شهادات

هل أغنية أمدرمان امتداد لتضييق واسع للتنوع بالسودان؟

يمثل شهر رمضان مناسبة خصبة للتدافع المحموم من قبل الفضائيات السودانية لانتاج برامج تعمل كلها لاعادة تدوير أغنية الوسط الحضري للسودان، ماركة أمدرمان، المعروفة بالأغنية “السودانية” من قبل المؤسسات الاعلامية الرسمية وغير الرسمية. ولكن، الى أية مدى يصح أن نطلق عليها الاغنية “السودانية”؟ وماهي المعايير الموضوعية لحقيقة هذا الادعاء؟ وهل هي بريئة من سياسات تمثل الذات للآخر التي انتظمت سياسات المركز في تصوره لفرض هوية قومية آحادية على مقياس تصوراته، والتي لا مكان فيها للآخر سوى الالحاق والتبعية؟

كل هذه الاسئلة تستدعي منا الولوج عميقا في تاريخ هذه الاغنية وملابسات انتخابها قسرا، كما نعتقد، في محاولة منا لازالة غشاء “البداهة” الذي تعمل عليه وتنتفع منه المؤسسات الرسمية وغير الرسمية للجماعة المهيمنة ثقافيا لفرض نموذجها الجمالي وتعميمه كانتخاب طبيعي، حسب المفهوم الدارويني، وما الأمر كذلك  متى ما عملنا على تفكيك البنى والميكانيزمات السببية التي يختبيء خلفها هذا “الانتخاب”.

legitimizing myths شرعنة الاسطورة 

من منظور نظرية الهيمنة الاجتماعية، فإن المؤسسات الرسمية وغير الرسمية للثقافة المهيمنة تعمل بشكل منظم ومنهجي على تطبيع سلوكها ونسق متواضعاتها الاجتماعية والاخلاقية والجمالية على الاقليات مستثمرة في ذلك الامتيازات التاريخية التي حصلت عليها، وميل ميزان علائق القوى لصالحها لتمرير خطاباتها المتعددة بحيث يصبح نفوذ الثقافة المهيمنة بمرور الوقت وكأنه سلوك طبيعي تنبع قيمته من تفوقه الذاتي وليس نتاج عوامل خارجية ، وهو ما يسميه الباحثان (اليشا براتو وأندرو استيوارت) بـ”شرعنة الاسطورة”.

ففي حالة ما يعرف بالاغنية السودانية، أو الفعل الثقافي اجمالا للمركز الحضري للسودان، نجد أن هناك نزعة حد الهوس في استخدام مصطلح “سوداني” لكل فعل أو سلوك صادر عن الجماعة المهيمنة ومحاولة اكسابه صفة القومية وبما يتناقض بالكلية مع حقائق التنوع الاثني والثقافي واللغوي التي يتمتع بها السودان. وما هذا الاصرار على هذه “السودانية” المركزية، الا تأكيد على “شرعنة أسطورة” أُحادية الهُويّة الذي لا يوجد الا في مُخيّلة من يتبنونه دون اعتبار لحقائق الواقع الذي يفصح عن تعدده في كل تجلياته وسكناته. لاحظت الباحثة الهولندية (ناستاجا)، أن تقييم أنواع الغناء في السودان ذو صلة وثيقة بسياسات الهوية والطبقة. فعلى حسب رأيها، فإن نخب الوسط النيلي يفضلون ما يعرف بأغنية أمدرمان، أغنية الحضر للوسط النيلي، وهي تسمى عندهم بالاغنية السودانية، لأن هذه النخب تعتقد أن البنية الثقافية للسودان قائمة على ثقافتهم، وهو، في تقديرها،  ادعاء غير دقيق وينطوي على شوفينية عرقية وثقافية. على ذات المنوال، يرى الباحث في الثقافة، د. محمد أبو سبيب، إنّ الأستخدام  الايديولوجي للفن والثقافة اجمالا كان جزءا لا يتجزأ من تاريخ الصراع السياسي في السودان، لذلك أي حديث لا يستدعي هذا الدور الايديولوجي في صراعات الهوية النازعة لتثبيت قيم المركزية العروبوية، يجعل من التصدي النقدي لمشروع سودان ما بعد الاستعمار ناقصا.

لا شك أن الملاحظات النقدية لـ(ناستاجا) و (أبوسبيب) تحمل قدرا من الوجاهة والموضوعية متى ما أخضعنا العناصر الاساسية التي قامت على قواعدها تصورات الهوية العرب اسلامية للنقد بوصفها عناصر بناء الهوية القومية لجموع شعوب السودان. فكل سياسات دولة ما بعد الاستعمار قامت على تأكيد أن الاسلام هو دين الدولة واللغة العربية هي اللغة الرسمية، وناتج خليط تلاقحهم المستمر ممثلا في الثقافة العربسلامية، كإنعكاس للثقافة المهيمنة بمختلف تجلياتها، ومجسدا لقيم وأخلاق الجماعة الميهمنة. بناء على ذلك، يمكن القول  إن موسيقى وأغنية أمدرمان هي منتج ثقافي وانعكاس بدرجة ما للخطاب السائد، الذي يسعى جاهدا لمأسسة الصفات الثقافية والقيمية لأهل الوسط النيلي واعطائها طابعا تعميميا يعمل على الحاق السودان بالمنظومة السياسية العرب اسلامية، كما في قول أبو سبيب.

الخصائص الثقافية لأغنية أمدرمان:

يستبطن  الفن، بما في ذلك الغناء، قيم المجتمع وأخلاقياته وسماته الثقافية السائدة، ان كان ذلك بشكل صريح أو محايث، مع أنه، أي الفن، يسعى في ذات الوقت للتقاطع مع السائد والمألوف بما في ذلك القيم السائدة في محاولة لتجاوزها أو الاضافة اليها، وكل ذلك يتم في سياق جدلية خلاّقة، حسب درجة التسامح التي يبديها المجتمع وقوة التمرد التي يتمتع بها المشروع الجمالي، اجمالا.

من هذا المنطلق، يمكن القول أن أغنية أمدرمان تستبطن بشكل ما المعايير الجمالية والقيمية والاخلاقية للثقافة العرب اسلامية المهيمنة. فاحتشاد الكثير من هذه الاغاني بالتعابير الجمالية المستوردة من الشعر العربي الذي يحتفي ويتباهى بلون البشرة وطول وانسدال الشعر وحور العيون،  والتلميحات العنصرية “لابس الحر قلادة”، كما أبان الكاتب (مصطفى بحيري) بحصافة نقدية مجبول عليها في صفحتة بالفيس بوك، ما يفيض على مساحة هذه المقالة. على المستوى الاخلاقي، ظلت الأغنية أثيرة لمفاهيم الحشمة والسيطرة على الجسد من غواية التطريب. فأغنية أمدرمان التي توسلت في بداياتها القالب اللحني للمدائح النبوية كضرب من الفن الديني، ظلت حتى وقت قريب أمينة لقالبه اللحني، معلية من قيمة الشعر وما يجود به من ايقاع داخلي على حساب التأليف الموسيقي، حتى أضحت معه الأغنية “السودانية” تقيّم بدرجة الجودة التي يحوز عليها الشعر وليس الموسيقى، بل وعلى المستوى الرسمي تكونت لها لجنة نصوص شعرية مكونة من سوامق شعراء الأغنية المعروفين، تبِت في صلاحية الأغنية من عدمها، والاعتراف بأهلية المُغني يتم بناء على تقييم هذه اللجنة المحصورة في نخب شعراء أمدرمان وذائقتهم.

يكثر القول بأن أمدرمان نفسها تشكل مزيجا فريدا في التنوع الاثني والثقافي تكاد أن تكون معه سودانا مصغرا. ربما يكون هذا الرأي صحيحا على مستوى التوصيف الظاهري، ولكنه ايضا يستبطن رأيا مخاتلا يتهيب الغوص في عمق الظاهرة الامدرمانية وما انتهى اليه هذا النسيج الفريد من التنوع بفعل السياسات الآيديولوجية للدولة والرامية لاستيعاب الاقليات بكافة الوسائل، والدفع بهم في اتجاه الذوبان في الهوية العرب اسلامية، هوية أهل الثقافة المهيمنة. لم تسمح السياسات الرسمية للدولة لهذا التنوع أن يعبر عن نفسه ثقافيا وفنيا، ولم توفر له المناخ والتحفيز المناسب لينمو ويساهم في اغناء المشهد الجمالي، على العكس من ذلك، تم تهميش هذه الثقافات بما في ذلك الضروب المختلفة والمتنوعة للغناء الذي كانت تمور به أمدرمان، والذي في جله كان يرتكز على حرارة الايقاعات وطلاقة الاجساد مصحوبا بالتعابير الشعرية الرشيقة والبسيطة.

حوربت هذه الأغاني وجرمت اخلاقيا، واعتبرت مهددا أخلاقيا يعمل على تهتك وتفكك المجتمع، وأرغم مبدعيها على تبني النسق الموسيقي الذي بدأ يتشكل ويكتسب الشرعية المؤسسية  باعتباره الفن المعبر عن الذوق والمزاج العام، وبشكل أصبح وكأنه نوع من الانتخاب الطبيعي، وليس اكراها مؤسسيا تقف خلفه الدولة بكامل مؤسساتها  الرسمية والشعبية. الصرامة الاخلاقية المحافظة للثقافة المهيمنة فرضت حصارا اخلاقيا على المُغني والأغنية وعلى مدى حرية التعبير الجسدي، كما يجسده فن الرقص. فتعبير “البشير” – طرقعة الاصابع- في حالة الطرب، ما هو الا تجسيد لهذه الحالة من ضبط ايقاع الجسد والتحكم في انفعالاته وبما يتماشى مع مفهوم الاحتشام كما تجسده معايير الثقافة السائدة، وتطاول القمع لاحقا حتى أصبح في زماننا الحاضر، وتحت وطأة “المشروع الحضاري” للحركة الاسلامية، جلوس الفنان على الكرسي وهو يغني، من المسلمات التلفزيونية. هذا الامعان في تحجيم الفنان وجسده ونسق غنائه ربما يبرر رد الفعل الغاضب الذي قوبلت وما انفكت تقابل به بعض الاختراقات الابداعية التي تحدث، والتي وفقا لهذا التنميط، لا تتماشى مع شخصية أغنية المركز “الرصينة”. فتاريخ الحقيبة يحدثنا عن ردة الفعل الغاضبة حيال إيقاع (التم تم) الوافد من كوستي الرديف في أربعينات القرن الماضي. فالهلع الذي ساد وقتها، والذعر الذي انتاب القائمين على أمر القولبة الأخلاقية لأغنية أمدرمان، فاق كل توقع كما تشيء بذلك مراجع تاريخ الأغنية المتوفرة، الشفاهي منها والمكتوب. حُورب وقتها (التم تم) بضراوة، وجرت محاولات مُضنية لالحاقِه ببيت الطاعة وحصره داخل “حوش النسوان”، كغناء “بنات”، ومع ذلك لم يخفت حضوره، ووقع مغنيو الحقيبة تحت سطوة جاذبيته، وتبنوه كلونية غنائية مع كل الهجمة الاخلاقية الشرسة التي ظلت تقدح في “رجولة” الصادحين على إيقاعه. انتصر (التم تم) في معركة الاخلاق ودمج في أغنية الحقيبة ووريثتها أغنية أمدرمان، وخضع لمعايير الغناء السائد والقائم على التزكية الشعرية للأغنية، فظهر ما يعرف بالتم تم “الراقي” على حد تعبير الباحثة الأنثربولوجية (سعدية مالك)، والذي يتمايز عن التم تم “المتهتك” اخلاقيا بقرينة الدلوكة والشعر النسائي!، خاضعا لآليات ضبط المزاج السماعي، والذوق الاخلاقي المؤسس على قواعد وقوالب الثقافة المهيمنة، أكثر من كونه تعبيرا عن الاعتراف بالتعددية الثقافية.

أغاني البنات:

عانت الاطلالة النسائية في المشهد الغنائي من فظاظة المعايير الاخلاقية الصارمة لما يجب أن يكون عليه الغناء، وحُصر نشاطهن الابداعي بين جدران المنازل “الحيشان”، وكان مقصورا على تطريب أهل البيت الكبير، أو في حلقات الزأر، أو تعليم العروس في مناسبات الأفراح. كل هذه النماذج الغنائية في أزمان سابقة كانت تؤدى عن طريق النساء المسترقات، وظل مرتبطا بهم حتى بعد الغاء الرق.

بناء على هذه الخلفية التاريخية، ظل ارتياد النساء للغناء، وحتى وقت قريب، يرقى الى مستوى الجريمة، وحتى عندما حصل الارتياد كفاحا، وُجِهن بسيف الابتزاز الاخلاقي، خصوصا تلك اللونية من الغناء المرتبطة باستخدام وايقاع الدلوكة، أو ما تعارف عليه بـ”غناء البنات”. وكما لاحظت الدكتورة (سعدية مالك)، فإن هناك فصلا اجرائيا قوامه المعايير العنصرية والاخلاقية، عمل على تقسيم الغناء النسائي الى: “”فنانات و”غنّايات”. فالفنانات يُمثلن النُخبة المتعلمة من الفنانات واللآتي في الغالب الأعم ينحدرن من الوسط النيلي، وحاصلات على تعليم نظامي بالمعهد العالي للموسيقى والمسرح، أو التعليم العالي عموما، وينتهجن النسق الغنائي السائد، ويقفن خلف ذات الفرقة الموسيقية للمغنيين الرجال، ويعتمدن في انتاجهن على الشعراء  والملحنيين المعروفين من الرجال. بينما، الغنّاية أو “القونة” بلغة هذه الأيام، والمصطلح لا يخلو من تلميحات عنصرية، في الغالب الاعم تنحدر من أصول غير شمالية، وتعتمد غناء الدلوكة وكلمات والحان النساء المعروفات في هذا المضمار. والفصل هنا اخلاقي بالمطلق، وليس فني. فالغنّاية تمثل في غنائها وآدائها بالنسبة للرأي العام السائد، كل مظاهر الانحلال والتهتك والسيولة الاخلاقية من خلال الفن “الهابط” الذي تؤديه وتروج له، بينما الفنانة هي تعبير عن ارتقاء الغناء النسائي الى درجة “الاحترام” وفقا للمعايير الاخلاقية المنصوص عليها، والتي تجسدها أغنية امدرمان “المجازة”.

الفن كوسيلة ناعمة للاستيعاب:

لم تؤخذ أغنية أمدرمان بشكل جدي في كل المحاولات النقدية التي تتناول أزمة الهوية في السودان الكولونيالي. والسبب ربما يكمن في طبيعة الغناء والموسيقى عموما، كخطاب جمالي ووسيلة سياسية لا يظهر فيها عنف الدولة بشكل سافر، كما هو الحال مع عناصر الهوية الأخرى مثل الدين واللغة، ومع ذلك، يمكن رصده كوسيلة أيديولوجية ناعمة للاستيعاب، تنتهج أكثر الطرق محايثة في محاولة فرض وإقرار الثقافة السائدة على “الآخر”  المختلف، بحيث تبدو مع مرور الوقت وكأن نفوذها وحضورها القوي ودورها في تشكيل الوجدان العام أمرا طبيعيا نابعا من تفوقها الذاتي. وربما، وبالتضاد من ذلك، يمكن القول أن العنف المفرط الذي صاحب عمليتي التعريب والاسلمة القسريتين في السودان، وما ترتب عليهما من حروب أهلية دامية وعدم استقرار سياسي متواصل، قد طغى على الجانب الناعم من عملية الاستيعاب القسري، التي تبنتها دولة ما بعد الاستعمار بغرض فرض هوية قومية قوامها الدين واللغة والوجدان، تعمل على توحيد شعوب السودان تحت مظلة الهوية العرب اسلامية كما تخيلها نخب أهل الثقافة الغالبة من أهل شمال الوسط النيلي.

وفي هذا الصدد، يقول الدكتور أبوسبيب، أن الفن يمثل قيمة أعلى في المشروع الجمالي لأي مجتمع، لأنه يحتكم ضمن عناصر أخرى، على إمكانية استثماره في صراع السلطة والحصول عليها من واقع كونها، أي السلطة، بعدا من أبعاد علائق القوى في الحيز الاجتماعي المعين. من هنا، ووفقا لمعطيات الواقع السوداني بالغ التعقيد الاثني والثقافي، كان وما زال الفن في قلب صراع الهوية للسودان الحديث. هذا يعني، أن مؤسسات الدولة منذ فجر الاستقلال وحتى راهن يومنا هذا، تبدو متورطة في تحيزها الايديولوجي السافر لكل ما يُثبّت ويُعزز من الهوية العرب اسلامية في شتى مناحي وضروب الحياة، بما في ذلك ما يعرف بالاغنية “السودانية” والتي فرضت منذ بدء قيام الاذاعة في العام 1941، ومن بعد التلفزيون، كمنابر إعلامية قومية،  كأغنية “سودانية” تعبر افتراضا عن المزاج والذائقة السمعية لجموع شعوب السودان، وكل ذلك بالتزامن مع تجاهل متعمد للثقافات الأثنية المتعددة وإحالتها الى مجرد فلوكلور شعبي يعرض في المناسبات السياسية والثقافية العابرة، وبتقادم الزمن، إحتكرت هذه الأغنية القابا أخلاقية تميزها عن غيرها، مثل لقب أغنية “راقية” و “محترمة” و “رصينة”، وصار لزاما على الفنان بالمقابل أن يكون فنانا “محترما” طالما أنه حريص على ضبط ايقاع جسده وانفعالاته، وكلمات أغنياته تنزع لـ”الرصانة”. وبالتضاد، إنتهى الأمر بالأغاني التي لا تنطبق عليها هذه الأوصاف  لنعتها بالأغاني “الهابطة”.

برنامج أغاني وأغاني كرد فعل لتحولات الخرطوم الكبرى:

لا يمكن فهم ظاهرة برنامج أغاني وأغاني والكثير من برامج الفضائيات المستنسخة منه الا في اطار فهمنا للمتغيرات الداخلية والعالمية التي القت بظلالها على واقع الخرطوم وعموم السودان. فالنمو المضطرد للخرطوم وتحولها الى ميتروبولس منذ أوائل ثمانينات القرن الماضي، إثر اندلاع حرب الجنوب مرة أخرى بضراوة بعد انهيار اتفاقية أديس أبابا، والمجاعة التي ضربت الكثير من أجزاء السودان، وما تبعها من نزوح كبير نحو العاصمة، اضافة للانهيار الاقتصادي الذي لازم حكومة مايو وما بعدها من أنظمة، عمل على مضاعفة عدد سكان الخرطوم بشكل مذهل، وتوسعت معه بشكل مهول، كما تفارزت كيمانها طبقيا وأثنيا، وبدرجة ملحوظة نشأت ثقافة هامش حيث تمركز الوافدين في الأطراف التي باتت أقرب للمجتمعات المغلقة، اشتبكت فيه مع الثقافة المهيمنة جدليا بشكل مختلف تماما عما كان سائدا من قبل. هناك أيضا العامل الخارجي ممثلا في تنامي ظاهرة العولمة وتهشيمها للمركزيات الثقافية تحت تأثير الثورة التكنولوجية عبر تقينة الانترنت وما صحبه من تدفق معلوماتي، أفرز وعيا وحساسية مغايرة لمفاهيم الثقافة الميهمنة ورفد في ذات الوقت الأقليات في المجتمعات المتعددة اثنيا وثقافيا ولغويا ودينيا، بأدوات مفاهيمية وخطابية تستعيد بها ذاكرتها المستلبة كما تعمل على ترميمها واعادة اختراعها في وجه سياسات الاستيعاب القسري والناعم.

هذا هو واقع الخرطوم المتروبولس الجديد، واقع ساهم فيه الانترنت في تراخي القبضة الاعلامية الرسمية واحتكارها  للمعايير، بما في ذلك الغناء والموسيقى، كما كان الحال سابقا. واقع إنفتحت فيه الفضاءات الاسفيرية لصالح معادلة جديدة، لا تخضع فيها الاقليات لشروط المركز الثقافي ومزاجه الجمالي ومعياره الأخلاقي. واقع خرج بـ”غناء البنات” الى الفضاء الطلق خارج حدود السباتا، مع “القونات”، وازدهرت تراكيب غنائية غير مألوفة اصطلح عليها بـ”الزنق” أشعلت ليالي تخوم الخرطوم، التي لم تعد في حوجة لاذن أو تقييم مؤسسات المركز الرسمية، بالايقاعات الحارة الحاضة على اطلاق حرية الجسد بأنواع عديدة من الرقص الايقاعي، والمفردة التي لا تولي عناية كبيرة لمفهوم “العيب” الاجتماعي وفقا لمعايير وأخلاقيات الثقافة المهيمنة.

اتساقا مع هذه المتغيرات، يمكن القول، أن برنامج “أغاني وأغاني” الشهير، يمثل أحد افرازات هذا الواقع، ورد فعل متوقع من سدنة المركزية الثقافية لاستعادة زمام المبادرة في توجيه الذوق العام وفقا للمتواضعات

السر قدور

السائدة، خصوصا في فترة الانقاذ التي تعتبر أكثر الايديولوجيات الرامية لتعريب وأسلمة السودان تطرفا في سياساتها. في تقديري، هذا هو الواقع الذي أنتج هذا البرنامج الممول بسخاء والمتطاول في الزمن، بفضل الحضور الكارزمي للاستاذ السر قدور. فبرنامج “أغاني وأغاني” يمثل آخر خط دفاع للثقافة المهيمنة في ظل واقع اتسم بتفكك المركزية الاعلامية وتراخي قبضتها الايديولوجية في فرض معاييرها عبر خطابها الثقافي والاخلاقي المهيمن، كما كان الأمر سابقا. فالسر قدور أُنتخِب لأنقاذ أغنية أمدرمان في محاولة لاستعادة دورها الريادي كممثل أوحد للذوق “السوداني” والوجدان العام، وهو دور يناسب تماما السر قدور، بأعتباره أحد أساطين هذا المشروع الفني بالاصالة، وله اسهامه المقدر فيه، وبالتالي فهو الأقدر على الدفاع عنه والترويج له في ظل “هجمة” موسيقى التخوم الشرسة. فالسر قدور يمثل البعد الرمزي والاسطوري للمشروع. فقد حباه الله بطول العمر، ليجسد نمط الاسطورة التي تمشي بين الناس وتحكي كشاهد عيان، بغض النظر عن درجة موثوقية حكيه، وكاتب للتاريخ لواحدة من أخصب فترات ميلاد وازدهار ما يعرف بأغنية أمدرمان، ساردا لحظة ميلادها ونشأتها وتطورها بتقمص درامي شفاهي آسر. وها نحن نشهد الآن تناسل ذات الفكرة في عدد من الفضائيات الخرطومية ممولة بذات السخاء لتحقيق ذات الهدف، الا وهو، تغييب حقيقة التنوع الموسيقي الذي يزخر به السودان لصالح تصور آحادي مُفتعل قوامه أن أغنية أمدرمان هي الأغنية “السودانية” المعرفة بالالف واللام، وما دونها من لونيات تندرج في عداد الفلكلور، في أحسن الأحوال، أو “غناء القونات” أو الفن “الهابط” إمعانا في التحقير. فبرنامج “أغاني وأغاني” في محصلة التحليل، هو إمتداد لسياسات تمثل الذات للآخر، كما هي قائمة وفاعلة منذ الاستقلال، وبأشكالها المتعددة، واستجاباتها المتغيرة وفقا للظروف والأحوال والتحديات التي تحيط بالمشروع من حين لآخر.

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فمن المفارقات، أن الحركة الاسلامية كانت أول من انتبه الى التغير الديمغرافي الذي طال الخرطوم، ورأت فيه عقبة لتطبيق مشروعها المعروف بـ”المشروع الحضاري” الرامي لأسلمة وتعريب الخرطوم والسودان عموما وفقا لتصوراتها، لذلك سارعت باستدعاء أحد علماء الاجتماع والتخطيط الحضري، الأمريكي المسلم دكتور (عبد المالك سيمون) للقيام بهذه المهمة. ولكن كانت توصياته عكس ما يشتهون، فتم اهماله، كما ذكر ذلك في مقدمة كتابه المعروف (في أية صورة: الاسلام السياسي والممارسة الحضرية في السودان).

أغنية أمدرمان: سياسة التعريب في شكل أغنية

أتفق الباحثان في الموسيقى: الدكتور الفاتح الطاهر والموسيقار جمعة جابر على أن نفوذ الثقافة العربية على الموسيقى والأغنية “السودانية” طاغيا، في حين أن كل منهما أخذ مسارا مختلفا في تفسيره للظاهرة. دكتور الطاهر يرجع تبني النهج العربي في الموسيقى للاستعراب الذي تم لشمال السودان بواسطة اللغة العربية ونهج التدين الصوفي الوافد بعد دخول الاسلام، بينما التيمة الاساسية للموسيقار جمعة جابر تنزع لترجيح هُجنة الموسيقى السودانية ممثلة في سلمها الخماسي، بخصائصه الافريقية والعربية كنتيجة للتلاقح الذي تم بين الحضارتين النوبية والاسلامية. جابر يرفض تماما فرضية أن الأغنية السودانية هي أغنية أفريقية بالمطلق، لأن ذلك يعني نكران تأثير اللغة العربية والاسلام على الثقافة الغالبة التي أنتجت نموذج الأغنية السائدة. لم يتطرق الباحثان الى سياسة التعريب كأستراتيجية دولة ودورها في الامتياز الذي حصلت عليه أغنية أمدرمان كأغنية عموم السودان عبر المؤسسات الثقافية والاعلامية والتعليمية للدولة، الاّ أنه يمكن القول أن تشديدهما على أثر الثقافة العرب اسلامية على الخصائص الفنية لأغنية أمدرمان يظل بحثا تأريخيا ساكنا تجاهل دور السياسات الرسمية لدولة ما بعد الاستعمار ونفوذها في تمتين هذا المنحى الذي وسم أغنية أمدرمان فيما بعد. ومن المعروف أن التعريب إتخذ منحنى استراتيجيا في سياسات النخب السياسية لدولة ما بعد الاستقلال، خصوصا في فترة الرئيس إبراهيم عبود، والتي انتهج فيها سياسة التعريب والأسلمة القسريتين في الجنوب، وجبال النوبة، والتعريب في دارفور. كان عالم الاجتماع المعروف، الدكتور شريف حرير ذكر في ندوة أقامها منتدى سوداناب بأستراليا، أن تعلم اللغة العربية كان استراتيجية مفروضة بإكراه الدولة على إقليم دارفور، وانتهجت فيها  القسوة التي مورست عليهم كأطفال، وهي قسوة تصل حد الضرب متى ما تحدث الطفل بلغة أهله، كما أعتمدت على تعيين الوشاه بالداخليات في التبليغ على كل من يتحدث لغة أهله، لينال حظه من العقاب الرادع. هذا النهج من سياسة الاستيعاب القسري، أفضى الى انتشار اللغة العربية بشكل واسع ولكنه لم يفضي الى نجاح التعريب كثقافة، كما كانت تأمل المؤسسة السياسية، على حد تعبير الباحثة الأمريكية (هيثر شاركي). والتعريب المقصود هنا هو فرض الثقافة العرب اسلامية على شعوب السودان المختلفة، عبر وسائل التعليم الرسمي والمؤسسة الاعلامية الرسمية ومنظمات التبشير الدينية، والسبب في ذلك، كما ترى (شاركي)، أنها قامت على قواعد الاستعلاء الثقافي والعرقي للجماعة المهيمنة، وهو استعلاء، كما في عبارة جبارة للدكتور عبد الله علي ابراهيم، يكمن في إصرارنا على تحويل “هامشيتنا إلى هاشمية”!

الخلاصة:

على الرغم من أن هناك بعض الكتابات النقدية المتناثرة والتي لها مآخذ فنية على أغنية أمدرمان، من شاكلة أنها أغنية دائرية، مكررة الالحان، بها حشد من الآلات الوترية فيما غير داعي، وتُعلّي من قيمة الشعر على حساب الموسيقى.. الخ، الاّ أنه ومع ذلك، يمكن القول أن أغنية أمدرمان حققت انتشارا واسعا وقبولا ملحوظا، لعب فيه انتشار اللغة العربية وسياسات الدولة القصدية عبر أجهزتها الاعلامية المحتكرة والقائمة على تنفيذ سياسة استعياب الاقليات قسريا، والهجرة المتزايدة من الهامش للمركز، دورا مقدرا في ذلك منذ الاستقلال وحتى راهن اللحظة.  وهو انتشار لم يقم على احترام التعدد الثقافي، والاحتفاء به كتنوع يعمل على اثراء واغناء المشهد الابداعي ككل، كما هو الحال مع الكثير من الدول التي تشابه حالنا وتتمتع بهذا التنوع الابداعي وتفخر به. فعلى سبيل المثال، وبحسب ظني المتواضع، ليس هناك ما يسمى بالأغنية الأمريكية المعرفة بالالف واللام حصرا على لونية واحدة، بل على العكس، هناك العديد من الالوان الموسيقية المختلفة والتي تجد حظها كاملا في التعبير عن نفسها وتمارس المنافسة فيما بينها: فكل لونية غنائية هناك إنما هي وجه من الوجوه المتعددة للأغنية الأمريكية: فهناك الجاز والبلوز والسول والروك آند رول بلونياته المختلفة، والكنتري والرآب والهب هوب .. الخ من اللونيات المتعددة، بينما في السودان، تعمل آلة الدولة على تنصيب أغنية أمدرمان دون غيرها من عديد اللونيات التي يزخر بها الوطن، وتجتهد في إقصائها ومحاصرة انتشارها، وفي أحسن الاحوال يتم اقتباس بعض ايقاعاتها أو توليف الحانها بما يتناسب والمزاج السائد في المركز، من موقع تمثل الذات للآخر. فسياسة تمثل الذات للاخر كانت وما زالت هي النهج السائد في علاقة الثقافة المهيمنة بالاقليات التي تتشارك هذا الوطن. وهي سياسة تسعى عمدا لتقليص الآخر، والعمل على ذوبانه، بكافة أساليب الاستيعاب، القسري منها والناعم، وتحويله الى ظل أو صدى للمركز، وهي سياسة تبنتها نخب الاستقلال بغرض توحيد الهوية السودانية كما كانت تعتقد على عناصر الدين واللغة والوجدان. وهو افتراض يعكس بشكل ما “استحقاقا مستبطنا”، في ترجمة بتصرف لمصطلح المفكر (رولان بارت)، استحقاقا، ترى فيه الصفوة من برجوازية الجماعة المهيمنة أنها الوطن والوطن هي، في كل ما يصدر عنها من سلوك وقيم، ومن هنا يمكن تفهم الظروف التي تم فيها تبني أغنية أمدرمان وتطبيعها كأغنية لعموم السودان، بفضل توظيف كافة أجهزة الدولة للقيام بهذه المهمة، خصوصا الاجهزة الاعلامية المحتكرة للدولة من اذاعة وتلفزيون.

ختاما، وغني عن القول، لا تسعى هذه المقالة إلى نصب المشانق لأغنية أمدرمان، أو تدعو لالغائها من الذاكرة الجمعية التي اغتنت بروائعها الخالدة، بقدر ما أنها تسعى لتفكيك الشق الايديولوجي السياسي الذي أحالها الى مجرد وسيلة لاستيعاب الآخر والغاء حقه الاصيل في التعبير عن مكنوناته الثقافية والجمالية واللغوية والعقيدية. فالغرض الحقيقي من المقالة هو إعادة النظر مجددا في الكثير مما نظنه ثوابت وبداهات، وتفكيك علائق القوى التي تستند عليها، وذلك في محاولة لإعادة الاعتبار لهذه الثقافات والعمل مستقبلا لتشجيعها في التعبير عن نفسها، جماليا وثقافيا، أصالة عن نفسها دون وساطة أو تزيد من المركز، طالما نحن بصدد بناء وطن يسع الجميع ويقر بالتعدد ويعمل على صيانته والحض عليه.

Footnotes

Abusabib, M., 2001. Back to Mangu Zambiri: Art, politics and identity in northern Sudan. New Political Science23(1)

Kolk, M., 2009. Performing gender in Arabic/African theatre.

Malik, S.I., 2011. Inside the lives of three Sudanese women performers: negotiating gender, the media and culture. Media, Culture & Society33(2), pp.275-288.

Sidanius, J. and Pratto, F., 2004. Social dominance theory: A new synthesis.

Sharkey, H.J., 2008. Arab identity and ideology in Sudan: The politics of language, ethnicity, and race. African Affairs107(426), pp.21-43.

Al-Fatih al-Tahir, Ana Umdurman: Tarikh al-Musiqa . al-Sudan (Khartoum: al-Nashir al-Maktabi, 1993), in Abusabib, M. (2001).

Juma Jabir’, Al-Musiqa al-Sudaniyya: Tarikh, Turath, Huwiyya, Naqd (Sudanese Music: History, Legacy, Identity, and Critique) (Khartoum: Sharikat al-Farabi, 1986) in Abusabib, M. (2001).

زر الذهاب إلى الأعلى