شهادات

زينب،ومتى كان لك بيتٌ غير كبير؟

زينب، أُختي،

أحتملُ كلَّ عِقابٍ، ما خلا عِقاب الموت.

لقد اِلتقيتُكِ، بل قالدتُكِ، كثيراً، بأشكالٍ غير مباشرة. وحينَ عزمتُ على أن ألتقيَكِ، للمرَّةِ الأولى على نحوٍ مباشرٍ، لدى “جيتي” القادمة للبلد، إذا بالموتِ يمُدُّ لي لسانه. والمؤلم أنَّه كان من الممكن أن نلتقيَ لولا أنَّ هذه الجائحة اللَّعينة دفعتني لتأجيل الزِّيارة المُزمَعة، التي كان من المرجَّح أن تتمَّ قبل حوالي أربعةِ أشهر. ليس من عاداتِ الموت أن يتأسَّف؛ كما ليس من عاداتِ الجائحاتِ أن تفعل. أنا من يفعل.

في الحقيقة، لم يكن بعض ما ورد في الفقرة قبل السَّابقة دقيقاً؛ ذلك أنَّني كنتُ قد قرَّرتُ زيارتك خلال “جيَّتي” السَّابقة. ولكنْ لملابساتٍ خارجة عن إرادتي وأخرى غير خارجة عن إرادتي لم أفعل. الآن بوسعك أن تتصوَّري مقدار ما ينخر قلبي، ليس من الألم والأسف فحسب، وإنَّما من النَّدم والخجل أيضاً، لأنَّني سمحتُ للنَّوعِ الثَّاني من الملابسات ألَّاَّ يقودني إليك.

بذهابك، الجسديِّ هذا، تضاعف عندي الألم، الأسف، النَّدم والخجل بسماحي لهذا النَّوع الثَّاني من الملابسات، في “جيَّةٍ” أسبق، ألَّا يحملني إلى زيدان إبراهيم، بالذَّات بعد أن رتَّب لي ابنُ عمِّي وصديقه هيثم طمبل موعداً للزِّيارة والقعدة، التي كنتُ أُخطِّطُ أن تكون بداية سلسلة من القعدات، معه. كنتُ أُريدُ أن أُجري معه حواراً طويلاً، لم يكن من المستبعد أن يغدو كتاباً عنه.

ما أزالُ أتلوَّى من عينِ الألم، الأسف، النَّدم والخجل لأنَّني لم أفِ بوعدي للعم التِّجاني الطَّيِّب لزيارته في منزله، بمعيَّة حسن الجزولي، في “جيَّةٍ” أسبق؛ ولأنَّني لم أذهب لزيارة عثمان حسين، عمر العالم، تاج السِّر مكي، أبو بكر الأمين، سعاد إبراهيم أحمد، حوَّاء الطَّقطاقة، حِمِّيد، خليل إسماعيل، محمَّد عوض كبلُّو، عبد المنعم الخالدي، محمديَّة، كمال عبد الوهاب، عشَّة العويرة، بت المك، طه كابوس ومحمود عبد العزيز . كان، ما يزال، في قائمةِ الوجدان كُثرٌ.

هل ذهابك اللَّاطم هذا مناسبة لأُعذِّبُني، أكثر؟ غالباً.

ها وجهُكِ الوارف، يُهفهِفُني: ألَّا أفعل.

هل تعلمين لماذا ظلَّ قلبي يُلحُّ عليَّ أن أزورك؟

كنتُ سأقولُ لك إنَّني آتٍ إليكم، في بيتكم، البيت الكبير (ومتى كان لك بيتٌ غير كبير؟)، في حيِّ البوستة؛ ذلك البيت الكبير الذي يواجه مبنى مجلس بلديَّة منطقة أم درمان (سابقاً؟)، الذي كان جزءاً من مظهره الخارجيِّ الوسيم يتميَّز بتمساحٍ عُشاريٍّ مُهيبٍ مُحنَّطٍ (هل باعه الكيزان، هو الآخر؟ أم قتلوه باعتباره صنماً)، معلَّقٍ، بهيئةٍ أفقية، على جزءٍ فصيحٍ من الواجهة التي تُطلُّ على منزلكم، كما بساعةِ برجِ المبنى التي تُطلُّ، تقريباً، على ساحة المولد؛ زرتكم في ذلك الـ:بيتنا، أوَّلَ مرَّةٍ، مع يحيى فضل الله، عقب إعلان خطوبته من هادية بدر الدِّين (وأنا أحدُ الذين أصابتني علاقةُ حبِّهما بالنَّدى منذ أيَّام معهد الموسيقى والمسرح)، حيث كان الغرض أن نلتقيَ بوالدك، أعني والدنا، العم بدر الدِّين عبد الرَّحيم، وقد حدث، في باحةِ الحوش. ثمَّ زرتُه مرَّةً ثانية لمناسبة زفاف يحيى وهادية.

كنت سأقول لك إنَّ يحيى فردة من زمان؛ وإنَّ ما بيني وبينه وهادية – بعد جذورِ وعشبِ العلاقة التي تجمعني بهما – الملح والمُلاح، بالذات حين أقَمتُ معهما في القاهرة. كنتُ سأقول لك إنَّ الذي بيني وبين هاشم بدر الدِّين تاريخٌ راسخٌ من لقاءاتٍ حميمة ووجعٍ موضوعي.

كنت سأقول لك إنَّني أرغبُ في إنشاءِ فصلٍ، نواةِ مدرسةٍ لتدريس اللُّغة العربيَّة، لأطفالنا في ملبورن – بمنهجٍ غير انكفائيٍّ، غير عُصابيٍّ، غير دفاعيٍّ، غير هجوميٍّ، لا يُفرِّخُ كيزاناً وأشباهَ كيزان مستقبليِّين/ماضَويِّين – مثلما هو السَّائد في مناهج تدريس اللُّغة العربيَّة في مهاجرنا الغربيَّة؛ حيثُ كنتُ سأطلبُ إليكِ مساعدتي فيما يخصُّ – على سبيل المثال – القصص التي من شأنها أن تربطهم بأوجهٍ مضيئة، ملهمة وممتعة من تراثنا الثَّقافيِّ السُّودانيِّ – المتنوِّع.

كنتُ سأقولُ لكِ حدِّثيني عن تجربتك مع التَّعليم ومع الاتِّحاد النِّسائي؛ حيثُ كنتُ سأُنوِّهُ لكِ أنَّني أقفُ إلى جانب حساسيَّة سعاد إبراهيم أحمد وفاطمة بابكر، رغم محبَّتي لفاطمة أحمد إبراهيم.

كان ذلك الحديث سيتمُّ في مقيلٍ، في ذلك الـ:بيتنا الكبير، (ومتى كان لنا بيتٌ غير كبير؟)، في حيِّ البوستة؛ ذلك البيت، الكبير، الذي يواجه مبنى مجلس بلديَّة منطقة أم درمان (سابقاً؟)، الذي كان جزءاً من مظهره الخارجيِّ الوسيم يتميَّز بتمساحٍ عُشاريٍّ مُهيبٍ مُحنَّطٍ (هل باعه الكيزان، هو الآخر؟ أم قتلوه باعتباره صنماً)، معلَّقٍ على جزءٍ فصيحٍ من الواجهة التي تُطلُّ على منزلكم، كما بساعةِ برج المبنى التي تُطلُّ، تقريباً، على ساحة المولد.

كان ذلك سيتمُّ في مقيلٍ عائليٍّ ذي صينيَّةِ غداءٍ بليغة بمُلاح ورق بالشَّمار الأخضر، بالكسرة، الرَّهيفة، بسلطة خضراء، وربَّما شقفات من الفجل. كنتِ ستسألينني، بابتسامةٍ خضراء، عمَّن الذي أخبرني بأنَّكِ تُتقنينَ طبخَ مُلاحِ الورق؟ كنتُ سأُجيبُكِ بأنَّ جميع قاطني الأحياء الأمدرمانيَّة القديمة، إنَّما هم سليلو الخُضرة.

كنتُ سأُؤجِّلُ أسئلتي لصلاح، محمَّد، بدر وولاء، لأنَّني حتماً سأعود.

وأنتم تقدِّمونني إلى الشَّارع، كنتُ سأعِدُكِ – في الواقع أنَّني أعِدُكِ الآن – أن سيتوقَّعني – مثلاً، كما تحديداً – في “جيَّتي” القادمة: إدمون منير، بشرى وهبة، الفاضل سانتو، مصطفى عبادة، الهادي الضَّلالي، إبراهيم إسحق، شرحبيل أحمد، زكيَّة أبو القاسم، النُّور الجيلاني، عثمان النَّو، شمَّت، علي الأمين، محمود جاه الله، حنان بلوبلو، ندى حليم، محمد الصَّادق الحاج، النَّشادر، خالد حسن عثمان، صلاح، ولاء، بدر ومحمَّد.

أها، شنو ليك؟

ها وجهُكِ يُثمِرُ ضحكةً باسقة.

هل رأيتم شجرةً مقبورة؟

زر الذهاب إلى الأعلى