ثمار

منطقة الصفر

تقديم : عادل القصاص

أحمد شريف، الذي رحل عنَّا جسدياً في شهر مايو المنصرم، هو الشقيق الأصغر لفقيدنا، شاعر الشعب، محجوب شريف.

كان أحمد يتميز بحساسية إبداعية-أدبية رفيعة وعين نقدية-أدبية نافذة. فقد كان – على قلة إنتاجه – قصَّاصاً بارعاً. فالقصتان القصيرتان اللتان قرأتهما له كانتا مشغولتين بالعوالم الداخلية للانسان، لاسيَّما العزلة بما تتضمَّنه من مكابداتٍ وجدانية، عاطفية ونفسية للفرد في عالمٍ (خارجيٍّ) ذي فظاظةٍ وقسوةٍ مُرَكَّبتَن. وفي هذه القِصَّة، التي تلي هذا التقديم المضغوط، ما يقف دليلًا على ذلك.

تخرَّج أحمد شريف في معهد الموسيقى والمسرح، قسم المسرح، شعبة النقد. وكان محتوى الدراسة التي تخرَّج بها – لو لم تخُنِّي الذاكرة: “الواقعية في الدراما الإذاعية لحمدنا الله عبد القادر”.

تميَّزت الدفعة التى انخرط فيها أحمد في معهد الموسيقى والمسرح بأنَّ جُلَّ منسوبيها كانوا على علاقة بالفضاء الثقافي العام؛ فقد كانوا فاعلين في المشهد الثقافي والإبداعي كشعراء أو قصَّاصين أو دراميين أو نُقَّاد؛ منهم – على سبيل المثال – جلال البلَّال، يحيى فضل الله، حياة طلسم، السر السَّيِّد وسلمى الشيخ سلامة.

نشر أحمد المقال الصحفي حين عمل صحفياً فى بعض الجرائد المحلية.                                  (عادل القصاص)                   

 

(1)

بغباء وعصبية حادين – يعرف جيداً مصدرهما – أوشك أن يقذف حذاءه على حمامة دخلت حجرته ولكنه تراجع فجأة حين رأى الحمامة وقد شرعت تلتقط من على الأرض فتات الخبز وحبوب الفول الصغيرة المتبقيين من الليلة الماضية. تصلب في مكانه بشكل مضحك ولكنه كان قد فقد القدرة على الابتسام ثم أنزل الحذاء برفق إلى جواره في الفراش وبدأ يعود إلى حاله الأول في بطء كالمريض حتى تمدد تمامًا ودون أن يحرك ساكناً خوفاً أن تطير الحمامة بعيدًا وتتركه وحيداً  فكان ذلك من أبرز النجاحات التي حققها في الفترة الأخيرة.

(2)

بقيت الحمامة في الحجرة وأخذت تدور في أنحائها بينما ظل هو يراقبها بعينين امتزج فيهما حنين مبهم وحذر خائف من الوحشة.

كان يراها تبتلع حبوب الفول الصغيرة دفعة واحدة وتفتت قطع الخبز الكبيرة إلى قطع أصغر وأحيانا كانت تجد النمل عالقا بها فيقشعر جسدها وتغمض عينيها ثم تنفض منقارها بشكل مؤلم. في البدء بدت له الحمامة كبنت خالة مسؤولة وحنون فكان يسمعها تغمغم بوقار كأنما تنعي له همته القديمة المفقودة حتى أنه أحس حاجة ملحة إلى القوة فرأى أن يبعد الذكرى وكانت الحمامة تتحرك برشاقة ولطف جذابين فبدت له هذه المرة كعروس صغيرة تعيد ترتيب حجرتها فانحاز إليها وتعاطف معها وقرر أن الحمامة أكثر جدارة من النمل في أداء مهمتها التطوعية تلك، وعلى امتداد لحظات الود القلق صارت أرض الحجرة نظيفة وخالية تماما من بقايا الليلة الماضية وبعدها طارت العروس الصغيرة بعيدًا وتركته وحيدًا فكان يسمع تصفيق جناحيها يتلاشى ويذوب في صمت ذلك النهار.

(3)

سمع جلبة في الباب الخارجي ثم تلا ذلك صوت ضربات كعب حذاء نسائي على الأرض فخفق قلبه بشدة وتقدم إلى باب الحجرة ولكنه كان قد فقد القدرة على الابتسام حين رأى عنزاً تدخل البيت ولحسن حظه أن عصبيته وغباءه كانا قد غادراه مع الحمامة فتولت العنز نظافة فناء الدار الخالي من الأشجار ووقف هو إلى جوار باب الحجرة يراقب في حيرة مؤلمة. وحين انتهت العنز من أداء مهمتها التطوعية وهمت بالرحيل مشى خلفها برفق واحترام تمامًا كما كان يفعل مع ضيف عزيز في الزمن القديم وكان قلبه يلتقط وقع ضربات أقدامها على الأرض حتى تجاوز معها عتبة الباب.

زر الذهاب إلى الأعلى