ثمار

الخطابُ الجماعيُّ

رسالتي إلى الماحي جاءت مثقلةً بهمومِ الكتابة

إضاءة: عادل القصَّاص

قبل هجرته واستقراره في المملكة المتَّحدة، كان محمَّد خلف يراهن، دومًا، على “العمل الثَّقافيِّ الجماعي”. كان ذلك همُّه المركزيُّ حين أسَّس وترأَّس “جماعة تجاوز”. ظلَّ ذلك همُّه لدى تأسيس “اتِّحاد الكُتَّاب السُّودانيِّين”، الَّذي كان، عند تأسيسه على الأقل، يمتُّ بصلة قربى لجماعة “تجاوز”.
لم يتضعضع هَمُّ “العمل الثقافي الجماعي” لدى محمَّد خلف حتَّى حين لجأ إلى الإقامة في المملكة المتَّحدة، في مستهلِّ التِّسعينيات، بنتيجة انقلاب الهوس الدِّيني؛ حيث قام، إلى جانب نفر من المهتمِّين السُّودانيِّين، بتأسيس وتسنُّم رئاسة “رابطة الكُتَّاب والصَّحفيِّين السُّودانيِّين بالمملكة المتَّحدة”، الَّتي أصدرت عددين من نشرةٍ ثقافيَّة غير دوريَّة بعنوان “ألواح”، الَّتي اتَّخذ عددُها الأخير هيئة المجلَّة. قبل ذلك كان قد بادر باجتراح فكرة، ل”للقاء الثقافي الجماعي”، متمثلة في ما نعته ب”الخطاب الجماعي”، وذلك قبل انتشار ظاهرة الإنترنت”، حيث سعى، محمَّد خلف، من خلال “الخطاب الجماعي”، لربط أكبر عددٍ من المثقَّفين والمبدعين السُّودانيِّين، ممن توفر توفرت لديه عناوينهم البريدية، في دول الشَّتات. كما طرح عبره بعضًا من الهموم الثقافيَّة المشتركة والخاصَّة.

ما يلي هو “الخطاب الجماعي”:

لو كنتُ قد كتبتُ إليكَ، قبل الآنَ، لَجَاءَ كلاميَ شعراً. لأنَّ حضورَكَ الدَّائمَ عندي يُعرِّضُني يوميَّاً لِغُوايةِ الكتابة. وأنا، مثلُ ثورٍ نيتشويٍّ عنيد، لا أدنو من الكتابةِ إلَّا إذا اكتملت في يدي أدواتُها جميعُها. خطأٌ غريب! أو لعلَّه حُلمٌ هيغيليٌّ ظلَّ يُراودني منذُ صبايَ الباكر حتَّى لكأنَّه يُصيبُني، مرَّةً وإلى الأبد، بلعنةِ البحثِ عن عنقاءَ مستحيلة.
غيابُكَ الصَّلبُ، مثل مِقبضِ البابِ، أتحسَّسُه يوميَّاً بيدي ويُذَكِّرُني دائماً بترديدِ “مسعودٍ” في أوائل شهرِ أغسطس من “عامِ السُّيولِ والأمطار” لمقولةِ أرسطو الشَّهيرة: “الطَّبيعةُ تكره الفراغ”، هكذا استشهدَ بها “مسعودٌ”، “وهذا الفراغُ الهائلُ الَّذي تركتَه أنتَ برحيلِكَ المُجَدوَل لا بُدَّ أن تأتيَ قوَّةٌ مُماثِلة لِتملأه. و(هل أقولُ بالفعل؟) جاءت تلك الفيضاناتُ الكاسحة لِتُكمِلَ المَهَمَّة.

الماحي علي الماحي
الماحي علي الماحي

الأخ الماحي
أُحِسُّ الآنَ أنَّ تحت تصرُّفي لغةً أستطيعُ صياغتها وإعادة ترتيبها وتنقيحها لِتقولَ ما أُريد. وما أُريدُ لم يَعُد ذلك الحُلمَ الهيغيليَّ النَّبيل بإحاطةٍ كُلِّيَّةٍ لأشياءِ الكون. لقد غادرتني (وأرجو ألَّا يكون ذلك نتيجةً طبيعيَّة لِتقدَّمِ العمرِ) تلك الرُّوح. أُحِسُّ تحت لساني بطعمِ فقدِها، لكنَّ جسمي، بالمقابل، يتمدَّدُ ويحتكُّ ويتلذَّذُ بطزاجةِ العالمِ وتفتُّحِه المدهش عبر كلِّ دقَّةِ قلبٍ، وعند كلِّ خاطرة.
وأنتَ ماذا فعلتَ مع “التَّصعيديَّة”؟ هل حبستَها في قفضِ الكتابة، أم مازالت تتفتَّحُ، كالنَّرجِسِ البريِّ، في فضاءِ الذَّاكرةِ الرَّبيعيَّة؟
هل نحنُ محكومونَ بشفاهيَّةٍ “ألفيَّة”، أم أنَّنا سَحَرَةٌ (لم نطرُد، كما فعلَ الغربُ، شياطينَنا بعدُ) “نُغنِّي بلسانٍ ونرقُصُ بلسان” ونتسامَرُ، إلى الأبد، عبر “طُقوسيَّاتِ” المشافهة؟ أم أنَّ المسافةَ المريعة بين لغتِنا الحيَّة وتاريخِها الماثلِ أمامنا (والمنافسِ لها، في ذاتِ الوقت) لا يُؤهِّلُنا للتَّوثيقِ والمساهمةِ الفاعلة؟ لماذا تعجزُ تلك اللُّغة الَّتي ظللنا نتحاورُ بها منذُ أكثر من عشرينَ سنةً عن أن تقولَنا في صمتٍ وهي تتمدَّدُ كحوريَّاتِ البحرِ في تابوتِ الكتابة؟
ولماذا بعد أن تلقَّينا في مدارسِنا الأوَّليَّة تلك الحزمةَ الأولى من حروفِ الضِّياءِ نتوارى خجلاً حينما تطلُبُ مِنَّا أُمُّهاتُنا وخالاتُنا أن نخُطَّ لهُنَّ مكتوباً للبلد أو لعزيزٍ غائب؟ وهل كان من الممكن أن نقولَ لهُنَّ، حينها، إنَّنا كُنَّا نتهيَّأُ في مدارسِنا تلك، في الحقيقةِ، لأن ننسى، أو إنَّنا كُنَّا، بالفعلِ، نستبدِلُ ألسِنتَنا وضوءَ عيونِنا بوهجٍ قوميٍّ مبين؟ ولماذا لازلنا نقولُ، حتَّى هذه اللَّحظة، “كَدِي موضوع الجوابات دا خليهو شويَّة، أو حأحاوِل أتَّصِل بيك تلفونيَّن؟ ولماذا تضعضعت بعد خروجِ المستعمِر، وبوتائرَ أسرعَ من غيرِها، البنية التَّحتيَّة للبريد؟
أُفكِّرُ، أحياناً، أنَّه من الممكن بمجهوداتٍ متضافرة من كِلَيْنا، بالإضافة إلى “مسعود” و”النُّور” و”هاشم محمَّد صالح” و”بشرى” و”بولا” و”عبد اللَّطيف”، وربَّما تطولُ القائمة، أن نُبدِعَ مقابِلاً صوتيَّاً للغةِ تواصُلِنا اليومي. من الممكن أن نتوصَّلَ إلى كتابةٍ صوتيَّة تُسجِّلُ بدِقَّةٍ علميَّةٍ فائقة كلَّ نبراتِ الكلامِ العادي. وليكُن همُّ هذا المشروع: إحداثَ التَّواصلِ في زمنٍ تباعدت فيه المسافاتُ وتعذَّرت فيه اللُّقيا بين الأهلِ والأصدقاء. وليكُن هذا المشروعُ بديلاً للمحادثاتِ الهاتفيَّةِ المُكلِّفة، “والَّتي تستحيلُ عليَّ، على الأقل، وعلى عددٍ لا يُستهانُ به من السُّودانيِّين البسطاء”. أمَّا أن تتحوَّلَ تلك اللُّغةُ إلى لغةِ إبداعٍ أو أن تسعى إلى إزاحةِ اللُّغةِ الأخرى، فهذا أمرٌ من العسير التَّنبؤء بنتائجِه. لِننجزَ أوَّلاً، على الأقل، خطوةَ التَّواصُلِ الكتابيِّ عبر لغةٍ حميمة قد قالتنا منذُ مدَّة ولازالت تقولُنا بفرحٍ وعنفوانٍ آسِرٍ في كلِّ مجالسِنا وندواتِنا وليالينا السُّودانيَّة العامرة.
في يدي لغةٌ عانيتُ في امتلاكِها رَهَقَاً، وأسعى لكي يمتلكُها الآخرون بدون عناء حتَّى تكتمِلَ بيننا دورةُ التَّواصل. فما هي قيمةُ الأسلوب إن هو “تتربسَ” في دَلالاتِه الأسلوبيَّة؟ (أرجو أن نعملَ قريباً، وبعد الاتِّفاقِ، على تحريرِ الكلماتِ من قيودِ التَّداولِ الَّتي فرضها علينا حُرَّاسُ اللُّغة).
الانفصال عن هيغل لن يتمَّ بغيرِ رضوضٍ وجراحات؛ ولكن، أيُّ ثمنٍ أقلَّ كان يُمكِنُ أن يدفعَه الجسمُ حتَّى يستعيدَ سلطتَه المفقودة؟
نسينا، كالكحوليِّينَ، مذاقَ الرَّشفةِ الأولى. أفقدتنا الأمنيزيا الحضاريَّة طعمَ الحنطةِ ولونَ الصَّباح.
يبدو أنَّ ما يُسمِّيه كمال أبوديب بـ”انهيارِ المرجعيَّة”، يؤسِّسُ، بالفعلِ، فضاءً مفتوحاً لـِ”الكلام”، فهل (ن)أسى لِماضي(نا) أم (ن)فرحُ باستعادتِ(نا) لحقِّ التَّملمُلِ خارجِ فضاءاتِ المحافلِ المُنتِجةِ للخطاب؟
“دُخنا” من الدَّوران في مدارتِ المركز. لم يعُدِ الانفلاتُ ممكناً. قد قبِلنا بوضعيَّتِنا الطَّرَفيَّة، ولكنَّنا لم نتحسَّس، كما ينبغي، أنظولوجيا وضعِنا الطَّرَفي.
هل يدري أبوديب أنَّ انهيارَ المرجعيَّة يشمل، “قبل كلِّ حساب”، إخضاعَ المركزِ المعرفيِّ نفسِه لترتيباتِ المراجعة؟ وأيُّ نواةٍ أبهى وأسطع من ذلك الجدلِ الهيغيلي؟

الأخ الماحي
أُلخِّصُ مشروعي في ثلاثِ مهامَّ رئيسيَّة:
1. مقاومة النَّزعة الإجماليَّة “الهيغيليَّة”.
2. تفادي الدَّوران حول مركزيةٍ إثنيَّةٍ ما.
3.إنتاج الخطاب الرُّشداني، رغم كلِّ الإعاقاتِ الإبستمولوجيَّةِ المتوقَّعة.
ضمن هذه المهامِّ، أُحاوِلُ مطالعةَ الجسد. أقومُ بقراءةٍ واسعة للإنتلجنسيا السُّودانيَّة عبر فروعٍ معرفيَّة متقاطعة: العلوم السِّياسيَّة، والأدب، والتَّاريخ، والأنثروبولوجيا الاجتماعيَّة. وتتفرَّعُ القراءةُ إلى همَّينِ أساسيَّين:
أوَّلاً: بحثٌ أكاديمي
أُحاولُ أن أستقصي بشأنِ “الحوار” الَّذي دارَ بين الصَّفوة المحلِّيَّة المتمثِّلة في القيادةِ السِّياسيَّة لمؤتمرِ الخرِّيجين في بدايةِ الأربعينات والصَّفوة الأجنبيَّة المتمثِّلة في الإداريِّين البريطانيِّين الَّذين كانوا يُديرون الدَّولة “السُّودانيَّة” في تلك الفترة. أُخضِعُ للتَّحليلِ النَّصِّيِّ كافَّةَ المراسلاتِ الَّتي تمَّت بين إبراهيم أحمد ودوغلاس نيوبولد، وأُحاولُ أن أقرأ بين السُّطورِ وخلفِها، وأتشابى فيما وراءِ النُّصوصِ إلى مرجعِها. أتعرَّضُ للخلفيَّة الثَّقافيَّة للمتحاورين أوِ “البنيةِ المعرفيَّةِ الضِّمنيَّة” الَّتي تُنتَجُ في إطارِها الخطاباتُ، وأُحاولُ أن أتبيَّنَ كيف كان ذلك “الحوارُ” ممكِناً، وكيف أنَّه قادَ -في نهايةِ المطافِ- إلى ما يُسمَّى بالاستقلالِ الوطني.
أُطالِعُ لذلك النُّصوصَ الأساسيَّةَ الآتية:
أ. مذكِّرات الإداريِّين البريطانيِّين.
ب. كتابات الأكاديميِّين السُّودانيِّين والبريطانيِّين.
ج. مذكِّرات السِّياسيِّن والإداريِّين السُّودانيِّين.
وأستعينُ في ذلك بمطالعاتيَ السَّابقة و”ونساتي” مع الأصدقاء وخلفيَّتيَ الأكاديميَّة واهتمامي بالنَّقدِ الأدبي؛ وفوق ذلك كلِّه، نظرةٌ منفتِحَةٌ على التَّاريخِ باعتباره سلسلةً من أحداثٍ تدور (أو أدوارٍ تحدُث) في فضاءاتٍ متقاطعة.
ثانياً: كتبٌ ومقالات
وأبدأُ بالطَّيِّب صالح
كتبتُ بحثاً بعنوان “موت ’الزَّين‘ أو ’عُرس‘ الماء: رواية ’عُرس الزَّين‘ كنموذجٍ للحواريَّة النَّصِّيَّة”، ستنشرُه مجلَّة “مواقف” -الَّتي يُحرِّرُها أدونيسُ من باريسَ- في أواخرِ الخريفِ المقبل. وأشتغلُ الآنَ على “الزَّين” في بحثٍ بعنوان “خطاب الأبله”. وفي البالِ، عدَّةُ مقالاتٍ ومشروعُ كتابٍ عنِ الطَّيِّب صالح بعنوان: “المتنُ الرِّوائيُّ المفتوح – دراسةٌ عن فنِّ القصِّ عند الطَّيِّب صالح”.
أعودُ لموضوعِ الكتابةِ مرَّةً أخرى.
الطَّيِّب صالح يقول: :لا أكتُبُ إلَّا إذا بلغ السَّيلُ الزُّبى”، وإنَّ “جميعَ أنواعِ الكتابةِ بغيضٌ إلى نفسي”. وفي كلمةِ النَّاشر الَّتي تصدَّرت كتاب “حول العلاقات السُّودانيَّة المصريَّة” للمرحوم محمَّد عمر بشير، يرى النَّاشرون أنَّ “الإيجازَ والنُّفورَ من الثَّرثرةِ في الكتابة من التَّقاليدِ الحميدة للكُتَّابِ السُّودانيِّين”. وعلى خلافِ ذلك، يرى الأستاذ الشَّاعر محمَّد المكِّي إبراهيم في كتابِه “الفكر السُّوداني: أصولُه وتطوُّرُه” أنَّ ظاهرة “قِصَرِ النَّفَسِ الكتابيِّ والخطابيِّ، ظاهرةٌ سَلبيَّةٌ تماماً، ويعزيها إلى “خمسةِ قرونٍ من التَّصوُّف قد طبعتِ الفكرَ السُّودانيَّ بطابَعٍ غيرِ علمانيٍّ مازلنا نجِدُ رواسبَه في أكثر من مجال”. ودكتور حيدر إبراهيم علي يرى في تصديرِه لكتاب “أزمة الإسلام السِّياسي” أنَّ “السُّودانيَّ رغم ثقافتِه وحِسِّه السِّياسيِّ المتميِّز مازال مرتبطاً بثقافةٍ شفاهيَّة تتبخَّرُ سريعاً بعد انتهاءِ جلساتِ “الونسة”، لذلك كان حجمُ الكتابةِ السُّودانيَّة لا يُماثِلُ القدراتِ والإمكانات، وكادت عادةُ “اللَّاكتابةِ أن تكونَ صفةً لا يخجلُ منها المثقَّفون السُّودانيُّون”.
وحول هذا الهمِّ، كتبَ إليَّ الأخ أسامة الخوَّاض من بلغاريا يقول: “أبهجني أنَّك تكتُب؛ ويبدو أنَّنا في وقتٍ واحد تنبَّهنا إلى ذلك الدَّاءِ وهو المشافهة -علينا أن نبدأَ بتأليفِ الكتبِ، بالتَّفكيرِ العميقِ، بالمشروعاتِ المطوَّلةِ لاستكناهِ ولو جزءٍ من الأسرارِ الَّتي تُغلِّفُ سياقَنا الثَّقافيَّ والتَّاريخي- أُريدُ كتابة مشاريع ضخمة ..في الرَّأسِ تكمُنُ، لكن لا أجِدُ (في الوقتِ الحاضر) المادَّة الَّتي يُمكِنُ أن أشتغِلَ عليها”. وفي رسالةٍ من السُّودان، كتب الأخُ التَّشكيليُّ محمَّد عبد الرَّحمن يقول: “علِمتُ من خطاب أسامة أنَّكَ تُعِدُّ لكتاب. لِنقُل أنَّكَ تكتُب. وهذا غايةُ ما نتمنَّى سماعَه عن كلِّ مَن نفقِدُه بالسَّفر. أتمنَّى أن نتمكَّنَ من مواصلةِ الكتابة، وأتمنَّى أكثر لو تُكَلَّلُ هذه الكتاباتُ بالنَّشر. قرأتُ منذُ فترةٍ نصَّيْنِ في عددٍ واحد من مجلَّة “النَّاقد”. ورغم تواضُعِ النَّصَّيْنِ بين الكتاباتِ العربيَّة الأخرى، فقد سَعِدتُ بمجرَّد إدراجِ أسماءِ كاتبَيْن سودانيَّيْنِ في عددٍ واحد. لو قُدِّرَ لكَ ولأسامة وعبد اللَّطيف المشاركة في حركةِ النَّشرِ العربيَّة الجاريةِ الآنَ لديكم أو في العواصمِ الأوروبيَّةِ الأخرى، لصارَ هذا رصيداً يُحسَبُ لكلِّ مساهمةٍ سودانيَّةٍ مُقبِلة”.
أمَّا أخي وصديقي بابكر الوسيلة، فقد كتب لي يقول: “آتيكَ وبي حرقةُ الصَّوتِ، صوتِ الكلِمةِ، الَّذي هو الآنَ في بطنِ حوت، فكيف يُمكِنُ الخروج؟ وأين يكمُنُ ما يُمكِنُ؟ بي ما يكفي لتبديدِ الوهم -لكنَّني عاجِزٌ تماماً- أنا (مع آخرينَ) مريضٌ جدَّاً بالكلِمةِ نفسِها الَّتي أُعالِجُ بها نفسي، والَّتي أرى أنَّها، بالأريب، ستُعالِجُ العالمَ بأسرِه من أسرِه، لكن كيف؟ بأيِّ الأدواتِ نصنعُ الصَّوتَ المليءَ بالحياة، الصَّوتَ الَّذي يشعرُ به أيُّ إنسان، وكأنَّه هو نفسُه الَّذي خرجَ به ذاتَ ضياءٍ للعالم؛ هو نفسُه الَّذي يملأُ به فضاءَ وجودِه، وسَعةَ موتِه.. لا أُريدُ سوى هذه الرَّجفةَ الَّتي تُبلِّلُ أصابعي بالكتابة، عندما أُعانِقُ إخوتَكَ، أو بالأحرى عندما يكونُ الصَّوتُ جميلاً وغنيَّاً؛ كم أنا فخورٌ بهذا الإخاء ..
“.. كم حاولتُ أن أُعيدَ أشلائي مرَّاتٍ عديداتٍ، ولكن ربَّما خطابٌ كهذا لا يُجدي، أي أنَّ المسألةَ أعقدُ من: كلماتٍ تُكتَب؛ بأيِّ لغةٍ نُعيدُ الأشلاء؟ بأيِّ نارٍ-نورٍ نُشعِلُ نصَّ الكتابة؛ أليست هذه مشكلتُنا، مشكلة ثقافتِنا السُّودانيَّة، في هذا التَّراكمِ اليوميِّ للحديث، دون الكتابة؟ كم نحنُ كثيرونَ بإرثِنا الشَّفهيِّ، قليلونَ جدَّاً بالكتابة”.
بدوري، أذكُرُ أنَّني قلتُ مرَّةً لمسعود: “أُحاولُ بكلِّ ما أوتيتُ من صبرٍ ومثابرةٍ أن أُحوِّلُ طاقةَ الكلامِ الَّتي تملأُ جوانحي إلى كتابة. أعرف مسبقاً أنَّ ما أقومُ به ليس عملاً فرديَّاً حتَّى ترتهِنُ حقيقتُه بما أبذِلُ من جهد. أمامي تراثٌ شفهيٌّ عليَّ أن أتجاوزَه، أمامنا هوَّةٌ حضاريَّة علينا أن نعبُرَها”.
فهل يودِّي هذا الوجعُ الَّذي يتفاقمُ يوميَّاً، هذا التَّأهُّبُ المتستِّرُ تحت السَّطح، هذا التَّشقُّقُ المؤلِمُ في أرضيَّةِ المشافهة – هل يؤدِّي كلُّ ذلك، ذاتَ يومٍ، إلى تفتُّحٍ مُدهِشٍ يعمُرُ حقلَنا الثَّقافيَّ بالكتابة؟
في مراجعتي لمسودَّةِ هذا الخطاب، جاءني من فرنسا مكتوبٌ من الأستاذ التَّشكيلي حسن موسى، مهجوسٌ بنفسِ الهم؛ فقد قال في ثنايا كرتِه ذلك المزركشِ الجميل: “أعملتُ الفكرَ في حكاية التَّلفون الجماعي” الَّتي تطرَّقنا إليها آخرَ مرَّةٍ، وبدت لي الفكرةُ ممكِنةً على أساسِ “جوابٍ جماعي” نتداولُ فيه ونُناقِشُ ونتبادلُ الوُجهاتِ ونُثرثِرُ ما شاء لنا شكلُ الجواب. ذلك أنَّ شكلَ الجواب على مرونةٍ وعلى سَعةٍ وعلى سهولةٍ ممَّا يجعلُه يتجاوزُ وسائلَ الكتابةِ الأخرى من نشراتٍ وصحفٍ ومجلَّاتٍ وكرَّاساتٍ إلخ.. والفكرةُ هي توسيعُ دائرةِ الجواب لِما وراء ثنائيَّةِ المُرسَل إليه والرَّاسل، بحيثُ تشمل مَن يهُمُّه الأمرَ من الصِّحابِ الَّذين قد يدلونَ بدلوهم بدورِهم [وقد نتجاوزُ دائرة الصِّحاب إلى دائرةِ الأشخاصِ المعنيِّينَ بموضوعِ المناقشة/الونسة]. وأقترِحُ تعميماً للكتابةِ الجواباتيَّة عن طريقِ تقنيةٍ سهلة ومتيسِّرة كالفوتوكوبي مثلاً”.
إنَّني أقرأُ الآنَ هذا الكلام والدَّهشةُ تتملَّكني من جميعِ الأقطار، فقد كنتُ مُزمِعاً بالفعلِ على إرسالِ صورةٍ من هذا الخطاب إلى الأخ مسعود. وها أنذا الآنَ، استباقاً لإذنِكَ وتيمُّناً به، أوسِّعُ دائرةَ تلك الثُّنائيَّة بإرسالِ صورةٍ من هذا الخطاب لكلٍّ من: مسعود وحسن موسى وهاشم وبولا وبشرى وأسامة وكارلوس وعبد اللَّطيف وبابكر ومحمَّد عبد الرَّحمن والنُّور وحيدر إبراهيم علي. على أن تظهرَ التَّفاصيلُ الخاصَّة -إن وُجِدَت- في الصُّورةِ الخاصَّة أو على هامشِها، وأن تُكتَبَ تلك الحاشية -إن أمكن- بالعامِّيَّة السُّودانيَّة: لغةِ التَّواصلِ اليومي، وبتقنياتٍ غراماتولوجيَّة مُستحدَثة نُشارِكُ جميعاً في صَقلِها وتسليكِها والتَّواضُعِ على استعمالِها.

 

(محمَّد خلف – 31 أغسطس 1992)

زر الذهاب إلى الأعلى