عبر النصوص الترابط العضوي المدهش بين الشعري والحكائي والدرامي. والتسريد المستقطر الكثيف الذي يتوخى تخليق الدهشة بتوظف المفارقة الغامزة الذكية، التي تراهن على مفاجأة القاريء وخرق أفق توقعاته. كما في خاتمة نصوص ” خيمة المشردين”، “دخان يئن” و “لا يعرف الموت” و “هدنة غير متوقعة” على سبيل المثال.
ولا ننسى التضمينات المقتصدة، اللاقحة دلالياً وجمالياً وتأثيرياً، وهي ترسل إشارتها اللماحة وخطفاتها البارعة إلى عتائق الأمثولات والمأثورات: “هي تلك القشة / التي لم تقو على حمل ثقل أوجاعي”. أو” بقليل من النسبية/ نستطيع أن نُدخل الفيل من ثُقب إبرة”. وفي مكان آخر: “ليتني حجراً بلا عينين/ حتى لا أُصيب عصفورين”. وكذلك وهي تتآخى بإنسانيتها الرؤوم مع الكائنات والموجودات وكل هبات الطبيعة من حولها، فتأسى على كل ما قطفته من زهور، وما اتلفته من جروف، وما اصطادته من طيور وأسماك و حيوانات برية، وحتى ما قذفته من قوارير بلاستيكية في وجه النهر.
ويختلج صدر النصوص بالكثير، وهي تتلفح بغبار الحياة اليومية وتتقمص عسارها واصطبارها. كما يتهدج بالكثير من الأسئلة والتأملات المتفرسة، والسخرية الواخزة من جهة. والصلات والبرهات الوسيعة المرهونة للمحبة، والاستدعاءات الحميمة؛ لخرائط ونجوع و سجون و” قرى منسية/ في أطراف الكون”. واستحضاراً ل”بائعة الفول المدمس”، والباعة المتجولين وأبناء السبيل والمشردين. وغيرها من اللقطات الإنسانية المقربة: أطفال” يسمعون نداءات أمهاتهم/ لوجبة الغداء”. و” رحلة البذرة الشاقة/ من باطن التراب/ إلى جوف الثمرة”. أو مواكب المسترشدين ب “بوصلة اليقين”، وعودة “الناجون من محرقة الأهوال”، ومن ” فروا قسراً / ليس خوفاً من الموت/ بل طلباٍ للحياة”. ولا تغفل عن أرواح من رحلوا بلا معزين وهي تعود خفيفة: ” ترفرف بأجنحتها الخضراء/ لتسكن أرض أسلافهم”. ويظل المتن الشعري يُرهص، رغم وطأة الواقع الجارح، ببشارات السلام، وطاقات الأمل والانبعاث، وممكنات التشافي والتعافي والإعمار. و “إطلاق الأحلام إلى أقاصي الأجنحة”.